لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالقرآن
وصلنا إلى غاية البحث: العمل والشرع وما بعدهما الواصل بينهما وبين ما بعد الاخلاق. فالعمل والشرع موضوعه التاريخ بوصفه افعال الإنسان لعلاج ما يعترضه من إشكالات في علاقة البشر بعضهم بالبعض (الافقية وثمرتها التراث بكل أصنافه) وفي علاقتهم بالطبيعة (العمودية وثمرتها الثروة بكل اصنافها).
وليس القصد بالشرع المفهوم التقليدي الذي يرده إلى الشريعة كما صاغتها مرحلة الانقلاب الدستوري الذي قلب العلاقة بين القوانين الاستثنائية بعد تعطيل الدستور وفرض حالة الطوارئ بعد الفتنة الكبرى والحروب الاهلية (من الخلافة إلى الملك العضوض) بل القيم التي يستمد منها القانون شرعيته.
وفي هذه الحالة تزول المقابلة بين شرع ينسب إلى الله وشرع ينسب إلى الإنسان: الشرع هو ما به يكون القانون شرعيا سواء نسبناه إلى الله أو الى الإنسان لأن شرعية القانون لا تستمد من المشرع عامة بل من شرعيته التي تحددها الحريتان في القرآن: فأمر الحر المسؤول الوحيد عليه هو الحر.
والحر سياسيا مستحيل إذا لم يكن حرا روحيا: بمعنى أنه من كان خاضعا لوساطة روحية بينه وبين ربه لا يمكن ألا يكون خاضعا لوصاية بينه وبين أمره. وهذان الشرطان هما اساس العمل والشرع وهما ما بعده المؤسس له والواصل بينه وبين مابعد الاخلاق أو العلاقة المباشرة بينه وبين ربه.
المستجيب للرب (أي الإنسان بصرف النظر عن الفروق بين الأديان وإلا لكان الكلام عن المستجيب لله)
علامته إقامة الصلاة عامة وليس صلاة مخصوصة بحسب الاديان المختلفة
والدليل أن الآية لم تذكر الرديف للصلاة باسمه الإسلامي (الزكاة) بل الإنفاق من الرزق
وبين الاستجابة للرب المباشرة والانفاق من الرزق حددت الآية طبيعة النظام السياسي (أمر الجماعة) وأسلوب الحكم (شورى بين الجماعة). بالاصطلاح المعروف لأنظمة الحكم أمر الجماعة يعني “راس بوبليكا” أي جمهورية ولأسلوب الحكم شورى يبنهم يعني “ديموقراسيا” أي حكم الشعب لنفسه بنفسه.
فيكون المجموع بين طبيعة النظام وأسلوب الحكم: جمهورية ديموقراطية أو نظام الحكم الذي السلطان فيه للجماعة التي تديره بالتشاور في ما بينها. ويبقى تنظيم ذلك للاجتهاد المتدرج في تجريب التحقيق القانوني والمؤسسي. وقد وصلت الأحكام السلطانية إلى تنظيمات متقدمة جدا لكنها بقيت حبرا على ورق.
واقتصرت الآية على ذكر رهانين لإشكالية العمل والشرع هما: الرهان الروحي التعبدي (الاستجابة للرب) والرهان الاقتصادي الاجتماعي (الإنفاق من الرزق): وهما جوهر الثورة الإسلامية وأولهما يرمز إلى لب ما بعد الاخلاق والثاني يرمز إلى لب ما بعد السياسة: حياة الإنسان الروحية وحياته المادية.
فإذا كانت السلطة شرعية- بمعنى أنها ممثلة لإرادة الجماعة الحرة- كان لها حق التشريع بمراعاة هدين البعدين الروحي والاجتماعي لتوفير البيئة الضرورية التي تمكن التربية والحكم من تكوين الإنسان وإنتاج تموينه المادي (الاقتصاد)والروحي (الثقافة) حتى يحقق مقومي ذاته: كمستعمر في الارض ومستخلف.
وإذا كان هذا هو مفهوم الشرع فما هو مفهوم العمل؟ إنه الاجتهاد للإبداع النظري وتطبيقاته الممكنين من حل مشكلات العلاقة ببين البشر والطبيعة والجهاد للإبداع العملي وتطبيقاته الممكنين من حل مشكلات العلاقة بين البشر. ومن ثم ففلسفة التاريخ القرآنية هي الاجتهاد والجهاد للتعمير والاستخلاف.
ولهذه العلة كان النقد القرآني للتجارب البشرية مع الرسالات السابقة بمنطق التصديق والهيمنة يتعلق بشروط الخروج من الخسر: فالحرية الروحية هدفها تكوين الفرد ليكون مؤمنا وعاملا صالحا. والحرية السياسية هدفها تكون الجماعة لتكون متواصية بالحق (اجتهادا) ومتواصية بالصبر(جهادا).
فسواء في نفس الجماعة أو بين الجماعات يكون البشر في حرب أهلية دائمة على المكان (اصل الثروة) وعلى الزمان (اصل التراث) وتصبح المرجعيات الروحية والفكرية مقصورة وظيفتها على تبرير الصراع بين البشر من اجل الرزق والمنزلة: فلا يوجد تعارف ولا تقوى بل تمايز طبقي وعرقي وتناكر بين البشر.
وهذا النكوص هو نسيان الميثاق الذي هدف الرسالة التذكير به والتحذير من الغفلة عنه. تلك هي فلسفة التاريخ القرآنية تأسيسا للكونية على مبدأي الأخوة البشرية (النساء 1)والمساواة بينهم مع جعل التعدد فضيلة لا رذيلة لأنه شرط التعارف والمساواة ولا مفاضلة فيها غير التقوى منزلة عند الله.
صحيح ان ذلك كله من حيث المبدأ. لكن الممارسة وخاصة بعد الانقلابين على الدستور السياسي والدستور المعرفي جعل المسلمين مثل غيرهم من الأمم الأخرى ينكصون عن هذه الرؤية في فلسفة التاريخ إلى قوانين التاريخ الطبيعي وبدلا من التسابق في الخيرات سيطر التنافس في الاستحواذ على مصادر الرزق.
وكل نكوص في فلسفة التاريخ كما حددها القرآن الكريم يكون قولا بدين العجل الذهبي ذي الخوار. فيكون الخطاب الديني خوار العجل أو التوظيف الإيديولوجي للقيم (الخسر) ويكون رب الإنسان معدن العجل بعبادة المال فتفقد الشورى 38بدايتها(الاستجابة للرب) وغايتها (البعد الاجتماعي الانفاق من الرزق).
وما رأيت في النصوص الدينية نصا بمثل هذه الموضوعية في الكلام على تاريخ البشرية دون مفاضلة بين الاقوام. وقد يسقط شبابنا ما بيننا وبين بني إسرائيل فينسى ثورة موسى. فضل ثورته على الاستعباد السياسي لا يهمله صاحب التصديق والهيمنة فثقته بنفسه تجعل أحكامه موضوعية له أو عليه.
ونحن العرب خاصة والمسلمين عامة نمر بمثل ما مرت به يهود موسى: تركنا ثورة الإسلام التي هي تحرير روحي وسياسي واصبحنا نؤمن بدين العجل: المال والإيديولوجيا. وهذا النكوص عام لكنه أبرز عند من يتصورون أنفسهم اغنياء هو في إدقاع روحي وسياسي لم تصل إليه جاهلة العرب انحطاطا وتنكر للقيم.
فعرب اليوم خاصة والمسلمون عامة فقدوا كل فضائل الإسلام في المجالات الخمسة التي حاولت رد مضمون القرآن وبينته إليها: فلا علاقة لهم بما بعد الاخلاق القرآنية ولا علاقة لهم بفلسفة الطبيعة وما بعدها وبفلسفة التاريخ ومابعدا وبفلسفة النظر والعقد وما بعدها وبفلسفة العمل والشرع وما بعدها.
وليس في كلامي حكم فقهي يحدد المنازل الدينية بل هو وصف للأخلاق التي تحكم مجتمعاتنا: وأول من وصفها بكونها تعبيرا عن فساد معاني الإنسانية لست أنا بل العلامة ابن خلدون في كلامه على ما ينتج عن بعدي السياسة العنيفة أي التربية العنيفة والحكم العنيف: هذه حال مجتمعاتنا.
ولذلك فليس من الصدفة أن صارت دار الإسلام فتاتا كل شبر فيه محمية لسيد يعبده من يستعبد شعبه مستقويا بحاميه الذي يمكنه من البلاد والعباد حتى يفسد فيها ويسفك الدماء. كل ذلك كان مخفيا بالدجل التأصيلي و التحديثي حتى جاءت ثورة الشباب بجنسيه ففضحت القومي والإسلامي العسكري والقبلي.
أما اليساري والليبرالي فليس لهم غير الطبل والزمر لمن يمكنهم من وهم الثورية الاجتماعية للأول تحت حذاء العسر والتحررية القيمية للثاني تحت رداء القبيلة ولا وزن لهم في أحداث التاريخ الكبيرة لأن دورهم فيه لا يتجاوز المهام الحقيرة خدمة للمخابرات والاستعلامات والحرب النفسية على شعوبهم.
لكن شباب الثورة -رغم أنه لم يتحد ولم يحدد استراتيجية بينة المعالم -غسل يديه من كل هؤلاء وبدأ يدرك أن معركة الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي لا علاقة لأصحابها بالأصالة ولا بالحداثة إذا تجاوزنا قشورهما لأن القيم العليا كونية وليست رهن الاختلاف بين الثقافات في السطحي من عباراتها.
لذلك فهدفي من هذه المحاولة بيان ما يحق لشباب الثورة أن يفخر به في مرجعية قيمه ومصادر رؤاه بأبعادها التي حاولت بيان منزلتها في القرآن الكريم: فما بعد الاخلاق القرآنية وفلسفة الطبيعة وما بعدها وفلسفة التاريخ وما بعدها وفلسفة النظر والعقد وفلسفة العمل والشرع مهمة لمشروع الاستئناف.