لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالقرآن
من يقرأ القرآن بتدبر يدرك أن كلامه على الرسالة الخاتمة مشروط بمراحل تحقق شروط الختم في مراحل أربع سبقتها هي مضمون سورة هود وما يحيط بها قبله (آدم الأول: آدم) وبعده (آدم الثاني: عيسى) والصوغ النهائي لمضمون الرسالة بين الإبراهيمين: ابراهيم ومحمد.
وهذه المراحل أو الحقب الكبرى لتاريخ الإنسانية الروحي والسياسي تعين مابعد الأخلاق المؤسس للمعادلة الوجودية بقطبيها (الله الإنسان) وبوسطيها(الطبيعة والتاريخ) وبما يصل بين هذه المقومات (الرسالة تذكيرا وتحذيرا واجتهاد الإنسان وجهاده) تحقيقا للأمانة في الحياة الدنيا: تعميرا واستخلافا.
فرسالة إبراهيم تحرر الإنسان من الغرق في مجرى الطبيعة وكأنه مجرد عبد لتحكم قوانين الطبيعة غذاء وجنسا ليس له ما يجعله يتعالى على الأوافل الطبيعية في أسمى تعيناتها (عبادة الافلاك) ورسالة محمد تحرره من الغرف في مجرى التاريخ وكأنه مجرد عبد لتحكم إرادة الطغاة تربية وحكما.
وبهذه العلاقات تنكشف مباشرة دلالة سلسلة الرسالات التي تتضمنها سورة هود: فنوح رمز التخلص من سلطان الطبيعة وعبوديتها وموسى رمز التخلص من سلطان السياسة وعبوديتها.والتركيز القرآني على التحرر من استبداد السياسة يبين أنه شرط التحرر من استبداد الطبيعة: علة ثنائية رسالتي ابراهيم ومحمد.
والعلاقة بين آدم وعيسى وبين إبراهيم ومحمد تضع الازواج التي تبين معنى المراحل الخمس التي مر بها نضوج البشرية لتلقي الرسالة الخاتمة. وفي سورة هود نفهم التحرر من العبوديتين للطبيعة (نوح) بالعلاج السياسي (موسى) ولأداتهما الاقتصادية(هود) بالعدل شرط التعاوض والتضامن الاجتماعيين(شعيب).
ولأداتهما المتعلقة بمقوم الحياة الاول أو تنظيم توزيع الماء (صالح) وبمقوم الحياة الثاني أو تنظيم الجنس (لوط) وبين المشكل وحله نجد إبراهيم الذي تلقى البشارتين: بشارة مشكل الحياة بين صالح ولوط وبشارة انقاذ الإنسانية من الطاغوتين الطبيعي والسياسي: البشرية ليست عاقرا فستنجب الخاتم.
والخاتم يعود إلى الكلمات التي تلقاها آدم فأتمهن فعفا عنه ربه واجتباه ليخوض الاختبار الاكبر: أمانة التعمير والاستخلاف المتحرر من العقد والتأويلات التي حرفت الرسالات السماوية كما يعرضها القرآن الكريم بمنطق الحريتين الروحية (لا وساطة) والسياسية (لا وصاية):الوساطة والوصاية سر كل تحريف.
وليس في ما نستخرجه من سورة هود أدنى تأويل باطني: ذلك أن تكليف نوح بأخذ زوجين من كل شيء يعني أن الإنسانية لن تبقى تحت رحمة الطبيعة بل هي ستستنبت هذه الازواج لتصبح كما في الزراعة ثمرة لعلم الإنسان وعمله. والشرط تحرير الإنسان روحيا وسياسيا تربية وحكما ليصبح محققا لشروط قيامه بذاته.
ومن ثم فالتحرر من عبودية الإنسان للطبيعة (نوح) وللإنسان (موسى) هما شرط مسؤولية الإنسان عما يجري في التاريخ موضوع التكليف. وهما تحريران جوهريان في الرسالة الخاتمة: حضور نوح وموسى في القرآن لا تخفى عن أي متدبر للقرآن. والتحرر من الطبيعة يقتضي سياسة اقتصادية اجتماعية لمقومات الحياة.
لذلك كان المشكل الثاني هو الاقتصاد بين هود (المشكل) وشعيب (الحل بالعدل شرط المعاملات والتضامن) يليه المشل الثالث توزيع الماء (صالح) وتنظيم العلاقات الجنسية (لوط). ولست أدري كيف يمكن لمثل هذه الحقائق أن تغيب عن البال رغم وجود إبراهيم بين وضع المشاكل وحلها ورغم مخاطبة محمد بذلك.
ولا يوجد في القرآن من قضايا مابعد خلقية ينتظم بها فعل الإنسان لتحقيق شروط قيامه بوصفه كائنا حرا روحيا وسياسيا غير هذه القضايا الخمس التي ذكرناها: دور إبراهيم ودور محمد في تحرير الإنسان من عبودية الطبيعة وعبودية السياسة بحلول تعتمد على الحريتين الروحية والسياسية.
ولا معنى للختم من دون أن تكون مبنية على رسالة كونية تحفظ الديني في كل الأديان وتوحد البشرية حول مفهوم الاخوة (النساء 1) ومفهوم المفاضلة المقتصرة على التقوى (احترام القانون) وتحرر الإنسان من التمييز بالدين أو بالعرق أو بالجنس بفضل منطق التعارف بدل منطق التناكر.
وبهذا الفهم لجوهر الرسالة الخاتمة يمكن تحقيق الهدفين الضروريين لشهادة الأمة على البشرية:
التحرر من الانقلابين اللذين نتجا عن الفتنة الكبرى والتي اضطرت المسلمين إلى قلب العلاقة بين الدستور القرآني والقوانين الاستثنائية التي فرضتها حالة الطواري خلال الحروب الاهلية الإسلامية.
والهدف الثاني: العودة إلى الإسلام بوصفه كما عرف نفسه الديني في كل دين والمكلف بالتصديق والهيمنة المشرط بأصلين ثابتين في القرآن:
علم الحقيقة الدينية بين الأديان الخمسة والإسلام (اليهود والنصارى والصابئة والمجوس وحتى المشركين)مؤجل ليوم الدين
التعدد شرط التسابق في الخيرات
هذا هو جوهر ما بعد الاخلاق بوصفه علاقة بين الله والإنسان متحررة من الطاغوتين: طاغوت الوسطاء (التربية الكنسية) وطاغوت الأوصياء (الحكم العنيف): وقد اعتبر ابن خلدون التربية والحكم العنيفين علة لفساد معاني الإنسانية. فهي ثمرة للحرية الروحية وللحرية السياسية شرط المسؤولية الخلقية.
وما بعد الاخلاق بهذا المعنى هي المؤسسة للذات الخلقية ولفروع ما بعد الأخلاق الأربعة:
اثنان في مجالات فعل الإنسان أي الطبيعة وما بعدها والتاريخ وما بعده وصلا بينهما وبين ما يجعلهما شارطين لوجود الإنسان.
واثنان في فعل الإنسان أي النظروالعقد وما بعده والعمل والشرع وما بعده وهما مجال الاختبار.
والقرآن جمع هذه المسؤولية واعتبرها شرط الاستثناء من الخسر في سورة العصر: أي الإيمان والعمل الصالح معيارا لحرية الذات ومسؤوليتها والتواصي بالحق والتواصي بالصبر معيارا لحرية الجماعة ومسؤوليتها. وبهما يكون الإنسان ذاتا فاعلة في الطبيعة والتاريخ للتعمير بقيم الاستخلاف.
وما بعد الاخلاق بوصفه ميثاقا أو عقدا مباشرا بين الإنسان وربه يشمل مقومات الذات الحرة النسبية والمطلقة: فالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود مقومات نسبية للذات الإنسانية الحرة ومقومات مطلقة للذات الأهلية الحرة. والتعاقد لا يكون إلا بين ذاتين حرتين ومضمون العقد هو الاستخلاف.
وقد يظن القارئ المتعجل أن هذا تأويل تحكمي من أبي يعرب: لكن القرآن نفسه هو الذي يفرض هذا الفهم: فبم يستدل القرآن على وجود الله ؟ وعلى وحدته؟ وحتى إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده؟ أليس النظر في نظام الطبيعة ونظام التاريخ ؟ من ينكر ذلك لم يتدبر القرآن ببصيرة.
من يتصور ما أقدمه هنا من تحكمي لا بد أن يستنتج أنه أعلم من الله بما يذكر به في قرآنه: القرآن لا يستدل بتفسير آيات القرآن بما هي نصوص فيه بل هو يدعو إلى تأمل نظام الطبيعة ويعلمنا بأنه نظام رياضي. ويدعو إلى تأمل التاريخ ويعلمنا بأنه نظام سياسي ذو سنن لا تتبدل ولا تتحول.
ومن التحريف أن نبحث عن هذه القوانين والسنن في القرآن وهو نفسه يوجهنا إلى البحث عنها في آياته التي يرينها في الآفاق والانفس كما يفعل في كل استدلالاته. لذلك فكل من ترك الآفاق والأنفس وذهب إلى طلبها من دلالات الألفاظ محرف للقرآن وهو علة تخلف الامة ورضاها بالتشقيق اللساني.
لم يبق إلا أن ندرس الفروع الاربعة أي:
فلسفة الطبيعة وما بعدها
وفلسفة النظر الرياضي التجريبي وما بعده
وفلسفة التاريخ وما بعده وفلسفة العمل السياسي التجريبي وما بعده.
وتلك هي المهام الفرعية من الأخلاق وما بعدها أصلا لها جميعا في رؤية القرآن الكريم أي مضمون الرسالة الخاتمة.