لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالقرآن
من الواضح أني لما أقول إن أول فروع ما بعد الاخلاق هو فلسفة الطبيعة وما بعدها لا أعني بذلك الميتافيزيقا بالمعنى الفلسفي التقليدي ولا حتى الحديث بل أقصد أمرين: الأول أن الطبيعة في هذا المنظور خيار لإرادة حرة وليست أمرا ناتجا عن ضرورة ذاتية لأن العوالم الممكنة عقلا لامتناهية.
لا شيء في العالم يثبت ضرورته ولا وجوب وجوده بل العقل بمجرده يعتبره أحد الإمكانات اللامتناهية. وتلك هي علة كون الرياضي أوسع من الطبيعي إذ يمكن أن نتخيل عوالم بعدد ما يمكن أن نبدعه من الأنساق الرياضية التي تعتبر تطبيقاتها الطبيعية حالة من الحالات الممكنة عقلا.
ومن ثم فما بعد الطبيعة القرآني مختلف عما بعد الطبيعة الفلسفي من حيث علة الوجود وهي مختلفة حتى عن الضرورة الشرطية بالمعنى الارسطي بداية و اللابنتزية غاية بمعنى أن ضرورتها مشروطة بالغائية لأنها لا ضرورة لها أصلا إلا من الداخل كنظام رياضي لكنها من الخارج جود وجودي عدمه ممكن.
نظرية القرآن الطبيعية وما بعدها أنها عالم خلقته إرادة حرة عاقلة قادرة حية وموجودة من دونه وغير محتاجة إليه وهو معنى الربوبية التي بفضلها يربو الوجود الذي يقوم بشهوده لوجود الله. ويوجد فرقان مع مقالة اللام: وجود العالم لا يقوم في مادة حبلى والله ليس مجرد مثال بل هو الخالق بأمر كن.
وذلك يعني أن الأمر رمز الفعل الحر نوعان في القرآن: أمر الخلق (اساس نظرية الطبيعة) وأمر التشريع (أساس نظرية التاريخ). وهما أصل الطبيعة وما بعدها فيه موضوع هذا الفصل وأساس التاريخ ومابعده فيه كما سنرى في الفصل الموالي. وهو وصف لما فيه بمعزل عن تصديق الدلالة الخارجية أو تكذيبها.
والقرآن لا يقف عند تحديد الأصل (حرية فعل الخلق على علم وبقدرة حية موجودة مستغنية عن العالم) بل هو يحدد طبيعة نظامه الرياضي (كل شيء خلقناه بقدر) وسنرى أن علم قوانين هذه النظم الرياضية لا يوجد في القرآن بل هو لا يعلم إلا ما ندركه من آيات في أعيان الآفاق والأنفس خارج أذهاننا.
ولهذه العلة فالنظام الرياضي لا نكتشفه بمجرد الإبداع الرياضي لعوالم خيالية هي العوالم الممكنة كأنظمة رياضية بل لا بد من التجربة التي تمكن من الملاءمة بين عالم رياضي وما تؤيده التجربة التي لنا عن الآفاق والأنفس بحسب تقدم أدوات الإدراك التي نبدعها لتمكين الحواس من رؤية هذه الآيات.
الآيات التي نراها في الآفاق والانفس هي إذن القوانين الرياضية التي تمثل نظامهما والتي هي موضوع البحث المحتاج للمنقول في علوم العقل: ذلك هو الأمر الذي لم يفهمه من يقابل بين العقل والنقل. لا وجود لعلم من دون نقل ولا وجود لعلم من دون عقل. مضمون العلم نقلي ونظامه عقلي دائما.
سخافة المقابلة بين النقل والعقل من سذاجة العقلانية القائلة بالمطابقة والنافية من ثم للغيب في الوجود وهو وهم علته اعتبار علم الإنسان علما محيطا. الطابع النقلي لمضمون العلم هو ما يميزه عن الادب والرياضيات. فهما يبدعان موضوعهما وليس لهما مرجعية خارجية: هما مقدرات ذهنية بلغة ابن تيمية.
سأعود لمسألة الفرق بين علم الموجودات الطبيعية والفرق بينه وبين المقدرات الذهنية أدبية كانت أو رياضية في الفصل الخامس بعد الموالي عندما سأتكلم على النظر والعقد وما بعدهما لئلا نخلط بين الامرين: فكلامي هنا هو حول رؤية القرآن للعالم الطبيعي وطبيعة ما بعده أمرا خالقا وناظما.
ومن عجائب هذا العالم الطبيعي الناتج عن إرادة حرة ليس بالساكن ولا بالثابت بل هو في حركية لا تتوقف وهو شبه لا محدود بخلاف عالم الفلاسفة القدامى و فلاسفة الإسلام في القرون الوسطى. إنه أوسع من عالمهم بل ويتواسع. إذ فيه حركة في فضاء يومه يقدر بخمسين الف سنة من نظامنا.
وبخلاف ما يتوهم دجالو الإعجاز العلمي فإن مثل هذه الإشارات تنفي إمكانه: فإذا كان الموضوع في تغير دائم فعلمه مثله. والقرآن ليس اللوح المحفوظ فيحتوي ما لا يحيط به إلا علم الله. إنه رسالة تذكير الإنسان بالميثاق وبمهمته التي لا يحققها إلا هو باجتهاده وجهاده اختبارا لأهلية الاستخلاف.
ولو كان وهم الإعجاز العلمي صحيحا لكان علم العربية وحده كافيا لمعرفة أسرار الطبيعة والتاريخ ولأصبح الإنسان ذا علم محيط قابل للتحصيل في أقل من خمس سنوات: فعندما كنت طفلا من لم يكن بليدا لا يحتاج لأكثر منها لحفظ القرآن الكريم. وهبنا أضفنا خمسا لقراءة التفاسير الشهيرة.
ولهذه العلة كان هذا الفهم القاصر للعلم سبب نكبات الامة التي صارت عزلاء ليس لها شروط الحماية والرعاية اللذين هما شرط عزة الإسلام وحرية المسلمين حتى يكونوا بحق قادرين على حماية رؤاهم وعقائدهم لئلا يكونوا كما هم حاليا يمكن لترومب أن يصبح محددا لمعاني ديننا يأمر فيطاع من حكام رعاع.
ولهذه العلة تكلمت على قلب دستور النظر والتربية مثل قلب الدستور دستور العمل والحكم منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم وأصبح مجرد حفظ النصوص علما في حين أن القرآن يدعو إلى علم ما يرينه من آيات ليس في النص بل في الآفاق والانفس. ولما فعل الانقلابان مفعولهما صرنا عالة في الحماية والرعاية.
لو كانت المعجزات بديلا من عمل الإنسان على علم لكان الرسول غنيا عن الاجتهاد والجهاد ولما كان فهيما يصيب ويخطئ لكن إيمانه يجعله يواصل العمل على علم بأسبابه وبه حقق شروط النجاح الموعود. صحيح أنه يقص معجزات الانبياء قبله. لكن ذلك من آداب الحوار مع الأديان الاخرى.
معجزته الوحيدة هي الرسالة والرسالة تقول إنها غنية عن المعجزات بل أكثر من ذلك فهي تقول إن المعجزة الأولى والأخيرة هي النظام الرياضي لخلق العالم الطبيعي والنظام السنني لأمر العالم التاريخي وبهما يستدل على التذكير والتحذير من خلال نقد للتجربتين الروحية والسياسية لماضي الإنسانية.
والغريب أن علماء اللاهوت المسيحيين كانوا يرفضون القرآن ودينية الإسلام لهذه العلل وكان كل فلاسفة عصر التنوير يتصدون لهم بسبب “عقلانية” الرؤية القرآنية للوجود عامة ولدور الإنسان خاصة مع تحريره من سلطان الكهنوت (الوساطة) والطاغوت (الوصاية).
وما أظن مسلما واحدا مهما كان أميا يجعل أن حرية المعتقد في القرآن أو عدم الإكراه في الدين مشروط بتبين الرشد من الغي الذي عرف بكونه الكفر بالطاغوت والإيمان (بالله) والجمع بينهما هو الاستمساك بالعروة الوثقى. وهنا لا بد من تقديم أحد أسرار هذه الرؤية المؤسسة لأحكام الخلق والامر كلها.
وهو في الحقيقة ليس سرا لأنه يصحب كل تأسيس للأحكام العقدية والشرعية في النظر والعمل على صفتين متلازمتين من صفات الله: وفي مسألة تبين الرشد من الغي نجد “والله سميع عليم”. وثنائية التأسيس ليس تحكمية بل هي تذكير الميثاق ومعنى ذلك أن الله يسمع من الإنسان ولا يكتفي بعلمه بالإنسان.
وقس علي هذا المثال كل الاحكام: فتكون أسماء الله وصفاته تأتي مثاني في كل الاحكام للدلالة على نفس المعنى والعدل الإلهي و”احترامه” لبنود الميثاق والعقد بين المستخلف والخليفة. وكم سعدت لما أدركت هذا المعنى الذي يمكن التأكد منه بمجرد النظر في أحكام الخلق والامر في الطبيعة والتاريخ.
ولما كانت الرسالة تذكر الإنسان بأنه مستعمر في الارض وبشروط هذا الاستعمار العلمية والعملية وبأخلاق العلم والعمل على علم فإن أول واجبات الإنسان تحقيق ما كلف به وما يعتبر موضوع اختبار أهليته ليكون خليفة. والتعمير شرطه علم القوانين الطبيعية والتاريخية والاستخلاف شرطه احترام الميثاق.