**** الفوضى الخلاقة طبيعتها وأدواتها ومناهجها وأهدافها الفصل الثاني
وسأبدأ بالوجه الموجب من “الفوضى الخلاقة” بوصفها نقلة من نظام إلى نظام بهندسة قصدية هي جوهر الفعل السياسي سواء في السلم أو في الحرب. وهي بالضرورة مضاعفة إذا كانت سياسة قصدية وليست أعمالا عفوية كالحال في بلاد العرب الذين ما زالت نخبهم “رعوانية” تفعل كيفما اتفق دون استراتيجية ذاتية. وقد يكون فعل هذه النخب بدون استراتيجية ذاتية بقصد ممن نصبهم لتحقيق خطة قصدية في استراتيجيته التخريبية من خلال توظيفه النخب الخمس أي: 1. نخبة الإرادة (الساسة) 2. ونخبة المعرفة (الباحثون) 3. ونخبة القدرة (الاقتصاديون) 4. ونخبة الحياة (الفنانون) 5. ونخبة الوجود (أصحاب الرؤى الدينية والفلسفية).
ما سننطلق منه في فهم الوظيفة الموجبة للفوضى الخلاقة أو للتغيير القصدي، هو الاستراتيجية السياسية القصدية التي تستعمل علوم الطبيعة وعلوم الإنسان لعلاج ما اصطلحت على تسميته بالعلاقتين: • العمودية مع الطبيعة لسد الحاجات المادية خاصة • والأفقية مع الإنسان لسد الحاجات الروحية. فحتى المحافظة على الموجود في الجماعات البشرية، ناهيك عن تحقيق المنشود تقتضي استعمال العلوم الطبيعية لسد الحاجات المادية لقيام الجماعة واستعمال العلوم الإنسانية لسد الحاجات الروحية لقيام الجماعة. • والسد الاول يحل مشكل التبادل • والثاني مشكل التواصل وهما موضوعا المقدمة الخلدونية. ولذلك، فهو قد سمى علمه “علم العمران البشري (لسد الحاجات المادية) والاجتماع الإنساني (لسد الحاجات الروحية)” إذ هو: • وصف الاول بالتنازل (الاشتراك في المنزل) للتعاون من أجل سد الحاجات • ووصف الثاني بالتنازل (الاشتراك في المنزل) للتواصل من أجل الأنس بالعشير. وهما موضوع التغيير وأداته. فالتغيير موضوعه العلاقة بالطبيعة والعلاقة بالتاريخ، وأداته ما يفعله الإنسان في هذين العلاقتين بنظامين هما ركنا الدولة أي التربية والحكم. • والاولى لتكوين الإنسان عضويا وروحيا وعلميا وخلقيا ليقدر على إنتاج ما يسد الحاجات المادية والروحية • والثانية لتنظيم أفعاله تلك بمقتضى القانون.
والعلاقة بالطبيعة هي العلاقة بالجغرافيا، والعلاقة بالإنسان هي التاريخ، ومنهما مصادر الحياة المادية والروحية بأدوات ومناهج هي مجال التكوين البدني والروحي للإنسان علميا وخلقيا ليستعمل مهاراته في سد الحاجات المادية والروحية حتى تحافظ الجماعة على بقائها وتجوده بالتغيير القصدي.
أدوات الفعل هي إذن أدوات تكوين الإنسان وتربيته كإنسان مسهم في سد حاجات الجماعة المادية والروحية وطبعا في حاجاته من خلال مؤهلات التعامل مع الطبيعة ومع التاريخ وأدوات حكم الإنسان الفرد والجماعة من أجل تحقيق ذلك بنظام وعدل أو بأمانة وعدل في التبادل ماديا والتواصل روحيا. ولما كان المهمة الاولى علاقة بالطبيعة شارطة للتعاون والتبادل والتعاوض الأمين والعادل فإنها متجاوزة لحدود الجماعة، ولما كانت المهمة الثانية شارطة للتواصل في كل ما ينتجه الإنسان من منتجات مادية ورمزية لذاتها أو في خدمة العلاقة فالطبيعة والتاريخ لا يعترفان بالحدود بل هي خاصة وكونية. ومعنى ذلك أن العلاقتين العمودية بالطبيعة والافقية بالتاريخ مكانهما وزمانهما له مستويان: خاصة بجماعة معينة، وكوني يشمل الإنسانية كلها لأن كل شيء من أعمال الإنسان في العلاقتين متوارث تساوقيا وبالتوالي. كل حضارة تتأثر بما حولها وبما قبلها فيهما معا أدوات للتربية والحكم في الدول. والأداتان التربية والحكم يمكن أن يكونا لطيفين ويمكن أن يكونا عنيفين. • فاللطيفان ينميان معاني الإنسانية بالمحافظة على المقومات الخمسة لكيان الإنسان أي حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود • والعنيفان يفسدان هذه المقومات وسماها ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” وهما قرآنيا مفهوم الخسر الذي هو ما يطرأ على الفطرة فيفسدها (سورة العصر) وما يمكن من استثناء الإنسان منه هو مقومات اصلاح معاني الإنسانية فيها، أي الوعي بالخسر ثم الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وهي المعاني التي سمى ابن خلدون فسادها بفساد معاني الإنسانية. وبين أن الفعل الأصل هي الوعي بالخسر وبشروط الخروج منه. • والفعلان المواليان يتعلقان بصلاح التربية بالإيمان والعمل الصالح في تربية الفرد • والفعلان الأخيران يتعلقان بصلاح الحكم بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر 1. والأول للاجتهاد في طلب الحقيقة 2. والثاني للجهاد في تحقيقها. أما الاستعمال العنيف للأداتين أي التربية العنيفة والحكم العنيف، فينتج عن عكس ما وصفنا يصبح الخسر مطلوبا فيفقد الفرد الإيمان والعمل الصالح والحكم العنيف، تفقد الجماعة التواصي بالحق والتواصي بالصبر فيصبح الجميع يتخادع فلا يطلب الحقيقة ويتنافق فيما يعمل على تحقيقها. وتلك فوضى هدامة. ولا أحد ينكر أن وضع العرب اليوم هو كما وصفه ابن خلدون في كلامه على فساد معاني الإنسانية وكما وصفته سورة العصر في كلامها على الخسر اضمارا خلال كلامها على شروط الخروج منه الخمسة أي: 1. الوعي به 2. وبوجوب الخروج منه بالإيمان 3. والعمل الصالح 4. والتواصي بالحق و 5. التواصي بالصبر. وقد كانت سورة العصر قد اضمرت مكونات الخسر فذكرت شروط التحرر منها، فإن ابن خلدون عكس فأضمر شروط الخروج منها في كلامه على علل الوقوع فيها. وما يصل بين الرؤيتين ورد في آخر كلامه على فساد معاني الإنسانية بوصف الفساد قرآنيا بـ”بالرد أسفل السافلين”.
وما ذكرت الوجه الموجب من الفوضى الخلاقة التي تحصل بين لحظتين من النظام الواحد للمحافظة عليه أو لتغييره إلى ما هو أفضل إلا لأنه هو الطريقة الوحيدة للتصدي للفوضى الخلاقة الغازية أو التي يطبقها نظام تابع لقوة غازية بهدف تخريب النظام الذي يحمي الجماعة كما يحصل حاليا في بلاد العرب. فالفوضى الخلاقة الهجومية أداة للغزاة هدفها استعمال التربية والحكم العنيفين من أجل تخريب أداتي الفوضى الخلاقة الدفاعية. فالتربية والحكم كلاهما فوضى خلاقة دفاعية ضد الطبيعة وضد التاريخ، لأن الإنسان فردا وجماعة معرض دائما للأضرار الواردة عليه من الطبيعة ومن الإنسان داخليا وخارجيا ومعنى ذلك أن الإنسان ما كان ليجتمع ويصبح جماعات وما كان ليكون دولا وما كان ليعد أجياله بالاعتماد على الخبرة الحاصلة لو لم يكن الهدف تحقيق شرطي السيادة للجماعة والحرية للأفراد: أي الرعاية والحماية. فالرعاية هي شرط البقاء العضوي والحماية هي شرط البقاء التاريخي. فالشعوب تفنى: • إما لأنها صارت عاجزة عن رعاية ذاتها بسد حاجاتها العضوية والروحية (المجاعات مثلا) • أو لأنها صارت عاجزة عن حماية ذاتها بسد حاجات الدفاع عنها: 1. في الداخل (بين أفرادها) 2. وفي الخارج (بينها وبينها الجماعات المعادية). وتلك هي علة وجود التربية والحكم أو الدولة الجامعة بينهما. ويعتبر هذا عندي من أكبر الأدلة على تمام الإسلام: فهو تربية وحكم ومن ثم فلا يمكن تصوره من دون دولة تحقق هذين الدورين وهما عين ما عرف به القرآن علاقة الإنسان بالطبيعة وبالتاريخ: فهو يعرفه بكونه مستعمر في الأرض ويعرفه بكونه مستخلفا فيها وعليها. وشرطهما دولة سلطتها للجماعة تربية وحكما.