الفلسفة السياسية – او العلوم السياسية وأدواتها – 6

– أو العلوم السياسية وأدواتها –

الجزء السادس



لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



تمهيد

يمكن ان أعلن الآن -وقد وصلنا إلى غاية التمهيد لدرس فلسفة السياسة- أن هذه المحاولات إضافةً إلى ما تقدم عليها مما كتبت في السياسة والاستراتيجيا تمثل ما يمكن أن أطلق عليه اسم الاستدراك على المقدمة أو بشيء من حسن الظن في الاجتهاد قدر المستطاع المقدمة الثانية التي طلب ابن خلدون أن تكتب لمواصلة ما يعتبر نفسه قد وضع حجر الأساس منه لا غير
إذ قال في خاتمة كتابه :

“وقد كدنا أن نخرج عن الغرض. ولذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه. وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاء له.
ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح وعلم مبين يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا.
فليس على مستنبط الفن احصاء مسائله وإنما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه.
والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل.
والله يعلم وانتم لا تعلمون”1.

وقد سبق فنشرت كتابا كاملا لشرح هذه الخاتمة لاستنتاج ما ينتظره ابن خلدون -بعنوان فلسفة التاريخ الخلدونية: دور علم العمران في عمل التاريخ وعلمه- صدر منذ ما يقرب من العقد عن الدار المتوسطية للنشر (تونس 2007).
لكن المقدمة لا يفيها حقها إلا ما طلبه ابن خلدون في هذه الخاتمة.

وعلى ذلك عزمت في هذه المحاولات في فلسفة السياسة أو علم السياسة وأدواتها ليس لمواصلة مشروع ابن خلدون فحسب بل وكذلك لتمكين شباب الثورة من فهم الفعل السياسي الذي أصبح في متناولهم بعد الثورة لأن ذلك كان شبه محظور طيلة قرون الانحطاط الذاتي والانحطاط المستورد بمرحلتيه (الاستعماري المباشر وغير المباشر).

ويمكن أن يعتبر هذا العمل المدخل الثاني من منطلق الفلسفة وليس من منطلق تفسير القرآن لفهم الفعل السياسي عامة والفعل السياسي الذي أنشأ الأمة الإسلامية إنشاء جعلها في دخولها الأول للتاريخ تكون ممثلة للكوني ممارسة وتنظيرا ولهذا فعنوان المقدمة لم يتضمن مفهوم العمران الإسلامي و المجتمع الإسلامي بل نسبه إلى البشرية و الإنسانية.

والله ولي التوفيق.

الحصر النسقي لمقومات السياسة

نحاول في القسم السادس القيام بالحصر النسقي لمقومات الظاهرة السياسية مادة وصورة بلغة ابن خلدون.
ولكن ذلك يكون بالانطلاق من غاية السعي الأخير إلى تحديدها.
فقد آل كلامنا إلى بيان المرحلة المقبلة من السياسي التي نعلم أحاديثها مابعد الحداثية ولا نعلم أحداثها.

فأحاديث الفكر السياسي ما بعد الحداثي تملأ ساحة الفكر الحالي.
لكن أحداثه لم تتحدد بعد رغم إرهاصاتها لأنها تمثل مستقبل الحل لأزمة العولمة التي جعلت العالم شبه دولة واحدة دون سلطة سياسية واحدة رغم تشاجن قوى النفوذ المتجاوز للحدود والذي يكاد يلغي مفهوم السيادة على الأقل بالنسبة إلى جل البلدان الضعيفة في العالم.

وسبق أن قلنا إننا نعلم بخصوص الماضي القديم أحداث الواقع السياسي (الدولة الفرعونية والبابلية مثلا) دون أن يكون لدينا أحاديث نظرية تخص النظر السياسي قبل المحاولات اليونانية التي تعد حاليا أول تنظير للفعل السياسي.

ومثلما تكلمنا سابقا في هذه الحالة التي مطلوبها الحديث الغائب (فكر الماضي السياسي المتقدم على فكر اليونان القديم) فإننا سنتكلم الآن في الحالة التي مطلوبها الحدث الغائب (الحدث السياسي ما بعد أحداث التاريخ الغربي).

وفي الحالتين كان ابن خلدون دليلنا إلى الجواب لفهم ما ينتظره من الغائبين
ونعلم أنه لا يمكن أن يتحقق إلا فرضيا من وضع تحديد لطبيعة السياسي عامة.

لذلك فنحن ننطلق في هذا الفصل من بعض القواعد التي تتفق عليها الجماعة العلمية شروطا لتحديد أي علم بموضوعه ومنهجه.

شروط علمية أي معرفة

فإذا كان فعل السياسة موضوعا قابلا للعلم
فينبغي أن نفترض أن علمه -في عالم الفرض العلمي الذي يتوسط بين عالم الأعيان وعالم الأذهان والذي يبدعه العقل- نماذج لما يفترضه منظومة قانونية للظاهرة التي يدرسها
فهو ككل علم لموضوع قابل للعلم حائزا على خاصيته التي يحاول العلم تخيل نموذج نظري يكون هو أحد تحققاته لاتصافه بما يفترضه النموذج له من قوانين وأحكام:

  • فتكون السياسة بما هي فعل ذات طبيعة تجعلها تكون ما هي وبمقومات محددة قابلة للحصر الدقيق الفاصل بين المقوم وغير المقوم.
  • وتكون أعيانها بما هي فعل لا تختلف بما فرض مقوما لطبيعتها التي يشترطها علمها من اشتراك خصائص كلية هي مادة معرفتها.

ومعنى ذلك أن ما تختلف به أعيانها لا يعدو أن يعتبر من الأعراض التي لا يعنى بها العلم حتى وإن كنا لا ننفي ظهورها في التطبيق الذي يأخذ بعين الاعتبار سياق التطبيق والعناصر المتدخلة فيه.
والمعلوم أن هذه الأعراض مما لا يتناهي ولا يتحدد إلا بسياقه.

ولعل الخلط بين هذين الامرين علته عدم فهم جوهر المعرفة العلمية.
فهي لا تتعلق بالموجود في الأعيان بل بنماذج لبنى ما يفترض قوانين الظاهرة التي تعد تلك الأعيان أمثلة منها.
وهذه البنية مجردة مما يعرض للموضوع ليس بمعنى أنها مستقرأة منه بل بمعنى أنها تتصوره في عالم الظاهرات العلمية المختلف تماما عن عالم المدركات الحسية.

إن العلم يطلب قوانين الظاهرات التي هي موضوعه في ما يشبه العالم المثالي -كما نتكلم على السقوط في فضاء خال من المؤثرات- وهو ما يمثل عالما مجردا شبيها بعالم صنع النماذج للحقائق التي تمثل جوهر موضوعات المعرفة ولا يعنى بالاعراض غير القابلة للحصر العلمي.
ولا يمكن أن نفترض السياسة موضوعا قابلا للعلم من دون اعتبارها ظاهرة من هذا النوع لتكون قابلة للعلم.
ينبغي أن نفترض أن لها طبيعة تحدد بنيتها القانونية ومراحل تكوينيتها.
ومراحل التكوينية العلمية هي التي تبين كيف ينتقل الحديث المتعلق بموضوعها ومنهجها من اللاعلمي إلى العلمي.
فإذا صرنا قادرين على وضع نموذج نظري يفسر جل ما يعد من خصائص موضوعها الذي هو السياسي نقول إننا قد بدأنا نصل إلى علميتها.

المقومات وتكوينيتها

تلك هي القضية التي شرعنا في دراستها والبحث في فرعيها
المقومات
وتكوينيتها
في مسعى العلم لتحديدها وحصرها.

وهدف هذا الفصل السادس اثبات هذين المبدأين.
ولا يمكننا أن نثبتهما من دون أن ندحض نظريتين سيطرتا على غاية الفكر الحديث وأعدتا إلى ما بعد الحديث:

  • أولاهما تنفي أن يكون للظاهرات الإنسانية خصائص الموضوع العلمي المتجاوز لما فيه من محددات التاريخ الطبيعي (نيتشه).
    وذلك هو المضمون الجوهري لنظرية نيتشة عن الأكاذيب المفيدة التي يرد إليها كل ما يتجاوز حقائق القانون الطبيعي أو النظرة الداروينية.
  • والثانية تنفي أن تكون تلك الخصائص متجاوزة لما تقول به المادية الجدلية التي لا تختلف كثيرا عن محددات التاريخ الطبيعي(ماركس).
    وذلك هو المضمون الجوهري لنظرية ماركس في أشكال السياسة والقانون بنية فوقية وإيديولوجية علمها هو علم أساسها المادي.

لكن ما يسمى بعامل التاريخ الطبيعي (نيتشه وما يترتب على نظرته من علم نفس بايو-اجتماعي كوني) وبالأساس المادي والبنية التحتية (ماركس وما يترتب على نظرته من علم اجتماع بايو اقتصادي كوني) ليسا هما في محاولتنا إلا أحد عناصر مادة العلم السياسي التي هي أوسع بكثير كما نبينه.

أما صورة هذه المادة المنظمة لها فليست مقصورة على ما يمكن أن يرد إلى مجرد أكاذيب صالحة (نيتشه) أو أيديولوجيا (ماركس).
فما تهتم به صورة العمران أو السياسة -حكما وتربية- حاجات بنيوية أعم في كيان الإنسان والجماعة هي مقتضيات العيش الجمعي سواء كان في جماعة معينة أو بين الجماعات لأننا ننطلق من نظرية ابن خلدون التي تمثل حقيقة السياسي بوصفه واحدا في نفس الجماعة أو بين الجماعات.
وذلك لأن كل جماعة تنتظم بنفس المحددات.
فالمحددات التي تستدعي الانتظام واحدة والمحددات التي تحققه واحدة كذلك في الداخل أو في الخارج حتى وإن اختلف المقدار.
الفرق كمي لا غير.

نيتشه: هل ما ليس بعضوي في الإنسان مجرد أكاذيب مفيدة؟

فالأكاذيب المفيدة التي يتكلم عليها نيتشه أهمها هي هذه الكذبة التي يقول بها نتيشه نفسه والتي تفيد البعض وتقضي على الكل.
فليست هي إلا رد تاريخ الإنسان إلى التاريخ الطبيعي المشترك مع الحيوان.

ذلك أن الكذبتين اللتين حددناهما في الفصل الخامس هما المرحلتان المعدتان لهذه الكذبة الكبرى:
فالتأسيس الإيدلوجي لتاريخ العلم على كذبتي المعجزتين الموجبتين يقتضي تأسيس عنصرية العرق الأعلى.
ومن ثم فلا بد من تأسيس هذين الكذبتين على كذبتي المعجزتين السالبتين اللتين تقتضيان تأسيس الوجه الثاني من العنصرية أي العرق الادنى.

وحصيلة الكذبات الأربع هي وجها العنصرية.
ولما كان واحد من الوجهين يمثل الادنى والثاني الاعلى فهما مبنيان على القول بتطور من جنس تطور الأنواع الذي يقتضي أن يكون الأعلى هو الأحق بالوجود.
وفي ذلك تأسيس على التاريخ الطبيعي لحقه في أن يقضي على الأدنى.
وتلك هي الكذبة الحصيلة التي ترد تاريخ الإنسان إلى التاريخ الطبيعي.

وإذا كانت الداروينية تتأسس على البحث عن المراحل بين الأدنى والأعلى ووجوه الشبه التي تجعل الاعلى هو أفضل ما كان في الأدنى ومن ثم فهو الباقي فإن العكس هو الذي يحصل في الحضارة بحيث يعتمد التبسيط إلى إهمال المراحل الوسطى لجعل ما يحصل عند الأعلى خاصا به ولا دخل للأدنى المزعوم فيه.
ومعنى ذلك أن الترتيب الزماني يصبح تراتبا قيميا:
التالي يلغي السابق.

وقد بينت في كتاب شرعية الحكم في عصر العولمة أن اعتبار الديموقراطية أفسد نظام لم يكن خطأ بل هو حقيقة تأكدت في عصر العولمة:

  1. فعيوب الديموقراطية كان يخفيها أنها تبدو عادلة في الداخل لأنها تستعمل مفاسدها في الخارج:
    حتى يرضي المرشح ناخبيه لا بد له من خارج يستعمره لينهبه ويطبق عليه نفس السلوك القبلي البدائي الذي يجعل القبيلة الأقوى تنهب القبيلة الأضعف.
    الفرق الوحيد هو أن القبيلة أصبحت دولة تعتبر متحضرة.
  2. لكن زوال الفاصلة بين الداخل والخارج أوضح هذه الحقيقة وهي أن الديموقراطية ينبغي أن تكون من جنسين:
    واحدة تطبق نفس النظام المشار إليه في أولا على الشعوب الأضعف
    والثانية تكون في خدمتها وتطبقه على شعبها لتكون هي أداة تحقيق ما كانت تحققه الأولى.
    وذلك هو الفرق بين الاستعمار المباشر والاستعمار غير المباشر.
  3. لكن زوال الحدود وتحول العالم إلى سوق واحدة سيقلب العلاقة فيصبح النوع الثاني بالتدريج منافسا للنوع الأول بقانون سوق العمالة
    فيضطر الأول إلى الحد من حقوق شعبه
    ويصبح بالتدريج مثل الثاني لأنه لن يجد من يستغل
    أو يلجأ إلى الحرب الدائمة ليمنع الشعوب الأخرى من تحقيق شروط منافسته.
  4. لكن شبابه الذي ربي على “الدلال” لن يستطيع القيام بهذه المهمة
    فيتحول إلى متلذذ بالعيش الحيواني والاستسلام لما يسميه ابن خلدون بالترف
    ويصحبه الغرق في المخدرات والعنف المجاني وكل ما يعبر عن الشعور بما يمكن أن نصفه باللامعنى أو الابسورد.
  5. وذلك هو المناخ الذي يسيطر بالتدريج على منطق العولمة
    لأن أصحاب التفوق التكنولوجي لن يحافظوا عليه إلا باستيراد أصحاب التفوق البايولوجي
    فتصبح المعمورة في حرب أهلية عامة يمكن لأي فرد أن يوقف الحياة في أكبر مدن العالم.
    وذلك هو مناخ الإرهاب العام وإرهاصات التصور السياسي الوارد في أحاديث ما بعد الحداثة.

ماركس: هل ما ليس بمادي في الجماعة ليس بمؤثر سياسيا؟

مرت النظرة الماركسية في الحقيقة بمرحلتين دون اعتبار لمرحلة ماركس الشاب التي ما يزال فيها بعض من مثالية المدرسة الهيجلية.
سنكتفي بالمرحلتين اللتين يمكن تسمية أولاهما بالماركسية الكلاسيكية والثانية بمحاولات تعديل الماركسية بعد اكتشاف أهمية الدور الذي يؤديه ما يسمونه بالبنية الفوقية وما ينسب إلى الإيديولوجيا.

ففي المرحلة الكلاسيكية رغم القول بالجدل فإن الماركسية ترجع التغير والتطور إلى تأثير ما تسميه بالبنية التحتية في كل ما عداها وأن ما ينسب إلى البنية الفوقية هو ما يسمى بالإيديولوجيا اي ما ينتج عن الأولى ليس ليدل عليها بل ليدل على محاولات تحريفها وإخفائها من أجل تأبيد سلطان أصحابها.

وحتى يستثنوا نظريتهم من الوسم بالإيديولوجيا
فإنهم سموها علما ولم يتساءلوا عن طبيعة العلم ما هي:
فهل هو من البنية التحتية؟
وهل هو مادي الطبيعة؟

لكن ما يعنينا هو النظرية السياسية ومركزها نظرية الدولة.
فاعتبارها مجرد أداة طبقية واعتبار الطبقية ظاهرة يمكن تجاوزها يعني أن الدولة ستزول بزوالها تليها دكتاتورية البرولتياريا التي بالتدريج تلغي ظاهرة الدولة بالغاء ظاهرة الطبقية لأن ملكية أدوات الإنتاج تصبح ملك الجميع دون تعيين لهذا الجميع
وهو في الحقيقة ظاهرة دولة بمعنى جديد تكون في آن دولة وكنيسة دنيوية.
ويصبح الجميع عبيدا لديها:
عودة للدولة الفرعونية بعد أن تحقق فيها ما نصح به يوسف فرعون في القصة التوراتية (تحول الملاكين إلى أقنان عند الفرعون وحكمه وما يناظره في الماركسية أي الحزب والنومونكلاتورا).

النظام السياسي الحالي في أكبر دولتين

وبذلك نصل إلى شكلي الحكم الحاليين في الوضع الراهن لما يسمى ديموقراطية ولما يسمى اشتراكية
فالأولى تبينت لوبيوقراطية الأمريكية (نيتشه)
والثانية تبينت بيروقراطية الصينية (ماركس)

والفرق الظاهر هو التعددية في الأولى والوحدانية في الثانية.
لكن
لما كانت الثانية متعددة التيارات واللوبيات الداخلية في الحزب الواحد
ولما كانت الأولى متحدة الرأس في الظاهر
فإن الشكلين يشتركان كلاهما في الطابع الخفي للسلطان الفعلي الذي هو من طبيعة مافياوية حتما.

وهذا التلاقي يمكن فهمه بعلل فشل الشكل الماركسي الذي تبين أنه في الحقيقة لم يثبت إلا بمجرد الإيدلويوجيا لعلتين:
فحصوله كان تكذيبا لنظريته لأنه
تم حيث كان لا ينبغي أن يحصل
ولم يحصل حيث كان ينبغي أن يحصل
وكلا الأمرين تكذيب صريح لدعوى علمية نظريته:
توقع أن تكون الاشتراكية غاية الراسمالية
فحصلت الثورة التي يسمونها اشتراكية في المجتمعات الزراعية
ولم تحصل في المجتمعات التي يسمونها راسمالية.

إن بقاء الأنظمة التي تسمي نفسها اشتراكية اعتمد على عاملين منافيين للغاية التي وضعتها النظرية:

  • تحرير البروليتاريا فإذا بها قد أصبحت أكثر عبودية
  • والتحرر من الدولة فإذا بها أصبحت أكثر حضورا.

والجمع بين التكذيبين بلغ الذروة في تحول العقيدة الماركسية إلى كل ما كان يتهم به الدين

  • لأنها أصبحت أفيون الشعوب بحق
  • ولأن الأحزاب صارت بابوية وكنسية لا تقوم بوظائف الدولة السياسية بل هي تجمع ما يناظر وظائف الكنيسة الروحية

فالماركسية بذلك تحولت إلى دين أحكامه عقائد لا تقبل النقاش ولا تعرض على النقد العلمي مع كل ما عرفته الأديان المحرفة من استهانة بكرامة الإنسان وتعذيبه ونفيه وتحريقه وحتى إفنائه
كما حدث في بعض بلاد آسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا التي تمركست.

وفي النهاية حصل الانتقال إلى الشكل الثاني من الماركسية
إذ فرضت عليه التجربة وخاصة في إيطاليا والصين اعتبار تأثير البنى الثقافية والعوامل التي كانت تتهم بكونها من البنية الفوقية لكونها من الإيديولوجيا:

  • ففي الصين كانت تجربة فشل الثورة الثقافية (دور تجربة ماو وزوجته في محاولة تغيير الثقافة الصينية وفشلهما في ذلك).
  • وفي ايطاليا كانت تجربة ضم الرمزي وعدم الاقتصار على المادي إلى العوامل المؤثرة (دور جرامشي).

فكان لعامل الثقافة البوذية الصينية ولعامل الثقافة الكاثوليكية المافياوية ما للبنية التحتية من التأثير أو ربما أكثر.

ما علة هذا المآل الإنساني الكوني؟

نحن الآن في مرحلة تبدو وكأنها أشبه بالبداية.
فعندنا حديث ما بعد حداثي عن شكل سياسي لم يتحدد بعد أشبه ما يكون بالشكل العائد لمقومات السلط الدنيا في الجماعات والتي منها سينبجس نظام سياسي غير بين المعالم.

وهنا نأتي إلى محاولة التأسيس العلمي الذي ننسبه إلى ابن خلدون والذي يعالج البداية الفرضية لتكون الأنظمة السياسية في الجماعات البشرية.
فكلامه على موضوع السياسة الأساسي كان كلاما كونيا
لا يقتصر على مرحلة دون أخرى من تاريخ الإنسان
ولا على حضارة دون أخرى
ولا يميز بين عللها من حيث هي ظاهرة تصور جماعة بعينها

بل كلامه يتعلق بالظاهر السياسية من حيث هي ظاهرة تصور
الوجود المشترك في داخل أي جماعة
وبين الجماعات في خارج كل منها
لأن المعمورة ايضا تشبه الدولة العالمية التي تخضع لنفس المحددات حتى وإن لم يصغ ذلك في دستور معلن يعالج ما بين الجماعات التي تمثلها دول من قضايا لا تختلف من حيث الجنس بل من حيث الكم عن القضايا التي لأجلها وجدت الدول في كل جماعة.

فما يحدد السياسة عامة وقلبها خاصة -الدولة- هو أن الإنسان لا يمكنه أن يعالج
العلاقة بين البشر أولا ولنسمها بالعلاقة الأفقية
والعلاقة بينهم وبين الطبيعة ثانيا ولنسمها بالعلاقة العمودية
من دون علاج القضيتين اللتين جمعهما ابن خلدون في عنوان كتابه
ومن دون وصل ذلك
بما يتفرض ما وراء يوسع آفاق الإنسان وأحيازه الخمسة (المكان وثمرته والزمان وثمرته والمرجعية)
وبما يحرره من ضيق العالم الواقعي إلى عالم يعتبره أكثر واقعية منه
وهو عالم يظن في الفكر المشكك فيه عالم المخيال
وهو في الاساس ما يسمى عادة بمجال الماورائيات الدينية والفلسفية:
العمران البشري أو شروط الحياة والبقاء عامة.
الاجتماع الإنساني أو شروط الاستمتاع بالحياة.

شروط التحقيق والمنع

ولما كان الممكن من تحقيق هذه الشروط والحائل دون تحقيقها في آن يأتيان من علاقة البشر بعضهم بالبعض (ولنصطلح عليها بالعلاقة الأفقية) أو من علاقتهم بالطبيعة (ولنصطلح عليها بالعلاقة العمودية)
فإن مشكل السياسة هو علاج هذه المسائل الأربعة (المحقق والمانع في العلاقتين).

وأصل هذه المسائل الاربعة هو المجال الذي تجتمع فيه مسائلها:
إنه الفعل السياسي موضوع العلم المؤسس للحل الخلدوني في نظرية السياسة والتاريخ في آن
أعني نظرية الإنسان أو الانثروبولوجيا الفلسفية الدينية التي انطلق منها.

فهو يجمع بين خصائص الإنسان:

  • من منظور فلسفي خالص
    • أي الخصائص العضوية (سد الحاجات المادية موضوع الاقتصاد)
    • والخصائص العقلية (سد الحاجات الروحية موضوع الثقافة).
  • ومن منظور ديني خالص
    • بما يسميه استعمار الإنسان في الأرض بالتعاون والتعاوض
    • واستخلافه فيها بأخلاق التعاون والتعاوض وقيمه المعنوية خاصة.

وهذان المنظوران يتفقان على أن الإنسان محتاج للتعاون ومتصف بالعدوان بسبب التنافس على ما يسد به حاجاته.

وهنا يتبين أن ثورة ابن خلدون لم تتمثل في إعادة تحديد علم التاريخ فحسب بل وكذلك في إعادة تحديد علم السياسة والفلسفة المؤسسة لمنزلتهما في عمارة المعرفة الإنسانية.

  • الطبيعة التاريخية للفلسفة
  • والطبيعة الفلسفية للتاريخ

فالتاريخ لم يعد علم أحداث الحكم والبلاط ليس لأنه انفصل عن السياسة بل لأن السياسة نفسها لم تعد مقصورة على الحكم بل أصبحت صورة للعمران (ماديا الحكم ومعنويا التربية).
ومن ثم فالتاريخ حافظ على صلته بالسياسة التي تغيرت طبيعتها ولم تعد مقصورة على الحكم بل صارت شاملة لكل صورة العمران كما سنبين حتى وإن كانت تبدو جزءا منه.

والفلسفة لم تعد علم الكليات البريئة من التغير ومن ثم غير التاريخية بل هي بدورها أصبحت حصيلة جهد تاريخي هو تراكم الخبرة المعرفية التي تبني الكلي تاريخيا ولا تكتشفه موجودا كما تدعي نظرية الحقيقة المطابقة التي تعتبره عين بنى الموضوع وليست محاولات لصنع نموذج مجرد يفترض مطابقا لبنى الموجود.

وبهذا الشمول ففعل السياسة ودوره في التاريخ أصبح موضوع علم هو العلم الرئيس البديل من الميتافيزيقا في هذا الدور:
ذلك أن العلم الرئيس المؤسس لما عداه من العلوم (بوصفها تنطلق من تسليم موضوعها ومنهجها) هو بدوره ظاهرة اجتماعية لا تفهم من دون صورة الاجتماع التي هي بالجوهر السياسة المصورة له تصويرها لتأسيس الجماعات وشروط علاج القضايا التي تنتج عن حاجتها للتعاون والتبادل والتعاوض وخاصة للتحامي.
ذلك أن تأسيس الجماعة علته الحاجة إلى التعاون وتأسيس الحكم علته الحاجة إلى الحد من العدوان لجعل التعاون ممكنا داخليا في نفس الجماعة وخارجيا بين الجماعات المتجاورة.

فتكون الدولة مفهومها صورة الجماعة التي تقوم بالدورين التاليين:

  1. دور الرعاية (ما يستمد من العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة من شروط العيش وعنف الطبيعة): والشرط هو التعاون لسد حاجات الحياة أي خاصة الغذاء والدواء.
  2. دور الحماية (ما يستمد من العلاقة الأفقية بين البشر من شرط هو التحامي لحماية الشرط الأول بالأمن الداخلي والخارجي).

وكلا الدورين بحاجة إلى العلوم والصناعات بوصفها أهم أدوات الدولة.
ويجمع بين الدورين تحويل هذا الحل إلى ثقافة وأخلاق عامة لئلا يقتصر التصوير على الوزع الخارجي بل يصبح الوزع داخليا بفضل التربية والوعي بضرورة الوجود الجمعي وشروطه السياسية والخلقية.
وهذان الدوران لا يخلو منهما اي مجتمع بل أي جماعة مهما صغرت من أدنى قبيلة إلى أكبر إمبراطورية.
وقد جمع القرآن ذلك في مفهومين هما:
أطعمهم من جوع
وآمنهم من خوف.


-1- المقدمة ص.528-529


– أو العلوم السياسية وأدواتها –

الجزء السادس


يرجى تثبيت الخطوط
عمر HSN Omar والجماح ياقوت AL-Gemah-Yaqwt أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ومتقن الرافدين فن Motken AL-Rafidain Art وأميري Amiri
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي