الفوضى الخلاقة، طبيعتها وأدواتها ومناهجها وأهدافها – الفصل الثالث

**** الفوضى الخلاقة طبيعتها وأدواتها ومناهجها وأهدافها الفصل الثالث

إن أي جماعة لا تكون ذات دولة تحقق هذين الوظيفتين للرعاية والحماية في التربية وفي الحكم، لا يمكن أن تعتبر دولة صالحة، بل هي دولة لا تعد الأفراد والجماعة إلى تحقيق شرطي السيادة الفردية (ابن خلدون يعتبر الإنسان رئيسا بالطبع) والسيادة الجماعية من باب أولى وأحرى. وإذا كانت الرعاية ثمرة عمل على علم وخلق، وكانت الحماية ثمرة قدرة على علم وخلق للدفاع عن الذات، حتى إن ابن خلدون حصر كل معاني فساد الإنسانية فيما سماه صيرورة الإنسان فردا وجماعة، عالة على غيره في الدفاع عن ذاته وأهله وماله وعرضه، فإن التربية تتضمن حتما شرطي السيادة الرعاية والحماية. لكن جل البلاد العربية نظام التربية والحكم فيها لا يعد لأي من هاتين الوظيفتين. فنظام التعليم لا يخرج من له القدرة على الإنتاج الساد للحاجات المادية والروحية، ولا يخرج من يستطيع الدفاع عن ذاته أو عن وطنه، بل الجميع مدجن وتعليمه محفوظات إيديولوجية: تنتج البطالة إعالة والعجز حماية. فيكون نظام التعليم ونظام الحكم أداتين بيد دولة تابعة تستتبع بهما أجيالها كما يحدث في كل المستعمرات التي تحقق ما عجز دونه الاستعمار من تغيير للهويات الحضارية وأهمها اللغة والدين والولاء للتاريخ المشترك مع من ينتسبون مثلها إلى نفس الحضارة. وهذه الطريقة أقوى سلاح لطيف لدى الغزاة. وحتى لا أتكلم على غير العرب من الشعوب في افريقيا وفي آسيا، فلأذكر المغرب العربي الذي تفرنس بعد الاستقلال في أقل من نصف قرن في حين أن فرنسا لم تستطع تحقيق ذلك في أكثر من قرن بدعوى نشر التعليم والحكم الحديثين في الظاهر لأنهما لم يحققا أدنى حداثة تتجاوز مسخ الهوية والفوضى الحضارية.

ونفس الشيء يمكن قوله على جل نصارى المشرق العربي وخاصة لبنان، لأن التحديث ليس عملية هدفها تحقيق شروط الاستقلال، بل هي نهج نسقي للاستتباع الحضاري وما يترتب عليه. والتعلل بالحاجة إلى التحديث لإخفاء القصد يفترض أن التحديث لا يمكن أن يتم باللغة الوطنية فتشوه الثقافة دون تحديث فعلي. وقد يظن أن كلامي هذا يعارض تعليم اللغات الأجنبية التي هي ضرورية لاي باحث في أي مجال علمي للمختصين بشرط ألا يكون ذلك بديلا من اللغة الوطنية وخاصة في مراحل التعليم الأساسي العام فيكون تعلم اللغات الاجنبية تابعا لمجالات الاختصاص دون أن يصبح هو أداتها بديلا من اللغة الوطنية. وهو جزء من الفوضى الخلاقة الغازية بأيدي الأنظمة العملية لأن الامر ليس بمعزل عن أمرين آخرين: • الأول هو القطع مع التاريخ المشترك لشعوب المغرب مثلا واستبداله بالمرحلة الفرنسية • وهو ثانيا بات أداة لما فتنة بين العربي والامازيغي. فعتاة العلمانيين جعلوا الفرنسية لغتهم وإن بصورة غير رسمية. وجل بلاد افريقيا التي كانت منتسبة إلى التاريخ الإسلامي أصبحت بسبب تبني لغة المستعمر- الفرنسية والانجليزية والبرتغالية-أقرب إلى النسب الحضاري الاستعماري منها إلى تاريخها لأن القطيعة مع تراثها الذي كان مكتوبا بالعربية صار ليس في متناول أجيالها كما حصل في تركيا. واغلب شعوب آسيا الإسلامية والهند صارت ناطقة بالإنجليزية على الاقل في الامور الرسمية وفي التعليم والإنتاج الفكري بحيث إن لغاتها المختلفة بصدد الاندثار، ومعها تراثها الذي كتب بها أو بالعربية، ومن ثم فالغزو الحضاري والثقافي لم يبق فحسب بل ازداد بعد ما يسمى بالاستقلالات. وهي فوضى خلاقة متعلقة بالمكان والزمان: ففي المكان صارت الحضارة المشتركة ليست متصلة بالجوار الجغرافي، بل بالعلاقة مع المستعمر وفي الزمان كل هذه الشعوب فقدت العلاقة مع تاريخها وتراثها المتقدم على حقبة الاستعمار في الغالب، ومن ثم فالتغيير الذي حصل فيها استتباعي وهو فوضى خلاقة سلبية. وما يعنيني من الظاهرة هو جغرافية دار الإسلام وتاريخها. ففيهما عملت الفوضى الخلاقة عملها منذ بداية الاستعمار واستفحل الأمر خاصة بعد ما يتوهم استقلالا ولكنه في الحقيقة استعمار غير مباشر أكثر خبثا لأن الفوضى الروحية التي تنشأ في الأمة تتحقق بأيدي أبنائها لتحقيق هدف الغازي بسلاحه اللطيف. فتفتيت الجغرافيا حققه تبني الدولة القطرية على أساس يزعم اثنيا وهو متعدد الأعراق ما يؤدي إلى مشروع حرب أهلية دائمة في كل محمية ويصبح المستعمر هو الحكم باسم الاقليات (مثال سوريا ولبنان وقريبا سيكون الحال في جل بلاد المغرب) وحتى يدعم ذلك، يأتي بحث كل محمية عن تاريخ خاص بها. وبذلك تتم القطيعة التاريخية والجغرافية ومعها تتحقق الغاية الأساسية: منع شروط التنمية المادية والروحية للامة التي تتفتت إلى محميات ليس لأي منها شروطهما بسبب حجمها الذي يجعلها بالضرورة تابعة للغازي بطلب منها لحاجتها إليه في الرعاية والحماية: وهذه حال كل المحميات العربية اليوم. ومن العجائب أن الانظمة التي تقاوم ما تسميه بالفوضى الخلاقة لتحافظ على سايكس بيكو مثلا تتصور الخارطة التي نتجت عنه ليست جزءا من الفوضى الخلاقة في حين أنها أهم مرحلة فيها: فيكفي أن تعلم أن هذه الخارطة مرسوم فيها ما سيؤدي حتما لحروب أهلية في كل بلاد سايكس بيكو عرقيا وطائفيا. وكل محاولات الحفاظ عليها بالعنف من الانظمة الحالية ستحول دونها والاستقرار لأنها هندست لهذه الغاية ولذلك فالحل ليس في محاولة الحفاظ عليها بمفهوم الدولة القطرية ذات الاثنية الغالبة التي تنفي بقية الإثنيات، بل لا بد من البحث عن حلول اخرى لتجنب الحروب الأهلية لئلا يزداد التفتيت. فتركيا وسوريا والعراق وإيران، أربعتها مهددة قوميا وعرقيا لأن الخارطة التي فرضها الاستعمار تهدف إلى هذه الغاية وهي جزء من الفوضى الخلاقة التي رتبت من البداية خلال هندسة الخارطة التي تقتضي إما الرضا بالتبعية أو تحريك الحروب الاهلية في كل واحدة منها حتى تنهك وتضعف وتصبح تابعة حتما.

وليس بالصدفة أن كان أكبر المستشرقين هم في آن أكبر المستشارين في هذه السياسات، بل وجلهم كانوا من موظفي مخابرات أنظمتهم مثل ماسينيون وبرنار لويس. ذلك أن عملية التغيير المبنية على العلم في الطبيعة تحاكيها عملية التغيير المبنية على العلم في التاريخ. العلم بالظاهرة شرط الفعل والتأثير. فالفوضى الخلاقة ليست رماية في عماية كما يتصور الأميون الذين يقودون أوطاننا والذين هم من أهم أدواتها، وغالبا ما يكون بغير وعي وبحسن نية بسبب العمل قصير النظر والجاهل بالبعائد. فالأنظمة العربية أحيت التاريخ السابق على تاريخ الامة ليس كمادة معرفية، بل كهوية فأنهت الهوية المشتركة. ولما كان التاريخ المتقدم على الإسلام إذا اعتبر أساس الهوية وليس مجرد مادة معرفة يلغي معنى القومية العربية الأهم، أعني القومية بوصفها حضارة وليس بوصفها عرقا. فلا معنى للقول إن مصر والعراق وسوريا وتونس والجزائر والمغرب عرب قبل الإسلام. جعل الهوية متقدمة عليه نهاية العروبة. فشتان بين كلامي على تاريخ تونس الذي تداولت عليه عدة حضارات وكلام الباحث في التاريخ، وكلامي عليه كلام من يؤسس لهوية مختلفة عن هوية الجزائري والمغربي والمصري والليبي والعراقي والسعودي إلخ.. • فالأول مثله مثل البحث في تاريخ البشرية كلها • والثاني تأسيس للفوضى الخلاقة في دار الإسلام.

وحتى أكون واضحا فليس هزيمة الخلافة العثمانية هو الذي قضى على الخلافة، لأن الدول يمكن أن تهزم وتبقى الهوية الحضارية الواحدة. ما قضى عليها هو الخلط بين التعدد التاريخي من حيث هو موضوع علم التاريخ والتعدد الذي يؤسس لفوضى خلاقة تنهي وحدة الحضارة التي تحققت قبل الاستعمار. فالحركات القومية التي تبنتها النخب في تركيا وفي بلاد العرب، وخاصة عند النخب المسيحية منهم، هي التي كان السلاح الاقوى في استراتيجية الفوضى الخلاقة للقضاء على النظام السابق وتأسيس النظام الحالي. وهو نقيض ما نراه يجري اليوم في أوروبا لإلغاء نظام الدولة القومية بالدولة الحضارية.

والآن اعتقد أن القارئ يفهم السر في الحرب على الحركات الإسلامية عامة والاخوانية خاصة: فهذه الحركات هي الوحيدة المدركة لاستراتيجية الفوضى الخلاقة والساعية لمقاومتها بعدم التنصل عن تجاوز الحدود الاستعمارية. وليس بالصدفة أن يطالبوها بالتنصل للتسليم لها بحق الوجود في بلاد العرب.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي