لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله القرآن
لما كتبت “وحدة الفكرين الديني والفلسفي” منذ ما يقرب من عقدين لم أكن بعد قد خصصت ما يكفي من الوقت لإثبات هذا الرأي الذي كان أشبه بالعقد منه بالعلم بما في القرآن من أدلة قاطعة على هذه الوحدة التي بمقتضاها يمكن الجزم بأن الإسلام هو حقا الرسالة الخاتمة والفاتحة في آن.
ولولا تأكدي من هذه الحقيقة لغلبني اليأس من حال الامة، اليأس الذي قد ينتابني أحيانا فتنفجر في نفسي سورة غضب سرعان ما أتداركها بمجرد العودة إلى القرآن لأتخلص من ضيق المكان والزمان وأشعر بأن الفرج آت لا ريب فيه لأن الأمة موعودة بالشهادة على العالمين وللمهمة شروط هي عين شروط بقائنا.
سأحاول ختما لما قدمت في الكلام على الانقلابين على دستور التربية والنظر ودستور السياسة والعمل مباشرة بعد الفتنة الكبرى وعلى نظرية الدستور أن أبين أن القرآن ليس نصا دينيا فحسب بل هو كذلك نظرية في ما بعد الاخلاق متفرعة إلى أبعادها الأربعة التي تصل المطلق بالنسبي والوجودي بالتاريخي.
سبق أن كتبت فصلا مطولا-نشر في موقع حكمة-حول مفهوم ما بعد الاخلاق وهو مفهوم أعم من مفهوم ما بعد الطبيعة الذي كان مسيطرا على الفلسفة القديمة والوسيطة فمكن مدرستنا النقدية (ضميمة المثالية الألمانية) من تجاوزها بجعله علما رئيسا لما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ وصلا بين الضرورة والحرية.
وما بعد الطبيعة التي يؤسسها ما بعد الأخلاق كما حاولت بيان ذلك في فصول الشكوك على المقاصد هو الكلام الضروري في النظام الرياضي للخلق (كل شيء خلقناه بمقدار) وما بعد التاريخ الذي يؤسسه ما بعد الاخلاق كما بينت في نفس البحث هو الكلام على الحرية في النظام السياسي للأمر(المكلف الحر).
والمعنى الأول باصطلاح الفكر الديني هو عالم الربوبية والمعنى الثاني بنفس الاصطلاح هو عالم الألوهية: والاول هو عالم الخلق المضطر والتسخير والثاني هو عالم الأمر الحر والتكليف. وشرط التكليف الحرية الروحية (علاقة مباشرة بين المؤمن وربه) وبالحرية السياسية (علاقة مباشرة بين الإنسان وشأنه).
فيكون ما بعد الاخلاق قمة لهرم مثمن السفوح: سفحان للطبيعة وما بعدها وسفحان للتاريخ وما بعده وسفحان للنظر وما بعده في الطبيعيات وسفحان للعمل ومابعده في السياسيات. أما بعد الاخلاق فهو القمة التي هي انشداد الإنسان الدائم بين الله والإنسان أو مفهوم الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها.
ولعل أول فيلسوف غربي انتبه إلى هذا المعنى فأسس عليه نسقه الفلسفي هو ديكارت. فالضمانة الإلهية للعلم عنده مشروطة بنظرية تعتبر ما عليه الوجود المعلوم من نظام أسمى يجمع بين المضطر الطبيعي والحر التاريخي مفهوم أسمى منهما هو الإبداع الحر للنظامين الطبيعي والتاريخي ولشروط النظر والعمل.
وقد سبق أن بينت في كلام على الانقلابين أن هذا التعريف الذاتي للإسلام لم يبق دستور المسلمين المحمديين (كل الأديان إسلامية والإسلام المحمدي هو الشكل الكوني والنهائي) بل هم اضطروا إلى تعطيله بسبب حالة الطواري التي فرضت في الحكم و التربية بسبب الفتنة الكبرى والحرب الاهلية.
وما أنوي البحث فيه-وهو ما تخلو منه التفاسير إلى حد الآن-هو استخراج حقيقة القرآن كما يحدد ذاته مشروعا نسقيا يحرر من قراءاته الانتقائية الغافلة عن وحدته ونسقيته رغم ما يبدو عليه من فوضى وتكرار وتشابك العناصر التي لا نرى لها ترتيبا يقبل الوصف النسقي بأصول قليلة تعلل منازلها.
والفرضية التي أقدمها حاليا-وعملي يقوم دائما على فرضية عمل أحاول اثباتها من خلال النظر في مدى تفسير ما في الموضوع من مطلوب البحث-هي اعتبار القرآن مؤلف من أصل وأربعة فروع.
ما بعد أخلاق
فلسفة الطبيعة وما بعدها
وفلسفة التاريخ وما بعده
وفلسفة النظر وما بعده
وفلسفة العمل وما بعده.