الفوضى الخلاقة، طبيعتها وأدواتها ومناهجها وأهدافها – الفصل الأول

**** الفوضى الخلاقة طبيعتها وأدواتها ومناهجها وأهدافها الفصل الأول

الفوضى الخلاقة نوعان. أصلية وهي التي تنتقل من عدم النظام إلى النظام ولنا منها نوعان. • طبيعي في فرضية الفوضى التي نتجت عن الانفجار الكبير وما تلاه من تحقق نظام العالم بالتدريج. • وفرضية تكون الجماعات الإنسانية والانتقال من اللادولة إلى الدولة في فرضية فلاسفة القرن السابع عشر والثامن عشر ويسمونها الحالة الطبيعية قبل تأسيس العقد الاجتماعي والسياسي. وكلتاهما فرضية ليس لنا عليها دليل. لكن ما نعلمه منها هو الانتقال من نظام سابق إلى نظام لاحق وهذه هي الحالة التي تعنيني في هذه المحاولة. ويمكن اعتبار نظرية الحالة الطبيعية التي قال بها فلاسفة القرن السابع عشر والثامن عشر الأوروبي فرضية لتأسيس نظرية الدولة من جنسها. والفرق بين الحالتين هو “مهندس” النقلة من الفوضى إلى النظام، لأن: • الأول طبيعي • والثاني لا يعتبر من جنسه بل ينسب “لقرار” عقلاني إرادي واع وليس آليا كالطبيعي والمشترك بين الحالتين هو الانتقال يقع من الفوضى المطلقة إلى النظام بخلاف الحالتين الاخريين اللتين تجعلان الفوضى الخلاقة نقلة بين نظامين أي تغيير نظام سابق وتعويضه بنظام لاحق. والمقصود بالفوضى الخلاقة الذي يعنينا هو هذا النوع الثاني وهو أيضا مضاعف طبيعي وإنساني إن صح التعبير. فكل التطبيعات التكنولوجية للعلوم الطبيعية هندسات تعتمد على ما يمكن أن يعتبر من هذا النوع الثاني من الفوضى الخلاقة لأن فيها تغيير نظام طبيعي يحدث بذاته إن صح التعبير وجعله نظاما تقنيا يحدث بفعل الإنسان المستند إلى العلم بقوانينها والتدخل في العلة بتغيير ينتج المعلول غاية التدخل. وهذا العمل الناقل من نظام طبيعي إلى نظام صناعي، إن صح التعبير، ملازم للحضارة الإنسانية وهو يحصل في الطبيعة الجامدة وفي الطبيعة الحية. • والأول مثاله العمران عامة لأن البناء تدخل في نظام الجاذبية يجعل ما يسقط لا يسقط بفنيات البناء • والثاني مثاله التهجين في الحيوان والنبات. وهذان التدخلان في مجرى الطبيعة بلغا الذروة في عصرنا لأن كل الصناعات سواء في الطبيعة الجامدة أو في الحياة -التهجين والاغذية المحولة- هي من هذا الجنس أعني تغيير النظام الطبيعي بنظام صناعي وهو مشروط بمرحلة وسطى هي بنحو ما فوضى خلاقة بسبب تغيير النظام الطبيعي بنظام قصدي إنساني. وفي الحقيقة لا يوجد فعل إنساني لا يقبل الرد إلى هذه العملية التي تعتبر نقلة بين نظامين طبيعي وإنساني وأهم علاماته الطهي في الغذاء. فقد انتقل الإنسان من النقلة بين نظامين طبيعيين ما يجري في النبات أو الحياة الخارجية كمنتج طبيعي إلى تحويلهما بجهاز الهضم ذي التحويل الطبيعي فيه. ثم أنتج الإنسان بفكره مرحلة ثانية بين منتج الطبيعة ومنتج جهازه الهضمي الطبيعي محطتين أولاهما عوضت المنتج الطبيعي بالمنتج الإنساني أي الزراعة وعوضت المنتج الطبيعي في الجهاز الهضمي بالمنتج الإنساني أي الطهي. ومن ثم فقد حصل انتقال مضاعف بين النظامين هما محتا تدخله هذان. ويمكن القول إن الإنسانية قد سيطرت إلى حد كبير على فنيات هذا الانتقال من النظام الطبيعي إلى النظام الصناعي بفضل علمها بقوانين الطبيعي والصناعي وابداع الوسائط بين النظامين وهو مشروط بشيء من الفوضى الخلاقة دائما وهي فوضى خلاقة نعلم مسبقا ما ستخلقه وذلك هو معنى السيطرة عليها.

وهكذا نصل إلى مسألتنا: هل توصلت الإنسانية إلى “هندسة” في مجال الأنظمة البشرية سواء في ما يتعلق بتحقيق مثل هذه النقلة في “صناعة” الإنسان الفرد، أو في “صناعة” الجماعات البشرية بعملية فوضى خلاقة معلومة الحصيلة فتكون العملية وكأنها استراتيجية تغيير للنظام الموجود بنظام منشود؟

أم إن الفوضى الخلاقة في هذه الحالة عملية غير معلومة النتائج وقد تؤدي إلى عكس المنشود؟ فمن نريد تبديل نظامه ليس كائنا طبيعيا فحسب كل ما فيه له قوانين آلية ثابتة يمكن بعلمها تيسير التغيير المقصود بمجرد تغيير محدد في العلة للحصول على التغيير المنتظر في المعلول بصورة شبه يقينية. فمن نريد تغييره بهذه الطريقة هو بدوره قادر على استعمالها لمنع التغيير أو لجعله ينعكس على فاعله فتكون الفوضى الخلاقة التي سعى إليها زيد من حيث لا يعلم زيد في خدمة عمرو الذي كانت موجهة ضده. ذلك أن موضوع التغيير ليس لاواعيا مثل الظاهرات الطبيعية والحية، بل هو كائن ذو وعي وعقل. ومن البداية أجيب تأييدا لهذا بأن ما يحصل في الانتقال من الموجود الطبيعي إلى المنشود الصناعي في الظاهرات الطبيعية سواء كانت جامدة أو حية ليس له بعد مثيل في الظاهرات الإنسانية، إذ لو كان ذلك كذلك لكانت النتائج المنتظرة قابلة للتوقع الصارم كما يحصل في الظاهرات الطبيعية.

وبداية من وضع عناصر الإشكالية الموجزة سنبحر في ثناياها وشعابها لأنها شديدة العواصة ولأنها في الحقيقة تؤول إلى فلسفة التاريخ ودور الفعل القصدي فيه إضافة إلى مالا يرد إلى القصد في التاريخ أو ما يمكن اعتباره من شبه “غيبه” أعني مالا سيطرة للإنسان على نتائج افعاله الفردية والجماعية.

ومع ذلك فلا بد من بيان أن الفوضى الخلاقة صنفان: • شبه الطبيعية في أفعال الإنسان التي للإنسان سلطان شبه مطلق على نتائجها المتوقعة (مثل استعمال الأسلحة الكيمياوية لتشويه جيل) • وشبه الإنسانية التي يصعب أن يكون للإنسان عليها سلطان قابل لجعله يتوقع بدقة الحصيلة وهي شبه رماية في عماية. ومن هنا يرد المشكل إلى أمرين: 1. الأول درجة العلم بالمؤثرات في الظاهرات الإنسانية 2. وسائل التأثير ومناهجه. فتعود المسألة كلها إلى الاستراتيجية السياسية والحربية في الجماعة وبين الجماعات ودوافع الصراع بين البشر في نفس الجماعة أو بين الجماعات المختلفة وتوظيفاتها في الفوضى الخلاقة. وإذن فالفوضى الخلاقة سلاح يمكن أن يستعمله العدو في غزوه لجماعة يستهدفها بالسلاحين العنيفة اللطيف ويمكن أن يستعمله من يتصدى للغازي بالتغيير في جماعته من أجل جعلها محصنة ضد استراتيجية العدو في استعمال هذا السلاح. والأدوات والطرق واحدة في الحالتين والهدف مختلف بحسب الاستراتيجية. وليكن مثالنا استعمال الاستعمار لعاملي الطائفية والعرقية في مستعمراته بمنطق فرق تسد. فهو إذن يريد أن يغير نظام تجاوزهما بنظام سابق والنكوص إليه، وهو ما يحصل حاليا في المغرب مثلا من خلال استعمال الصراع العربي الأمازيغي في المغرب والجزائر وحتى في تونس: الفوضى صراع بين نظامين. والاستعمار قبل ذلك أعطى للنخب العربية جرثومة الدولة القومية التي كانت ممكنة عنده لما كان بوسعه أن يفرض بالقوة التنميط العرقي والثقافي والطائفي بالتصفيات الفيزيائية للأقليات. لكن ذلك أصبح ممتنعا في عصرنا ومن ثم فالدولة القومية فكرة لم تعد صالحة وهي تحقق ما يطلبه العدو من فوضى. فلا يمكنك أن تفرض القومية العرقية أو حتى الثقافية بمنع الأعراق الأخرى التي توجد في نفس القطر من أن تفعل مثلك، فتكون أنت الذي دفعت إلى الفوضى الخلاقة ونفس الشيء بالنسبة إلى الطائفية: لا يمكن لإيران أن تبني دولة طائفية من دون محو الطوائف الأخرى ونفس الشيء يقال عن جل بلاد المشرق. وهذا يعني أن جل ما يسمى بالفوضى الخلاقة في إقليمنا متقدمة على الغزو الأمريكي للعراق وهي بدأت منذ أن أرادت نخبه استبدال نظام سابق بنظام لاحق دون مراعاة فروق السياق الحضاري، ولعل أهم عملية أدت إليها هو تبني الدولة القطرية ومعها طبعا ما صنعه الاستعمار الجغرافيا الإسلامية. فما حصل في الغرب ليجعل الدولة القومية ممكنة أعني التوحيد العنيف للأقوام والأديان والثقافات وهي عملية حدثت في نفس الوقت الذي نشأت فيه الدول الأوروبية الحديثة ونشأت اللغات الأوروبية التي بدأت خاصة في إيطاليا رغم أنها آخر دولة توحدت في أوروبا الحديثة. وكل من له دراية بالتاريخ الأوروبي يعلم كم دامت فيها الحروب الدينية والتصفيات الفيزيائية للمذاهب والاعراق من منتصف التاريخ الوسيط إلى منتصف التاريخ الحديث، أعني إلى بدايات الانتشار الغربي في العالم في حركة الاستعمار واكتشاف العالم الجديد والتصفيات العرقية التي لم تتوقف إلى الآن. وما حرب تشيكوسلوفاكيا وتفتتها في البلقان بالأمر البعيد وما حرب الكاثوليك والبروتستانت في انجلترا بالأمر البعيد كذلك ومن ثم، فظاهرة الفوضى الخلاقة بهذا المعنى بوصفها صراع تغيير الأنظمة ليست خاصة بإقليمنا بل هي ظاهرة كونية ملازمة لتاريخ الإنسان. وسأدرس وجهيها الموجب والسالب.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي