لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالقرآن
أجلت في الفصل السادس الذي يعالج النظر والعقد وما بعده مسألة العلاقة بينهما لتكون مدخلا إلى المسألة الاخيرة من البحث أعني العمل والشرع وما بعده وهما الفرعان الواصلان بين الطبيعة وما بعدها والتاريخ وما بعده وأصل الفروع الاربعة أعني ما بعد الأخلاق اصلا رئيسا لها جميعا.
ولابد هنا من شرح هذا الترتيب الذي اتبعته والذي هو عكس مسار الوعي بهذه المسائل في الفكر الإنساني: ذلك أن الإنسان الباحث ينطلق من العمل والشرع في العلاقة الأفقية بين البشر ليتجاوزها على النظر والعقد في العلاقة العمودية بينهم وبين الطبيعة وحينها يطلب أساسا لمساره ولمحطاته.
فيصل إلى ما بدأنا به أعني ما بعد الاخلاق موضوعا عقديا أولا ثم موضوع تحليل لتبين المحتوى والمعنى دون زعم تأسيس ما هو أساس كل ما عداه. ومن هنا تأتي قضية العلاقة بين النظر والعقد. وكلاهما يعتبرهما القرآن فطريين من حيث الطبيعة حتى وإنا كانا مكتسبين من حيث الآلة أو العلوم المساعدة.
والقصد بالفطريين من حيث الطبيعة هو أن الإنسان يعتقد ويسأل فيشك وكل ما يصفه القرآن من نقاط ضعف في الإنسان لم تمنع القرآن نفسه من نسبة أعلى المنازل الوجودية للإنسان ومن ثم فصفات الأنسان على ما يبدو فيها من توبيخ دائم له صفات محمودة لأنها تمثل عين هشاشة حياته وعنفوانها في آن.
وليس بالصدفة أن كان طفل الإنسان ذكرا أو انثى أكثر المواليد هشاشة وأكثرهم مسألة. فمهما كان صبر الاب والام لم أر في حياتي أبا أو أما لم يعل صبره من كثرة السؤال والمساءلة من أبنائه وخاصة قبل بلوغ سن الرشد. وهذا هو الفطري وجوهر الفكر الإنساني: ويكون مع الذات أساسا للفهم والحقيقة.
وليس بالصدفة كذلك أن جل الأسئلة جوابها هو كونها أمرا واقعا لا تعليل له وهي الحقائق الوحيدة التي لا مفر منها والتي لا يمكن لأي إنسان الا يتحير من كونها أمرا واقعا ليس بيده حيلة أمامها: وأولها ذات الإنسان فهو لا يستطيع الا يريد وألا يعلم وألا يقدر وألا يحيا وألا يوجد.
لكنه يعلم أن هذه الافعال إمكانات لا تحصل بذاتها بل لا بد فيها من نظر وعقد ومن عمل وشرع تكون في البداية انفعالات يخضع لها ثم يشرع في التحرر منها بأن يختار ما يريد وينظر ليعلم ويفعل ليعمل ويسهم في التشريع ليكون حرا في جماعة هي الوسيط بينه وبين العالم في سد حاجاته كلها.
لكن أكثر الاسئلة مرارة جوابها بالأمر الواقع الذي لا تفسير له هو أن المرء يشعر أنه لم يكن ثم أصبح وكان ثم لن يبقى أعني الوعي بالحياة وبالموت. سؤالان لا جواب عنهما لأن كلى الجوابين لا يقبلهما الإنسان طوعا بل كرها: اعتقاد ما تعتقده جماعته أو التسليم بواقع الامر أي انعدام التعليل.
وأعوص المشاكل في النظر والعقد وفي العمل والشرع هي أنه لا شيء من أفعال الإنسان إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا بقابلة للشروع في الفعل من دون خمس عقائد حتمية:
أني موجود
أني عضو في جماعة
أن الجماعة حولها عالم ذو مكان وزمان هو شرط وجودها
وأن أفعالي مقيدة بعلاقات ثابتة بما سبق
وأخيرا وهذه هي وضعية الإنسان الوجودية التي هي امر واقع لا تعليل له غير وقوعه وليس للإنسان مفر منه إلا إلى ما يضعه خارجه من عالم آخر مثالي يمكن أن يحرره منه ولذلك فهو يعتبره شرط هذا العالم المحدود الدي يشعر أي إنسان ذو وجدان أنه سجين فيه مثله مثل الدود من تراب وإلى تراب.
ولهذه العلة فالعقد نوعان: إما هذا أو نقيضه أي الإلحاد. وقد يتوهم الملحد أنه تخلص مما يتصوره وهما إنسانيا ومهربا من العالم السجن. كل ما في الأمر هو يائس من امكانية الخروج من السجن. فهو من جنس المحكوم بالمؤبد. القبول بسلطان العالم ليس عقلا بل هو إيمان أقل عقلانية من أمل التحرر.
وكل هذه الحقائق التي هي من جنس الأمر الواقع ليس عقائد غفلة بل هي ما ليس للنظر عليها سبيل: هي ما ينتهي إليه النظر ليكتشف عجزه عن الجواب فتكون العقائد حلولا وجودية لما ليس له جواب من الأسئلة الوجودية. لكنها حلول لا يستطيع الإنسان الرضا بها فيبقى في حيرته التي لانهاية لها.
ولذلك فالإيمان رهان حر على خيار وجودي لا يمكن أن يخلو من الشك والحيرة. ذلك أنه حتى خرافة إيمان العجائز فهي كذبة: لم أر في حياتي عجوزا ليست مذهولة من رؤية أحد أبنائها يوارى التراب. صحيح أنها ترفع كفيها بالدعاء. لكن قلبها يحترق من الفقدان وخاصة إذا كان حفيدا غضا.
ولا يوجد انسان مهما كان تقيا لا يسائل الله نفسه عما يراه ويشكو منه من ظلم في عالم البشر. ويصبر ليس مخيرا بل مضطرا. وهذا من صفات الإنسان التي لا يتوقف القرآن عن الكلام فيها وعليها. وهذه الاسئلة من موضوع ما بعد الأخلاق بوصفه حوارا مباشرا بين الله والإنسان قطبي المعادلة الوجودية.
والمعادلة الوجودية لها قطبان الله والإنسان وبينهما علاقة مباشرة هي ما بعد الاخلاق (ولبه الميثاق) وعلاقة غير مباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ. والتوسط هو موضوع الفروع الاربعة لما بعد الاخلاق: الطبيعة وما بعدها والتاريخ وما بعده وما بعدهما هو مجال بحث النظر والعقد والعمل والشرع.
ولنأخذ مثالا بسيطا: هل يمكنني أن أعلم قوانين الطبيعة دون تسليم بوجودها؟ وبكونها ذات نظام له قوانين؟ وبكوني قادر على اكتشافها؟ وبأن اكتشافي لها ليس من خيالي وإلا لكنت أنا من يحرك الأفلاك وليس القوانين التي اكتشفتها بأبداع رياضي مطبق على تجربة فعلية ؟العقد شرط النظر لا ضديده.
وهل يمكنني أن ادعي القدرة على البحث في الطبيعة وقوانينها دون العمل والشرع؟ هل البحث العلمي ممكن للفرد إذا لم يكن حاصلا على شرطين التعاون المتساوق(بين الباحث وغيره من معاصريه) والتعاون المتوالي(بين أجيال الإنسانية والحضارات)في مراكمة الخبرة والتجربة بنوعيها الموضوعية والآلية؟
ومراكمة الخبرة حول الموضوع وحول أدوات إدراكه الرمزية (الرياضيات مثلا) والتقنية (الأدوات التقنية التي تمكن الحواس من إدراك أقوى وأبعد وكلها تطبيقات للبصريات والسمعيات خاصة). وهذا الجهد ليس فرديا وليس حتى خاصا بحضارة دون أخرى بل هو ثمرة تراكم جهود البشرية كلها.
فتكون بينة الرسالة الهادفة إلى التذكير والتحذير بأخلاق البشير والنذير كالتالي:
ما بعد الاخلاق أو الميثاق بين الله والإنسان علاقة مباشرة تؤسس لما بعدها
العمل والشرع أو الجهاد لعلاج العلاقة الافقية بين البشر
النظر والعقد أو الاجتهاد لعلاج العلاقة العمودية بين البشر والطبيعة
ثم يأتي مجال العمل والشرع :
التاريخ وما بعده أي علاقته بما بعد الاخلاق . يليه أخيرا مجال النظر والعقد:
الطبيعة وما بعدها أي علاقتها بما بعد الاخلاق. ذلك هو مجال التذكري والتحذير اللذين لا يغنيان عن العمل والنظر شرطين في التعمير مجال اختبار أهلية الاستخلاف.
ولا يمكن أن أغفل عن كلام القرآن عن الرسول وسيرته وعن الامة ومعاركها وعن تاريخ الإنسانية في ما يماثل ما يقصه عن أمته لأن الأمر يتعلق برسالة وظيفتها تعليمية لما على الإنسان ألا ينساه ولهذه العلة اخترت شعارا للجلي في التفسير آيتين من الإسراء تحددان حقيقة القرآن والسنة في آن.
حقيقة الإنزال
وحقيقة المنزل
وطبيعة الرسالة
واسلوب تبليغها ووظيفة التعليم
وعلاقة الرسالة بأحداث التاريخ.
والآيتان لم تبقيا شيئا من القرآن لم تحيطا به وكان بالوسع الاكتفاء بشرحهما لبيان بنية القرآن طريقة إنزاله بالحق ومضمون المنزل حق وطبيعة الرسالة وتعليل التنجيم بضرورات التعليم وعلاقة المنزل بالأحداث التي نزل عليها تنزيلا حتى يكون القرآن في آن مساعدا على تحقيق العينة التاريخية.