الفلسفة السياسية – أو العلوم السياسية وأدواتها – 4

الجزء الرابع



لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



مقدمة

أحصينا في الفصل الثالث خمس مراحل معلومة في تأسيس علم السياسة وتحولاته النوعية (الفكر السياسي) وهي في الغالب مناظرة لمراحل الفكر الفلسفي الأساسية (لأن السياسة هي في الحقيقة العلم الرئيس وليس الميتافيزيقا كما بين ابن خلدون).

  • المرحلة اليونانية: تفكير أفلاطون وأرسطو في المقابلة بين سقراط وكاليكلاس في تعريف طبيعة السياسة.
  • والمرحلة الإسلامية: تفكير ابن تيمية وابن خلدون في المقابلة بين أصلي الشرعية السياسية النقل والعقل.
  • والمرحلة الكلاسيكية: تفكير هوبز وروسو في المقابلة بين نظريتي العقد باسم شرط الأمن أو شرط الكرامة.
  • والمرحلة الحديثة: تفكير هيجل وماركس في العلاقة بين الأساسي الروحي أو المادي لشرعية السياسي.
  • والمرحلة ما بعد الحديثة: تفكير في العلاقة بين الجلي والخفي في كل سلطة أو نهاية الديموقراطية التقليدية”.

وبين أن هذه المراحل تتخللها ثغرات مهمة غاب فيها ذكر ما يعتبر نوعا من الإرهاصات التي أعدت لهذه المراحل بوصفها تحولات كيفية في الفكر السياسي.
لذلك فلا بد من الكلام على هذه المراحل المعدة للتحولات الكيفية قبل كل مرحلة وهي حتما تمثل وجهين:

  1. وجه التحسس القاطع مع ما تقدم على التحول الكيفي ببيان ما يحول دونه.
  2. وجه التحسس الواصل إلى التحول الكيفي الذي يمكن اعتباره زبدتها.

نظرية الزمان التاريخي وإشكالياتي البداية والغاية في النظرية السياسية

وقبل البدء في الكلام على هذه المراحل المعدة للتحولات النوعية لا بد من التذكير بنظرية الزمان التاريخي التي وضعناها لتمييزه عن الزمان الطبيعي.
فهي الشرط الضروري والكافي لتعليل كيفية تكون بداية النظرية السياسية و غاية الواقع السياسي.

والزمان التاريخي كما بينا في وضع هذا المفهوم سابقا يتألف من خمسة أبعاد وليس من ثلاثة لأنه يجري على مستويين.
فهو زمان الأحداث وزمان الأحاديث حول الأحداث التي يمكن أن تعاصرها وأن تتأخر عنها وأن تتقدم عليها لذلك فهو مؤلف من الأبعاد التالية:

  1. أحداث الماضي السابقة على أحاديثه
  2. أحاديث أحداث الماضي اللاحقة
  3. الحاضر حيث تكون الأحداث والأحاديث متلاحمة ومتزامنة.
  4. أحاديث المستقبل السابقة على احداثه
  5. أحداث المستقبل اللاحقة.

وما نلاحظه هو أننا شبه متأكدين من أحداث ماضي الدول وسياستها المتقدمة على أحاديث الماضي كما بلغت إليه درجة التنظير اليوناني.
وهذه الحقيقة تصح على كل علوم اليونان:
فلكأنها عديمة الأحاديث المعرفية التي أوصلتها إلى مرحلة العلم.
لا نجد في ما تقدم عليها إلا أحداثا غير مشفوعة بأحاديث تعد للنظرية.

ولعل أهم ما يمكن أن يعد أحاديث ذات صلة بها وذات دلالة نظرية بعض ما نجده في الكتب الدينية المتأخرة زمانيا عن الأحداث وحتى على الأحاديث اليونانية كما في قصة يوسف عليه السلام بخصوص ما يمكن أن يعتبر نظام الموضوعات التي هي مادة الفكر السياسي (الحب والاقتصاد ودور المعرفة في تنظيم سد الحاجات وخصائص الحكم وعلاقة ذلك بمصدر القيم أو برهان الرب).

كما نلاحظ أننا شبه متأكدين من العكس بالنسبة إلى أحاديث النظرية المتقدمة على مستقبل الدول التي ستلي أحاديث المستقبل الذي بلغ درجة التنظير ما بعد الحداثي الغربي:
فكيف ستكون السياسة وأنظمة الحكم بعد فشل الأنظمة الديموقراطية وتحولها إلى اوليغارشيات لأنها من طبيعة مافياوية؟

التمييز بين المراحلتين الحدين الناقصتين و المراحل الثلاث الوسطى الكاملة

وبين أن المرحلتين الحدين تختلفان اختلافا جذريا عن المراحل الثلاث الوسطى أي المراحل العربية والكلاسيكية والحديثة.
فهذه المراحل الثلاث نعلم بصورة شبه تامة التوازي بين أحداثها السياسية وأحاديثها النظرية لعلم السياسة.
وستكون بداية الكلام على هذه الثغرات والإرهاصات انطلاقا من قلب هذا الثالوث الذي هو في آن قلب المخمس.
فالإعداد إلى المرحلة الكلاسيكية الواصل بين إرهاصات المرحلتين اليونانية والعربية قبله وإرهاصات المرحلتين الحديثة وما بعد الحديثة بعده يمثل أكثر المراحل وضوحا من حيث التوازي بين الحدث والحديث.

لكن تركيزي سيكون على المرحلة العربية الإسلامية لعلتين:

  • أولا لأنها مهضومة الدور في تاريخ الفكر عامة والفكر السياسي خاصة
  • وثانيا لأني من البداية اخترت أن انطلق من رمز هذه المرحلة أعني ابن خلدون.

أبستمولوجيا السوالب أو العوائق الإبستمولوجية

ومثلما مثلت المراحل النوعية قفزات مترابطة في النظرية السياسية بوصفها تغيرا ابستمولوجيا موجبا في طريق بناء العلم فإن المراحل الإرهاصية هي بدورها مترابطة بوصفها تغيرا ابستمولوجيا سالبا في طريق تجاوز المعيقات التي كانت تحول دون ما تؤسس له من قفزات.
وهذا الوجه الإبستمولوجي بعيد الغور.

لذلك فساقتصر عليه في هذا الفصل الذي يضاف إلى ما أحصيته في الفصل السابق.
ولا بد من تحليل أبعاده ودلالاتها الفلسفية والابتسمولوجية في تأسيس أي علم وفي تأسيس علم السياسة على وجه الخصوص.
فهو ذو صلة متينة بنظرية الزمان التاريخي ودور التساوق والتوالي تقديما وتأخيرا بين الأحداث والأحاديث.

فيكون للتوازي بين الواقعات الموضوع (مادة المعرفة: الأحداث) والواقعات الصورة (صورة المعرفة: الأحاديث) تاريخان ليسا متطابقين أبدا ما يقتضي ان يكون بينهما دائما عملية مزدوجة تذهب من أحدهما إلى الثاني:

  • المذهب الأول تأويل الأحداث بعملية تجريد تجعلها أحاديث وهي ترجمة رمزية لوقائع فعلية:
    وذلك هو المعين الأساسي لكل لغات العلوم وأهمها الوسميات والرياضيات.
  • المذهب الثاني هو تعين الأحاديث بعملية تعيين تجعلها أحداثا وهي ترجمة تقنية لرموز مجردة:
    وذلك هو المعين الأساسي لكل تطبيقات العلوم وأهمها تكنولوجيا التواصل والمعلومات.

أعماق العوائق الابستمولوجية

وكلا المذهبين يعبران عن علاقة بين ما يسميه ابن خلدون
بالعمران البشري (حيث تبرز الحاجة إلى ما يستمد من المعرفة من أدوات وطرق تحقق ما تسد به الحاجات المادية خاصة)
وبالاجتماع الإنساني (حيث تبرز الحاجة إلى ما يستمد من المعرفة من أدوات تحقق ما تسد به الحاجات الروحية خاصة).

ولما كان سد الحاجات المادية مشروطا بالمعرفة مثله مثل سد الحاجات الروحية فإن سد كل الحاجات يؤول في الغاية إلى ما به يكون الإنسان متمكنا بما يميز نوعه في الجنس الحيواني وهي ملازمة للسياسة أو بصورة أدق لموضوعها الأساسي أي الدولة .
وقد حدد ابن خلدون منبع كل الحاجات التي تؤسس لدور الصناعات والمعارف في موضوع السياسة مرجعا إياه إلى وظيفة الدولة:

“وايضا فهنا سر آخر وهو أن الصنائع وإجادتها إنما تطلبها الدولة. فهي التي تنفق سوقها وتوجه الطلبات إليها. وما لم تطلبه الدولة وإنما يطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتها لأن الدولة هي السوق الأعظم وفيها نفاق كل شيء. والقليل والكثير فيها على نسبة واحدة. فما نفق فيها كان أكثرها ضرورة”1

كل علم له تاريخان لازدواج زمانية التاريخ الإنساني:
تاريخ بنائه ويتعلق بالأحاديث والأحداث التي أسهمت في وضع النظرية العلمية.
وتاريح إزالة عوائقه ويتعلق بالأحداث والأحاديث التي أسهمت في الحيلولة دون وضع النظرية العلمية.

وإذن فنحن سنتكلم اليوم على العوائق التي بتخطيها أمكن بناء العلم .
وسنكتفي بالحالة التي غابت فيها:
الأحاديث التي تقدمت على التأسيس الأول لنظرية السياسة (ماقبل اليونان)
والأحداث التي تتأخر على التأسيس الأخير لنظرية السياسة (ما بعد الحداثة).

وطبعا فكلامنا سيكون مبنيا على الفرض الترجيحي وليس على المعرفة اليقينية:
ذلك أننا لا نملك أحاديث علمية تنظر لأحداث ما تقدم على الفلسفة السياسية اليونانية المتوفرة.
كما لا نملك أحداثا فعلية تؤيد أحاديث ما يتأخر عن الفلسفة السياسية ما بعد الحداثية المتوفرة.

في المخرج من وجهي الدور الهرمينوطيقي

فيكون مشكلنا هو عين الدور الهرمينوطيقي بوجهين لم يكن التمييز بينهما ممكنا قبل أن نضع نظرية الزمان التاريخي المخمس.
وهي نظرية تمدنا بشرطي الخروج من مأزق الدور الهرمينوطيقي بصورة غير تحكمية كما يظن التأويليون.
فالخروج من الدور في الحالتين يفترض ضمنا القول بالتناظر بين الأحداث والأحاديث والانطلاق من أحد الصنفين مرجعية لتأويل الثاني طلبا لهذا التناظر.
وكل إبداع إنساني نظريا كان أو عمليا معرفيا كان أو ذوقيا لا بد فيه من تناظر بين مرجعيتين:
إحداهما تمثل دور الأحداث
والثانية تمثل دور الأحاديث

أو إن شئنا فدور الرمزي المادة والرمزي الصورة في العلاقة بين الصوغ والمصوغ هو مربط الفرس في الدور الهريمينوطيقي وفي المخرجين منه.
فالخروج من الدور يتمثل في الحالة الأولى عندما نضطر للانطلاق من تأويل الأحداث بأحاديث فرضية لنصل إلى ما نعتبره مطابقا للأحداث المتوفرة: النوع الأول من تحقيق التناظر.
وهو يتمثل كذلك في الحالة الثانية عندما نضطر للانطلاق من تأويل الأحاديث باحداث فرضية لنصل إلى ما نعتبره مطابقا للاحاديث المتوفرة: النوع الثاني من تحقيق التناظر.

والأول تأويل للأحداث بالنظرية العلمية التي تفسر الأحداث التي توضع نموذجا رمزيا نتصور أن الأحداث لا تكون متناسقة إلا إذا افترضنا أنها خاضعة لما يقرب منه من منظومة قوانين تحكمها.

والثاني تأويل لأحداث الوقائع العلمية التي تضفي التناسق على الأحاديث فنفترض وراء الأحداث بنية قانونية تمسك بها وتجعلها على ما هي عليه.

وهذه العملية هي جوهر ما بعد القول العلمي الذي يجعل العلم يعود على نفسه ليدرك ثغراته في ضوء شرط التناسق المنطقي أو في ضوء شرط التناسق التجريبي:
وتلكما هما وجها كل علم من حيث هو ترجمة للوقاع رمزيا وللرموز واقعيا.

في علاقة المخرجين بمنطق القرار أو الحسم العملي

لكنه كذلك هو جوهر منطق القرار أو الحسم العملي:
ففي لحظة معينة لا بد لصاحب القرار من أن يحسم بما يفترضه من تناظر بين الأحداث والأحاديث.
وفي كلتا الحالتين يكون القرار وكأنه فعل عنيف يوقف لا تناهي الفعل اللطيف ليحسم.

ذلك أن الأحاديث لا تتوقف باي حديث إذ يوجد فيها دائما ما يمكن الاعتراض عليه:
لذلك فاحاديث القول العلمي قد لا تتوقف لو كان مطلبها التناسق المنطقي دون الاحتكام إلى تناسق وقائع التجربة العلمية.
وأحداث الفعل العملي قد لا تبدأ لو كان مطلبها التوافق الحواري دون الاحتكام إلى تناسق الخبرة العملية لصاحب القرار.

وقد حاول ديكارت أن يحسم هذه القضية بما سماه المنهج الذي يحرر حكم العقل المتناهي القدرة الفعلية من تحكم الإرادة لامتناهية القدرة الخيالية.
لكن العلاج هو ما نقدمه هنا بالمزاوجة بين المخرجين من الدور التأويلي.
والسياسة هي بالجوهر مراوحة بين المخرجين:
فصاحب القرار متردد دائما بين أحاديث لا تنتهي وأحداث لا تنتظر.
ومثله قائد الحرب وصاحب المشروع الاقتصادي في معركته مع المتنافسين.

التضايف بين بعدي كل علم

ومفهوم الوقائع ومفهوم الرموز متضايفان:
الوقائع هي في الحقيقة الموضوع.
وقد يكون الموضوع هو بدوره منظومة رموز كما في علم اللسانيات والوسميات والرياضيات والمنطقيات.
فكلها موضوعها من جنس فعلها تعود عليه لتجعله مادة لعلمها,

وكذلك السياسة فهي من جنس العلوم التي موضوعها من جنسها:
نسبة السياسة (فعل تصوير لأحداث الجماعة) إلى التاريخ (علم بنية فعل التصوير الجمعي)
هي نسبة الرياضيات (فعل تصوير للموضوع) إلى المنطق (علم بنية فعل التصوير).

التاريخ كعلم هو مابعد السياسية كعمل.
والمنطق كعلم للتصوير النظري هو ما بعد الرياضيات كعمل للتصوير النظري.
لكن عمل التاريخ هو السياسة كعمل.
والمنطق كعمل هو الرياضيات كعمل.
وذلك هو جوهر تعين الوجهين لما يسمى بالدور الهرمينوطيقي.
لا سياسة نظرية من دون ممارسة عملية

لذلك فالكلام في السياسة من حيث هي علم يبقى منقوصا ما لم يشفع بها من حيث هي عمل.
وقد قال إرسطو وهو يصيب في غالب ما يقول إن الشاب يمكن أن يكون عالم رياضيات لكنه لا يمكن ان يكون عالم سياسيات لأنه لا يستطيع أن يكون عامل سياسيات.

وما يقوله ابن خلدون عن القضية العكسية فليس قصده أن العالم بالسياسيات أبعد الناس عن عمل السياسيات بل هو يقصد المتكلمين والفقهاء والفلاسفة قبل وضعه لنظريته السياسية:
ذلك أنهم جميعا يكتفون بالمنشود ولا يعلمون أن السياسة هي علم تغيير الموجود ليقترب من المنشود بصورة تجعل التغيير لا يقتصر على العنف بل يستعمل حيل السياسة التي ترواح بين العنيف واللطيف من أدوات التغيير:
وتلك هي معادلة الحكم والشوكة والتربية والشرعية في كل عمل سياسي.

المسألة الأولى: علم السياسة وغياب أحاديث ما قبل اليونان.

كل مقومات الدولة والسياسة حاصلة ليس في دولة “وطنية” فحسب بل في امبراطوريات حول “جماعة” سيدة قبل اليونان بآلاف السنين.

ولنا منها في الإقليم مثالان بينان هما الدولة المصرية والدولة البابلية.
فهي دول ذات مؤسسات حماية داخلية (قضاء وأمن) وخارجية (دبلوماسية ودفاع) وجهاز مخابرات استعلامي وإعلامي داخلي وخارجي يشرف على هذه الوظائف الأربع الملازمة للدولة بما هي دولة كما بينا في نظرية الدولة الثابتة التي وضعناها لدحض المتكلمين على غياب الدولة في الإسلام.
وهي دول ذات مؤسسات رعاية تكوينية (تربية ومجتمع مدني) وتموينية (ثقافة واقتصاد) وجهاز بحث علمي استعلامي وإعلامي داخلي (لدراسة المجتمع) وخارجي (لدراسة الطبيعة) من أجل تحقيق الرعاية (الغذائية والصحية المادية والنفسية).
وكل ذلك بممارسات علمية وتجريبية لا ينكرها إلا القائلون بنظرية المعجزة اليونانية.

لكن كبار الفلاسفة -أفلاطون وأرسطو- يؤكدون أن هذه الممارسات لم تبق مجرد ممارسات بل كان لها تنظير راق.
والمثال الأرقى هو علوم الرياضيات وتطبيقاتها الفلكية والاقتصادية وفيهما كليهما لنا شهادة أفلاطون وأرسطو التي تثبت أن ذلك حاصل قبل اليونان في مصر وبابل كعلوم نظرية حقيقية وليست ممارسات عفوية كما يزعم أصحاب المعجزة اليونانية التي وضعها عنصريو النهضة الأوروبية لتأسيس دورهم في التاريخ بنفي دور غيرهم سواء العرب قبلهم أو الشرقيين قبل اليونان.

صحيح أن الوثائق الدالة على التنظير منعدمة (انظر ما شرحنا في كلامنا على الرياضات في كتاب الرياضيات القديمة ونظرية العلم الفلسفية) لكن الوثائق الدالة على مقومات الدولة متوفرة:
المؤسسات والمدونات القانونية
وأخيرا المعالم الحضارية التي لا يمكن ان تحصل من دون ما وصفنا من وظائف الدولة حماية (الخمسة) ورعاية (الخمسة).

وإذا كان أهم كتاب نظري في فلسفة السياسة هو كتاب السياسة لأرسطو -لا كتاب الجمهورية ولا كتاب الشرائع ولا رسالة السياسة الأفلاطونية ثلاثتها- فإن ذلك يعني أن ما كان في الأحداث المتقدمة على اليونان دون وثائق نظرية باقية هو عين ما صار في الأحاديث الأرسطية كما يبين هذا الكتاب وخاصة كلامه حول الدساتير في جرده لها (انظر ترجمة طه حسين لهذا الجرد الأرسطي).

لكن ما حدث في المرحلة العربية الإسلامية كان نقيض ما حصل لدى أرسطو.
ذلك أن كتاب السياسة لم يترجم رغم أن أهم نتائجه ومقدماته معلوم لديهم على الأقل من خلال كتاب أخلاق نيقوماخوس.

ما سيطر على الفكر السياسي العربي الإسلامي يمكن أن يرد إلى مصدرين:

الأول هو المعركة بين الثورة الإسلامية وموروث الإقليم الفارسي البيزنطي. وهذا هو الذي تغلب على مجريات الأحداث فصار عائقا أمام النظرية الإسلامية للدولة: وهو جوهر الفتنة الكبرى أعني معركة الخيار بين نظام الحكم الثيوقراطي (التشيع) ونظام الحكم الديموقراطي (التسنن).
والحصيلة هي أن تاريخ الوقائع السياسية كانت أميل إلى الأول في الأحداث وأميل إلى الثاني في الأحاديث المبررة لها بفقه السلاطين من الفوضى والرضا بالنظرية المؤسسة لشرعية المتغلب وفقه الاستسلام للقدر.

الثاني هو المعركة بين تأويلات النظرية الإسلامية للدولة في علم الكلام والفقه المعارض اللذين بقيا هامشيين لا يتجاوز فكرهما الأحاديث وغياب التأثير في الأحداث.
ونحن اليوم أمام نفس الإشكالية ولكن في مناخ التبعية وليس في مناخ الحضارة التي تعالج قضايا ذاتية لها بكامل السيادة على أحداث تاريخها وأحاديثه.

ورهان الثورة هو تحقيق شروط التحرر من التبعية في حين أن الثورة المضادة بسند من أصحاب الاستتباع والاستضعاف يحاولون العودة إلى الوضع السابق.
لكن ذلك بات مستحيلا لأن الشعب العربي أصبح واعيا بأن الاستبداد والفساد في الداخل بالاستتباع والاستضعاف في الخارج:
وإذن فالثورة ثورة تحرر وتحرير في آن.
ولهذه العلة عزمت على كتابة هذه المحاولة في النظرية السياسة.

وسنرى كيف حلت القفزة النوعية عند ابن تيمية وابن خلدون لوضع مفهوم السياسة بمعناها الحديث رغم خروج ثمرة عملهما عن معترك الجماعة العلمية بسبب خروج الحضارة الإسلامية من التاريخ لمدة القرون الخمسة الأخيرة.
وإذا كان لمحاولتي من فضل فهو ما أريد بيانه من تناظر بين الارهاصات النظرية في الأحاديث والعملية في الأحداث التي أدت إلى ثورتهما الفلسفية عامة وفي فلسفة السياسة خاصة.

المسألة الثانية: علم السياسة وغياب أحداث ما بعد الحداثة.

وإذا كانت المسألة الأولى كما أسلفنا بينة العلاقة بما حصل لدورنا في تقدم المعرفة الإنسانية من إهمال جعل ما تقدم على الغرب الحديث شبيه المصير بما حدث لما تقدم على اليونان فإن المسألة الثانية لا تتعلق بإهمال الدور بل بمحاولة الحيلولة دون الدور.

فغياب أحداث ما بعد الحداثة وتأثيره في النظرية السياسية يطابق ما يغلي به الحاضر من محاولة لفرض المنظور الواحد للتاريخ الإنساني والزعم بأنه قد انتهى وأن كل محاولة لاسترداد اي حضارة غير الحضارة الغربية دورها شبه مستحيل.

فكر ما بعد الحداثة السياسي يمكن رده إلى نظرية ما حققه فكر الحداثة:
أي إن فكر الحداثة كان “فوضى خلاقة عالمية” أدت إلى تفكيك كل العرى التي تمسك بالحياة البشرية وردها إلى عروة وحيدة هي عبادة العجل واعتبار كل القيم مجرد أدوات.

إنها نظرة نيتشوية داروينية للوجود الإنساني من حيث هو إرادة القوة والعود الأبدي لمعركة معارك الإنسان من حيث هو حيوان لا يحكمه إلا قانون التاريخ الطبيعي حيث تكون كل المعاني المتعالية عليه مجرد مخدرات وأكاذيب لا تتجاوز تبريره.

وإذا كان للثورة العربية الإسلامية من معنى فهو الدحض التاريخي الفعلي لهذه العدمية التي تتمثل في عنوان حيوي مصحوب بتعال قيمي هو المحرك الأساسي وليس مهارب من العدم بل علاجات لشيخوخة من أصبحوا لا يرون إلا العدم بسبب موت ما لديهم من حيوية حتى وإن كان كلامهم يزعم الاحتكام إلى قانون الكائنات العضوية: الداروينية والنيتشوية.

تلك هي الاحداث المستقبلية التي ستكون تعيينات فعلية لنقائض فلسفة ما بعد الحداثة السياسة من حيث هي عودة للجماعوية والتفتيب العنصري للإنسانية.
وهذه التعيينات الفعلية هي الكونية الإسلامية كما تحددها الآية الآولى من سورة النساء.


-1- المقدمة دار الكتب العلمية بيروت د.ت. الباب الخامس فصل 19 ص.317)


الجزء الرابع


يرجى تثبيت الخطوط
عمر HSN Omar والجماح ياقوت AL-Gemah-Yaqwt أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ومتقن الرافدين فن Motken AL-Rafidain Art وأميري Amiri
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي