القرآن، بنيته العميقة أو مشروع الرسالة الكوني – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله القرآن

الفصل الرابع لم يكف للكلام على فلسفة التاريخ وما بعده إذ هذا الفرع الثاني من ما بعد الاخلاق أعسر من الفرع الاول المتعلق بفلسفة الطبيعة وما بعدها. كلاهما مثلهما مثل فلسفة النظر والعقد وما بعدهما وفلسفة العمل والشرع وما بعدهما لا يفهم من دون العلاقة المباشرة المستخلف والخليفة.

وهذه العلاقة كما بيّنا يعتبرها القرآن علاقة تعاقدية بين حريتين أولاهما خالقة وآمرة للعالمين الطبيعي والتاريخي والثانية مستخلفة مستعمرة فيهما ومستخلفة لتمتحن أهليتها في التعامل مع الطبيعة شرط قيام والتاريخ شرط تحقق الإنسان لما يصله عموديا بالطبيعة وأفقيا بغيره من البشر.

وبذلك فقد حان أوان تعريف التاريخ وما بعده: فهو ما يحصل من فعل الإنسان النظري وتطبيقاته والعملي وتطبيقاته في هذين العلاقتين بين الجماعة والطبيعة (العلاقة الافقية) وبين الناس في الجماعة الواحدة وبين الجماعات في المعمورة: وتلك هي مهمة الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف ومثله.

وهو ما يقتضي التسليم بأن للإنسان إرادة حرة وعقلا مدركا وقدرة منجزة وحياة محددة للغايات الذوقية ووجود شامل لهذه الابعاد التي بها يعرف كيان الإنسان من حيث فاعل في التاريخ بالمعنيين المحققين لثمرات علاقته العمودية بالطبيعة والافقية بغيره من البشر لتوسط الثانية في الأولى.

فبفضل تقاسم العمل النظري والعملي وتطبيقاتهما ليس كل فرد ذا صلة أفقية بالطبيعة بل تكون هذه الصلة  فرض كفاية للعاملين على استخراج ثرواتها من أجل قيام الإنسان عضويا ونفسيا ومن ثم فالعلاقة الأفقية تتوسط بين الآخرين والطبيعة بفضل التعاون والتبادل والتواصل والتعاوض العادل.

لذلك فمثلما أن للطبيعة قوانين رياضية تجريبية فإن للتاريخ سننا سياسية تجريبية هي التي تنظم التعاون والتبادل والتواصل والتعاوض العادل إذا كانوا أحرارا وطبقوا الميثاق وكان الله حاضر معهم في كل حركاتهم سكناتهم حتى لا يكون التعاقد بينهم محكوما بالقانون الخلقي والحق لا الطبيعي والقوة.

وتوسط العلاقة الأفقية بين الإنسان والطبيعة يجعل العلاقة بالطبيعة علاقة غير مباشرة: فالتاريخ من مميزاته أن العلاقة الأفقية متقدمة فيه على العلاقة العمودية. وهو ما يعني أن الجماعة والتواصل والتبادل فيها يمكن اعتباره ظاهرة طبيعية في كيان الإنسان الذي لا يلتقي بالطبيعة إلا كجماعة.

وكون الإنسان لا يلتقي بالطبيعة إلا كجماعة (على الأقل الأسرة) يجعله سياسيا بالطبع. ومن ثم فلا يمكن فهم فلسفة التاريخ وما بعدها إلا بوصفها فلسفة سياسية تربية وحكما يتنظم حياة الجماعة في ما بينها وفي ما بينها وبين الطبيعة مصدرا لرزقها. لهذا كانت الاديان البدائية عبادة للطبيعة والآباء.

وقد بيّنا أن ثورة إبراهيم كانت تحرير البشرية من عبادة الطبيعة في ارقى تعبيراتها أي الفلك وكانت ثورة محمد تحرير البشرية من عبادة الآباء في أرقى تعبيراتها أي القبلية. والمعلوم أن اليهودية دين قبيلة رسولا ومرسل إليه والمسيحية رسولا مع تعميم المرسل إليه وكلاهما دون كونية الإسلام.

فالقرآن لا يتكلم على التاريخ إلا من خلال مقارنة سلوك البشر مع مقتضيات الميثاق وهو إذن تاريخ ذو مرجعية ميثاقية تتعلق بما سميناه ما بعد الاخلاق. وهو مثل اي تاريخ وضعي في ما عدا البعد الميثاقي يتحدد بأفعال البشر علما وعملا لتحقيق شروط العلاقتين العمودية والافقية شرطي قيام البشر.

وبهذا المعنى فالتاريخ هو تاريخ الانتاجين المادي والرمزي أو الاقتصاد والثقافة وما يقتضيانه من تنظيم سياسي ومن أدوات علمية وعملية لسد الحاجات بالتعاون والتبادل والتواصل وللأنس بالعشير بلغة ابن خلدون: والتعاون لسد الحاجات هو العمران البشري والتواصل للأنس هو الاجتماع الإنساني.

ولا عجب إذن أن تجد ابن خلدون يتكلم على الاستخلاف في الباب الخامس  المتعلق بالإنتاج الاقتصادي وعنه في الفصل السادس المتعلق بالإنتاج الثقافي أي بشرطي الوجود الإنسان أو بالعلاقتين العمودية (الانتاج المادي)  والافقية الإنتاج الثقافي والثاني شرط الاول لأنه يكون الإنسان فيه.

ولهذه العلة أعاد النظر في مفهوم التاريخ الذي جعله غير مقصور على الأسر الحاكمة بل جعله يدرس ابعاده الخمسة التي تتألف منها المقدمة والتي يؤسسها الباب الأول الذي هو درس للعلاقتين: العمودية (الجغرافيا والمناخ) والأفقية (التواصل مع ما يتعالى على التاريخ).وتفاعلهما ثروة وتراثا.

وما كانت ثورة ابن خلدون في فلسفة العمل والشرع تكون ممكنة لو لم يتقدم  عليه ثروة ابن تيمية في فلسفة النظر والعقد: فالقول بأن نظرية المطابقة في المعرفة وهم وأن كل علم وراءه علم أتم دون احاطة وأن الأعيان في الخارج مشروط بالمقدرات الذهنية والتجريبية هو بداية الاستئناف الفعلية.

لكن الثورتين النظرية والعقدية والعملية والشرعية بقيتا حبرا على ورق بل إن صاحبيهما قد حوربا بسبب عدم فهم محاولتي الخروج من حالة الطوارئ التي عطلت الدستورين في التربية والحكم وابقت على إلغاء الحريتين الروحية(ثورة النظر والتربية) السياسية (ثورة العمل والحكم) إلى ثورة الشباب بجنسيه.

لذلك فبوسعي أن أقول إن الامة عادت لدورها ذاتا فاعلة في التاريخ بمقتضى رؤاها المرجعية حتى  وإن كانت هذه العودة ما تزال متعثرة وحابية كأنها طفل يتعلم المشي. ومن حسن الحظ أن كل أعدائها فضحتهم الثورة وآخر من افتضح من يدعي محالفة إسرائيل لمقاومة إيران في حين أنه حليفهما ضد الثورة.

فليس صحيح أن حلف الرابوع المعادي لتركيا وقطر اللذين يؤيدان الثورة بما  يستطيعان همه تغول إيران وحلفه مع إسرائيل هدفه التصدي لهذا التغول بل هو  مثله مثل إيران وإسرائيل يخاف الثورة ويعلم أن فجر الاستئناف بزغ وأن كل  الانظمة العميلة لم يبق لها أدنى شرعية للبقاء.

صحيح ان الامة ما تزال في فوضى وحرب أهلية لكنها فوضاها لم تعد كما كانت  خالية من مشروع يحرك طموح الشباب بجنسيه لفرض رؤى قد لا تكون واعية بكونها  بالجوهر هي رؤى الإسلام عندما نحرره من الانقلابين فتستعيد الامة الحريتين  الروحية والسياسية شرطي سيادة الامة وعزة الإسلام.

الرابوع العربي (السعودية ومصر والإمارات والبحرين) وإيران وإسرائيل كلهم متحالفون ضد الثورة وضد من يؤيدها من العرب والأتراك لأنهم يشعرون ان ما يجري حاليا في بلاد الإسلام يشبه إلى حد كبير عصر الثورات في أوروبا بين نهاية الثامن عشر ومنتصف التاسع عشر.

ولا أحد منهم يجهل أن الثورة يمكن أن تهزم ماديا -عسكريا وماليا-لكنها هي المنتصرة رمزيا وروحيا لأنها ربحت قلوب الشعوب وذلك ما يخشاه نظام الملالي حتى في بلاده ونظام الحاخامات حتى في الغرب ونظام القبائل والعساكر في بلاد العرب: كلهم يعلمون أن عصرهم انتهى.

وإذا كانت تونس هي البداية فإن سوريا هي الغاية: شباب سوريا ومن ساعده من العرب والمسلمين صمد سبع سنوات ولا يزال ضد إيران ومليشياتها ماديا والتغطية الصهيونية للثورة المضادة رمزيا وإعلاميا وإسكاتا للضمير العالمي والمساندة الروسية والامريكية وتمويل عملاء العرب فهذا نصر لا يقدر.

ومن المؤيدات الإلهية لما أتوقعه من نجاح حاسم للثورة أمران: الأول هو أزمة أسعار البترول التي ستجبر الخونة على شد الحزام ما سيحرك شعوبهم للمطالبة بحقوقها إذ لا تطلب منها دفع كلفة حكم غبي دون محاسبة والثاني حمق حكام أمريكا وإسرائيل. فالعالم عيل صبره من جرائمهما.

عادت الامة لدورها التاريخي الكوني بفاعلية الشعوب وليس النخب  التي يسهل شراؤها وخاصة مليشيات القلم من مرتزقة الأعلام والتحليل المزيف والخبراء المزيفين الذي يزينون للعملاء من الحكام ما يعميهم عن الهاوية مآلا محتوما خاصة وقد أصبح الحكم عبث أغرار من الأميين.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي