لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالقدس
لا غضب العاجزين ولا عنتريات “صوت العرب” الذي كان ولا يزال للاستهلاك المحلي ولا “تهاوش” الورثة حتى اقتصر جهاد الأنظمة على تبادل اللوم وتحميل بعضهم البعض مسؤولية ما يحدث.
قضية القدس أشرف من أن تبتذل بنفس الطريقة التي عرفتها الامة طيلة القرن الماضي من الوعد إلى الاعتراف بعاصمة الغاصب.
لذلك فلا تعنيني جوقة الانظمة العربية والإسلامية. أريد أن أتكلم على الدلالة التاريخية العالمية لاعتراف أمريكا وحيثياته بالقدس عاصمة لإسرائيل. فالحدث في حد ذاته لا يغير من الوضع القانوني لفلسطين كلها فضلا عن القدس حتى لو كان الاعتراف آتيا من أكبر دولة في عالم اليوم.
ما حدث هو اكتمال الأمر الواقع كأمر واقع في سعيه للأمر الواجب الذي هو اعتراف أهل الدار بالاغتصاب. وما انتهى ليس هذا الامر الواجب والسعي لفرضه بديلا مما تظن إسرائيل من يساندها في العالم عامة وفي دار الإسلام خاصة أنه أمر واقع نهائي قيامه مشروط ببقاء من قبلوا به ليبقوا.
ولست أدعو لمواصلة التهاوش بين الأنظمة فهو كان ولا يزال أهم حجج بقائهم من حرب فلسطين بعد الاعلان على إنشاء الدولة الغاصبة إلى اليوم. ولست ادعو لشيء بل أحاول أن أبين أن الامر تجاوز الدعوة إلى شيء لم يحصل فهو حاصل عندنا وعند أمريكا بالذات. لذلك أعتبر الاعتراف وحيثياته منحة إلهية.
وليس هذا من مفارقات كتاباتي: فلننظر في الأمر بدقة وتجرد: من المعترف بالقدس عاصمة إسرائيل؟ ومن يقبل ذلك خانعا حتى يبقى على الكرسي؟ أليس من نعم الله أن يكون الرئيس الأمريكي الذي نطق بالاعتراف أكثر الرؤساء في العالم فقدانا للمصداقية؟ وإذن فنطقه بالاعتراف حجة على إسرائيل وليس لها.
أليس من نعم الله كذلك أن يحدث ذلك بعد أن عرت الثورة كل الانظمة العربية والاسلامية بلا استثناء بأنها حراس محميات وليس حكام دول ذات سيادة؟ فإذا اجتمع الأمران الضروريان للاستئناف الفعلي فإن المرء ينبغي أن يعتبر ذلك منحة إلهية أعني عودة الأمر لأصحابه: شباب الثورة بجنسيه.
إلى حد الآن صنف الشباب المجاهد بكونه يمارس الإرهاب. ولن أجادل في التكييف القانوني. فهو ليس إرهابا لكونه يحارب العدو بالأسلوب الذي نعلم. هو عندي إرهاب لأنه تحول إلى معركة بين أمراء الحرب لا تختلف كثيرا عما وصفت في كلامي على الانظمة: تهاوش ورثة عاجزين.
والتهاوش بين المجاهدين (أمراء الحرب) لا يختلف عن تهاوش القاعدين (ولاة المحميات أو الدول عديمة السيادة). وشباب الثورة ما زالوا يعترفون بما مكن إسرائيل وحماتها من تحقيق ما اعتبر التباكي عليه تباكي تماسيح. فلا فرق عندي بين الأنظمة والمجاهدين وشباب الثورة: كلهم يسعون إلى البقاء.
لا يمكن أن تعتبر القدس أمرا يهم الأمة – وهي قطعة من دار الإسلام – إذا كنت أنت تبني بقاءك على تحقيق ما ينفي معنى “دار الإسلام” لتأسيس نفيها الفعلي بالمحميات التي نتجت عن تمزيق كيانها ومحاولة تأسيس الممزق على ما قبل تاريخ الإسلام أو ما تتصوره ما بعده واعتبار المزق المحمية أمما ذات شرعية.
ما اعتبره من نعم الله اليوم هو اقتناع كل شعوب الأمة بهذا التوصيف: كان المجاهدون وحدهم يتكلمون على وحدة الامة لكن ذلك تحول إلى خطاب جنيس لخطاب الانظمة والثوار لان أمراء الحرب انتهوا إلى البحث عن تكوين إمارات أفسد من الانظمة لتوهمها الإسلام هو كاريكاتوره عند بوكو حرام.
والدليل أنهم هم الذين قضوا على بدايات الثورة بما مثلوا له من تشويه نسقي للإسلام وثورة شبابه التي كان يمكن أن تكون بداية الاستئناف لأنها ثورة خرجت من المساجد وطالبت بما يتطابق فيه جوهر الإسلام بجوهر الحداثة المستقلة عن الأنظمة وحماتها حتى وإن كان ذلك بتلعثم.
فمن نعم الله أن ذلك كله صار في متناول الوعي العام للشعوب الإسلامية. لكن ذلك ما يزال مقتصرا على السلب لأن نفي الامر الواقع ليس بعد السعي لفرض الامر الواجب. والسلب هنا هو:
الاعلان صدر من رجل لا مصداقية لكل مواقفه عند كل حكام الغرب وضمنها الموقف من فلسطين والقدس.
فهذا يعني أن الموقف المقابل بدأ يصبح ذا مصداقية عند كل حكام الغرب ليس كقضية ضمير بل كقضية سياسية عالمية لأن مواقف ترومب بدأت تمثل خطرا على العالم حتى في منظور الراي العام الامريكي نفسه وحتى في الاستبليشمنت الأمريكي ومستويات رعاية الشأن العام في أمريكا والعالم.
وكلما كان عدوك بهذه الصفات كان ذلك أفضل ظرف للعمل على بيان قضيتك وفرضها سلما وحربا. ومن سيسعى لبيان القضية وفرضها سلما أو حربا هو شباب الثورة الذي ينبغي أن يباشر العمل باستراتيجية ثورية فعلية لا تكتفي بالمطالب الاجتماعية والحقوقية بل تمر لشروط تحقيقها.
وقد سبق أن بينت أن الثورة لا مستقبل لها ما ظلت محلية مقصورة على أخذ الحكم في المحميات ليصبح من كانوا ثوارا بسبب نفس الشروط ولاة فيها أشد تبعية من ولاتها السابقين. لا فرق عندي بين الانظمة التي سقطت خلال الثورة والانظمة التي ورثتها بعدها بل هذه أكثر خضوعا وتبعية للحماة.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى “الثوار” فمن باب أولى أن يكون كذلك بالنسبة إلى الأنظمة وإلى أمراء الحرب. وهذا هو الوجه الثاني من نعمة الله على الامة الوجه الذي أعتبره بداية جديدة للثورة إذا كان بعض اصحابها قد أدركوا ما أصف هنا. وذلك هو هدفي ولست من المتباكين ولا من رافعي الاكف.
البكاء والدعاء لا يليق بمن فيه ذرة رجولة ومروءة. حان وقت العمل على علم. الاستئناف الإسلامي ينبغي أن يصبح ثورة عالمية لتحرير البشرية من جنون ترومب وبوتين وبقايا الامبراطوريات الغربية بنفس الطريقة التي حقق بها الإسلام الموجة الأولى من ثورته: رسالة تجاهد باستراتيجية عقلانية.
والرسالة لم تجاهد باستراتيجية عقلانية إلا في مرحلة أولى مضاعفة من تاريخ الإسلام: الأولى هي سياسة الرسول والثانية هي سياسة الخلفاء الراشدين الثلاثة الاول (لأن الرابع كان طرفا في حرب اهلية).
همي بيان شروطه الاستراتيجية بعيدة المدى وطويلة النفس ليكون أصحابها متواصين بالحق وبالصبر.
صحيح ان القدس من عواصم الإسلام المقدسة. لكن سقوطها بدأ منذ الوعد وظل إلى الآن أمرا واقعا وهذا الوضع هو النجاح الأول لجهاد الامة. هو حوز وليس ملكية. واعتراف أمريكا كان يمكن أن يحوله إلى ملكية لو كفت الأمة عن رفضه. الأمة وشعوبها يشاغبون الحائز. والحوز يصبح ملكية إذا غابت المشاغبة.