القرآن، بنيته العميقة أو مشروع الرسالة الكوني – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله القرآن

وصلنا الآن إلى الفرع الاعسر من ما بعد الأخلاق فرع فلسفة التاريخ وما بعده. وكما رأينا في فلسفة الطبيعة وما بعدها كما يؤسسها القرآن حضور ما بعد الاخلاق بيّن لكل ذي بصيرة: فلا معنى لكلام الإنسان فيهما من دون علاقة مباشرة بينه  وبين من يؤمن  أنه مبدعهما: وهذا أساس تدبر القرآن.

ولا يعني ذلك ضرورة أن متدبره مؤمن به. فهذا موقف قضوي من قضايا القرآن إثباتا أو نفيا إيمانا أو عدم إيمان لكنه غير مضمونها الذي هو مجال بحثنا هنا واضعين بين قوسين قضية الإيمان وعدمه. لذلك فأهم ما فيه هذه المحاولة هو أنها تترك القرآن يتكلم على نفسه قدر المستطاع.

ومعنى ذلك أن فرضية العمل التي انطلقت منها في الجلي في التفسير هي اعتبار القرآن -كما هو في المصحف الشريف-كائن موضوعي وجزء من الآفاق والانفس يدرس بهذا المنظور الذي يبحث فيه عما يرينه الله من آياته فيه ويطالبنا بالبحث فيها لذاته وليس لطلب علم ما عداه من الموجودات إلا عرضا.

وقد وصفت هذا الفرع الثاني بكونه الأعسر لأنه يفترض شرطا للدخول إلى اسراره الفرع الاول ويفترض مثله ما بعد الأخلاق أصلا لهما كليهما وأصلا للنظر والعقد وللعمل والشرع أي للفروع الأربعة التي مع الأصل تكون مضمون القرآن الكريم من حيث هو تذكير المستخلف للخليفة وتحذيره بمقتضى بنود الميثاق.

وهذا المضمون موضوع معرفة بشروط العلاج العلمي لغير المؤمنين بالقرآن يضاف إليها عند المؤمن به التصديق بأنه كلام الله وليس من إبداع الرسول كما يدعي أدعياء الحداثة ممن يحاولون البحث عما يؤيد فكرة كونه توليفة ذكية من الرسول مستمدة من تراث عصره عند الامم السابقة على الإسلام.

والحقيقة أن القرآن نفسه عندما جعل حقيقة القرآن لا يتبينها الإنسان إلا من خلال ما يراه من آيات الله في الآفاق والأنفس يمكن أن يعلل شكوك من لا يؤمن بالوحي ونسبة ذلك إلى قدرة خارقة عند الرسول أهلته لأن يبدع توليفة نسقية من تراث عصره لينظم بها ثروة خلقية واجتماعية وسياسية فريدة .

وكان يمكن أن اصدق هذه الحكاية لولا أمرين يشككاني فيها دون أن يلغيا ما يعتورني مثل أي إنسان ايمانه حي من تساؤل عن طبيعة الوحي ما هي وهل تقتضي الكلام المباشر من الله أم أنه يسخر لها من يصطفيهم من عباده الأخيار للنطق بما يترجم عن إيحاء إبداعي بلغة قوم الرسول من جنس القرآن.

فأما الامر الأول فهو أن كل ما أوصلت إليه المحاولة كان في قطيعة تامة مع تراث عصره بل إن التراث الإنساني الحالي لم يصل بعد إلى ثورة الحريتين الروحية والسياسية لبناء عالم التاريخ وتحقيق شروط أهلية الإنسان للخلافة التي يكون حقا بمقتضاها أسمى الكائنات وفي علاقة مباشرة بمبدع الوجود.

وأكثر من ذلك القرآن يؤكد في الكثير من الآيات وخاصة في ثلاثة منها اثنتان تتكلمان على دينين منزلين ودين طبيعي والثالثة تضيف دينا طبيعيا ثانيا وحتى الشرك ويخصها جميعا إلى حكم نهائي يوم الدين في ما يتعلق بخلافاتهم العقدية حتى يضمن التعايش والتسابق في  الخيرات.

وكل هذه الشروط يعتبرها القرآن شرط البعد الخلقي من التاريخ وهي ما بعده لئلا ينكص إلى التاريخ الطبيعي فيصدق فيه راي الملائكة التي تعجبت من استخلافه وينجح ابليس (في القصة الرمزية) في بيان فشل الإنسان في تحقيق شروط أهليته للاستخلاف. تلك هي شروط  التاريخ الخلقي المتعالي على الطبيعي.

وهي شروط كونية متعالية على الثقافات والحضارات والقرآن يعتبرها مضمون الميثاق بمعنى أن الإسلام كما يحدده القرآن رغم ما فيه من نقد لتحريفات الرسالات السابقة يعتبرها جميعا محتوية على الديني في الأديان -الإسلام-ويتعامل معها بمبدإ التصديق والهيمنة ولا يفرضها بالكلية.

تلك هي علة رفضي كل ادعياء الخصوصية والحق في الاختلاف الفلسفي إلخ ..من القول الضمني بما بعد الحداثة التي تعتبر الحضارات محارات منغلقة والإنسان حبيسها فيصبح فاقدا لمقوم الإنسانية الكلي ولا يكون التنوع ثراء ومصدرا للتسابق في الخيرات بل مثل الحيوانات حروب على ثروات المعمورة.

وأما الأمر الثاني فهو تأسيس القانون الدولي في حالتي السلم والحرب. لذلك فكل من يتصور الفتوحات من جنس الاستعمار الغربي إما جاهل بالفرق بينهما أو متجاهل. هل المستعمر يدعو من يغزوهم إلى المساواة -حتى مبدئيا- بل هو يعتبرهم عبيدا؟ دعوة الفاتحين: اسلموا فيكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا.

وما هو المطلوب؟ أن يؤمنوا بالحريتين: أن لا يعبدوا العباد بل رب العباد. وهذا يعني الحرية الروحية  (لا وساطة) والحرية السياسية (لا وصاية): مجرد الإسلام يجعله أحرار من الوسطاء والأوصياء مثل غيرهم من المسلمين الفاتحين. شتّان بين هذا والبربرية المغولية الشرقية أو الغربية (الاستعمار).

والأدلة لا تحصى على صدق هذا التصور حتى وإن كانت بعض دول الإسلام بعد سيطرة حالة الطواري والانقلاب على الدستور لم تعمل بهذه الرؤية ولنذكر منها:

  1. الأديان والمذاهب المسيحية واليهودية والصابئية والمجوسية لم يبق لها وجود إلى عند المسلمين

  2. لم يقتل الإسلام اي لغة من لغات العالم

ومع ذلك لا أنكر أن التاريخ لا يجري دائما بمقتضى المبادئ بل هو مناوس بينها وبين وقائع الممارسة التي تصمد أمام محاولات تغيير الثقافات والتقاليد ومبدأ “هذا ما وجدنا عليه آباءنا”. والرسالة الخاتمة تذكر بهذه المبادئ وتبقى أصل الإنشداد الإنساني إلى حضور الله في وعي الإنسان وضميره.

وإذا كانت الطبيعة يغلب عليها مفهوم الآفاق بوصفها ما يحيط بالتاريخ والإنسان فإن التاريخ يغلب عليه مفهوم الأنفس. ولا ينبغي أن نفهم بالأنفس جمع نفس موضوعا لعلم النفس فحسب بل ما هو اعم بمعنى أنتم أنفسكم أو ذواتهم ببعديها البدني والنفسي انفسكم بمعنى: Vous mêmes وليس Vos âmes.

ثم إن النفس من حيث هي موضوع علم النفس جزء من البايولوجيا وهي مما في الإنسان من الحيوان وليس مما فيه من متجاوز للحيوانية ومؤسس لأهلية الاستخلاف: وما به يتجاوز الإنسان كيانه العضوي بدنيا ونفسيا هو صلته بما بعد الاخلاق أو الروح التي يردها القرآن إلى النفخ الإلهي في آدم.

التاريخ وما بعده يتجاوز الطبيعة وما بعدها في المفهوم القرآني بما يتجاوز به الإنسان الحيوان: فخلقه مختلف وتأهيله للإستخلاف مشروط بإضافة النفخ وتعليم الأسماء فضلا عن كونه لم يخلق بأمر كن بل على عين الله لكونه هو المعبد الاسمى في الوجود: الإنسان معبد بناه الله نفسه في رؤية القرآن.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي