الجزء الثالث
لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص
نشوئية أو تكوينية أي علم
من المعلوم أن نشأة العلوم وتكوينيتها تمر بمرحلتين:
- إحداهما تاريخية تراكمية تشبه الاستقراء المتدرج لحصر مقومات موضوعها ولتحديد خصائص منهجها.
- والثانية شبه فرضية استنتاجية تضع تعريفا مؤقتا للموضوع وللمنهج.
وهذه هي البداية الحقيقية للعلم لأن الفكر ينتقل من مصادفات ما يلقاه في الأعيان إلى نسقية ما يبدعه في الأذهان.
وهذه المقابلة تختلف عن نظرية كنط الذي يعتبر العلم ينشأ عندما نعكس نظرية المطابقة في المعرفة فنمر من تشريع الموضوع للعقل إلى تشريع العقل للموضوع.
ذلك أن العقل في هذه المرحلة الثانية لا يشرع للموضوع -بخلاف ما يظن كنط- بل يبني نموذجا فرضيا مما يتصور أنه يمكن أن يفسره بتناظر بين مقومات النموذج الرمزية ومقومات الموضوع الطبيعية.
والعلم شديد التواضع ولا يزعم أبدا أن العقل يشرع للموضوع الذي يبقى دائما ملتبس الطبيعة ويحوطه ما لا يتناهي من المجهول فلايدعي التشريع للموضوع ذاته.
وعندئذ يستغني عن المقابلة بين الظاهرات والباطنات لأنها مقابلة ميتافيزيقية لا شيء يثبتها فضلا عن عدم فائدتها الابستمولوجية وحتى الخلقية (لتأسيس استثناء حرية الإنسان من الضررورة الطبيعية).
لذلك فضلت شخصيا المفهوم الحد للغزالي “طور ما وراء العقل” على المفهوم الحد لكنط “الشيء في ذاته”.
فالأول بريء من التناقض في قول يطلق العلم بوجود اللامعلوم بإطلاق.
وبهذا المعنى فإن المرحلة التاريخية هي بدورها فيها شيء من هذا السلوك المبدع للنماذج شبه الفرضية حتى وإن لم تصبح بعد منهجا نسقيا:
ذلك أن كل مرحلة من مراحل الاستقراء تشبه البحث في الوجود عن أعيان فيها الصفات التي انطلق منها الفكر لحصر الموضوع.
وهذه الطريقة شبيهة جدا بما يسمى في اصول الفقه بتحرير المناط:
فالفكر ينطلق من حكم تشريعي ويحاول البحث عن المحكوم فيه أعني الموضوع الذي يتعين فيه التكييف الوارد في الحكم.
فيكون الحكم من جنس النموذج الذي يبنيه العلم كما يبني المشرع حكمه التشريعي.
ولا فرق بين التشريع الديني والتشريع الوضعي:
فكلاهما يضع نموذجا قيمي لسلوك فعلي بهدف تنظيمه والسلطان عليه.
الفرق هو في طبيعة السلطان:
- هل هو قيمي إنشائي
- أم هو معرفي خبري.
الأول في التشريع
والثاني في العلم.
وقد بدأنا عملنا بحل ابن خلدون لهذه العلة.
فهو بالقياس إلى ما تقدم عليه -من المسلمين ومن اليونان- اختار الطريقة الثانية -المنطقية- وقد حاولنا فهم ما أوصلت إليه.
وسنعود إليه في غاية الدروس لنبين أن حله يتضمن المراحل الخمس التي مر بها تاريخ الفكر السياسي رغم أنه كان في غاية المرحلة الثانية منه.
وليس في ذلك ما يستدعي العجب لأنه اختار التأسيس المفهومي الجامع بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين لوضع انثروبولوجيا فلسفية دينية فريدة النوع.
سهم طريقتي التأسيس
لكننا الان نريد أن نحدد سهم الطريقتين في وضع علم السياسة بشكله الراهن من خلال ما يسهم فيه الحصر التاريخي المتدرج لمقومات الموضوع وخصائص المنهج.
فكلا هذين الأمرين عندما نحاول درسه في النشوئية التاريخية لأي علم أعني الحصر الموضوعي والتحديد الحصري يحصل بطريقتين:
- باستقراء عناصر التحديد المفهومي (منطق)
- وباستقراء عناصر الماصدق (تجربة) أو الصادقية (بمصطلح ابن خلدون).
والهدف من العملية هو ملء خانة خاوية في منظومة المعرفة تبرز في لحظة من لحظات تطورها ببعديها النظري والعملي.
والخانة الخالية تبرز :
- إما في الممارسة الفعلية وغالبا ما تكون عملية
- أو في الممارسة الرمزية وغالبا ما تكون نظرية.
وإذن فالمنظومة المعرفية عملية كانت او نظرية هي التي بإبراز هذه الخانة الخاوية فيها نظريا وعمليا تستدعي ما يشبه الطلب لسد حاجة نظرية وعملية.
فيحصل ذلك بالمراوحة بين
- التحليل المنطقي لمفهوم يحدد الموضوع ويفترض قابلا لملء هذه الخانة بتحديده من ثلاثة أوجه:
- مقوماته
- ومقدمها الشارط لكونها كذلك
- وتاليها المشروط بكونها كذلك.
- والاستقراء التجريبي لصادقية ذلك المفهوم التي تجعله قابلا لملء الخانة الخالية من ثلاثة أوجه كذلك.
- عناصره التي يحددها المفهوم
- وعللها التي يحددها المقدم
- ومعلولاتها التي يحددها التالي.
ذلك أن التحديد المفهومي ينطلق من مجموعة خصائص تعتبر حدا جامعا مانعا مؤقتا لمجموعة عناصر يحيط بها ذلك المفهوم:
وتلك هي علة التناظر بين المسلكين المنطقي والتجريبي.
وإذن فكل علم يتولد بما يشبه القسمة العضوية المضاعفة التي تجري في منظومة المعرفة السابقة على هذه العملية مفهوميا وصادقيا لأن العلم الجديد الذي بدأ ينفصل بوصفه واحدا منها يسد خانة تحضر فيها بغيابها.
فكما بينت في كتاب الإبستمولوجيا البديل لتجاوز فلسفة الوعي إلى فلسفة الرمز من حيث هي ممارسة من قوة أعلى فإن المعرفة هي دائما ثمرة ممارسة إما فعلية للاشياء أو رمزية لاسمائها.
وهي في الحقيقة جامعة بين الممارستين الفعلية للاشياء والرمزية لاسمائها مع تقديم وتأخير بحسب المراحل وغلبة خلاء منظومة “الوقائع” أو منظومة رموزها.
وهي إذن تجريبية دائما إما بممارسة الأشياء أو بممارسة الرموز التي هي في الحقيقة أشياء كذلك.
ولكنها من جنس أكثر فاعلية لأنها لا تقتصر على الأعيان بل تتجاوزها إلى الكليات التي تحتويها.
وتلك هي مزية الاسم على المسمى.
فالمسمى عيني دائما والاسم كلي دائما -باستثناء اسم العلم وهو في الحقيقة ليس اسما بل علامة عين أو إشارة إلى عين- وتلك هي علة الفرق بين النظر والعمل الإضافيين إلى الأشياء.
ولكن بالمطلق فحتى النظر ممارسة لأشياء من جنس خاص هو الرموز التي تتجاوز العيني إلى الكلي وهو إذن بلغة منطقية علاج مدخله المفاهيم لا الصادقيات.
والعلة العميقة لتقدم المفهومي على الصادقي هي أن المفهوم يمكن أن يتناول اللامتناهي لكن الصادقي يمتنع عليه ذلك.
فلا يمكن أن أحصر العناصر في المجموعة اللامتناهية حصرا صادقيا لكني قادر على حصرها حصرا مفهوميا.
وهذا التمييز يحررنا من المقابلة السطحية بين النظر والعمل إذا تجاوزنا هذا المعنى الإضافي.
فالنظر والعمل متلاحمان دائما ولا يختلفان إلا بهذه العلاقة إلى الأعيان.
ولعل أول من لمح إلى ذلك دون الغوص في دلالاته هو الفارابي في كتاب الحروف عندما ميز بين التعليم بالمحاكاة والتعليم بالأقوال.
فالتعليم بالأقوال الذي يحكي ما يتعلم بالأفعال هو بداية التنظير الذي هو جنس آخر من الأفعال.
لكن أرسطو كان يعتبر النظري هو عين التعليمي بهذا المعنى:
أي إن الفيلسوف هو معلم الفن بمفهوماته وليس بتقنياته الممارسية.
وهذا بالضرورة يتقضي وجود عالمين:
- عالم الأشياء
- وعالم أسمائها أو رموز كلياتها.
وفي الحقيقة فإن كل المجتمعات البشرية وليس العلوم وحدها ليست إلا شبكة مخمسة من الاشياء والروموز ودور الاشياء في الرموز ودور الرموز في الاشياء.
وأصل هذه المستويات الاربعة هو التلاحم بين مستويي الوجود المادي والروحي والتفاعل بينهما
وهو ما يدحض نهائيا المقابلة الساذجة بين الهيجلية والماركسية.
وإذا كنا قد بجلنا ابن خلدون فاعتبرناه المؤسس الأتم لفلسفة السياسة فلأنه تجاوز هذه المقابلة الساذجة وبين بعدي السياسي:
- الحكم (الوازع الأجنبي)
- والتربية (الوازع الذاتي).
فالتعليم بالاقوال هو الأفعال الرمزية وهي عالم النظريات والمبدعات العقلية التي تمثل مسرحا أوسع من مسرح الأعيان الشيئية والفعلية التي من جنس التقنيات والممارسات الخالية من التنظير.
وبهذا المعنى فكل من مارسوا الحكم من الأسرة إلى الدولة مرورا بكل المؤسسات الوسيطة بينهما لهم شيء من تقنيات السياسة الفعلية.
وبعضهم يمر حتما إلى المستوى القولي حتى في قالب نصائح ممن حكموا لأبنائهم حتى يواصلوا الحكم وحتى يجنبوهم ما بينت لهم التجربة ضرره وتلك هي الخبرة.
لكن الخبرة ليست علما حتى وإن كانت معرفة وهي بداية تجاوز العمل الغفل نحو العمل المسبوق بالفكرة والمصحوب بها بسبب ما تلاه من تدبر لنتائج التجارب السابقة أو الخبرة.
العلاقة بين تاريخ الفكر السياسي و علم السياسة
وإذا كنا ننطلق عادة من الفكر السياسي اليوناني فليس معنى ذلك أن الحضارات المتقدمة لم يكن لها ما يمكن أن يكون قد أعد له إذا قسنا هذا الفكر بفكرهم في مجالات العلوم الأخرى مثل الرياضيات والفلكيات.
وهذا ما سأحاول الآن الكلام فيه بخصوص نشوئية علم السياسة من خلال حالات نموذجية يمكن اعتبارها قد حددت بالتراكم مقومات موضوع العلم وخصائص منهجه.
لكن يبقى أن نشير إلى أمر مهم:
فهذه العملية على أهميتها ليست من علم السياسة بل هي من تاريخ النظريات السياسية التي مثلت مراحل نشوئيته.
ويمكن اعتبارها مقدمة تمهيدية لعلم السياسة وهي قابلة لأن تفهم المتعلمين بصورة متدرجة التحديد الاستقرائي لموضوع العلم ولخصائص منهجه نظرية وممارسة.
فالنسبة بينهما كالنسبة بين أي علم وتاريخ الأفكار التي أعدت إلى تأسيسه أو التي أحاطت بتأسيسه كعلم.
ولا ينكر أحد أنها قد أسهمت في تبين مقومات موضوعه وخصائص منهجه.
موضوعنا ليس تاريخ الأفكار السياسية حول الحكم والدولة والسلطة بل هو حقيقة هذه الظاهرات من حيث هي موضوع علمي بنية ومكونات وقوانين.
لكن ذلك لا يستثني استعمال التاريخ لغايتين: تحديد
اللحظات المؤسسة للعلم
والتحولات النوعية في نظرية المقومات والبنية والقوانين.
ولهذه الغاية سنميز بين خمس مراحل معلومة في هذا التأسيس والتحولات النوعية وهي في الغالب مناظرة لمراحل الفكر الفلسفي الاساسية.
- المرحلة اليونانية: تفكير أفلاطون وأرسطو في المقابلة بين سقراط وكاليكلاس في تعريف طبيعة السياسة.
- والمرحلة الإسلامية: تفكير ابن تيمية وابن خلدون في المقابلة بين أصلي الشرعية السياسية النقل والعقل.
- والمرحلة الكلاسيكية: تفكير هوبز وروسو في المقابلة بين نظريتي العقد باسم شرط الأمن أو شرط الكرامة.
- والمرحلة الحديثة: تفكير هيجل وماركس في العلاقة بين الأساسين الروحي أو المادي لشرعية السياسي.
- والمرحلة ما بعد الحديثة: تفكير في العلاقة بين الجلي والخفي في كل سلطة أو نهاية الديموقراطية التقليدية.
خطة الدرس
وهذه المراحل الخمس قبلها وبعدها و بين كل اتثنين منها مرحلة اعدادية لا تعتبر من المراحل المؤسسة لكنها تشبه التراكم الكمي الذي ينقلب إلى طفرة كيفية.
وقد قسمناها إلى نوعين الأول و الثاني
- فأما النوع الأول فيجمع بين مرحلتين تتميزان بخاصية عجيبة :
- فالأولى -ما قبل اليونان- نعلم أحداثها و ليس لدينا أحاديث حولها
- و الأخيرة -مابعد الحديثة- نعلم أحاديثها وليس لدينا أحداثها
- وأما النوع الثاني فيتضمن الأربعة المتوسطة بين كل اثنين من المراحل الخمسة التي نعلم أحداثها و أحاديثها و نريد فهم
- كيفية مشاركتها في تحقيق الطفرة التي تلتها
- و صلتها بالطفرة التي تقدمت عليها.
وتلك هي المراحل التمهيدية التي ستقدم الكلام في العلم ذاته الذي هو ليس مقصورا على مراحل نشوئيته بل يتجاوزها لمقوماته البنيوية ولخصائص منهجه.
وهذه المسائل كما سنرى قابلة للحصر من منطلق مفهوم الدولة الذي هو الموضوع الحقيقي لعلم السياسة بشرط أن نفهم الدولة كما حددها ابن خلدون.
فهي صورة العمران والاجتماع ببعديها الفعلي (الحكم) والرمزي (التربية) لتحقيق شرطي الحياة الإنسانية أي الحماية (داخليا وخارجيا) والرعاية (في العلاقة بالطبيعة وبالحضارة).
وبهذا المعنى فإن للدولة مقومات هي:
- مصدرا وجودها المادي (القوى السياسية) والرمزي (المرجعية المحددة للقوى السياسية)
- نظام تعيين ممثلي إرادة الجماعة (الدستور والاخلاق الموضوعية) والتداول على الحكم.
- وظائف الدولة العشرة (خمسة للحماية وخمسة للرعاية)
- أدوات فعلها الرمزي (القانون والشعائر السياسية والروحية) والمادي (المؤسسات والإدارة).
- نظام المراقبة الشعبية الدائمة للمثلي الإرادة أو نظام التعبير ونظام الإعلام.
ولما كان كل عنصر من هذه العناصر مضاعفا فمعنى ذلك أن عدد المسائل سيكون عشرة على أقل تقدير واحدة لكل عنصر.
وسنختم البحث بمسألتين:
- الأولى عودة إلى ابن خلدون وعلة جمعنا للمراحل الخمسة التي ذكرناها في النشوئية التاريخية لعلم السياسية برده إلى فعل تصوير يحقق مضمون مفهومين هما استعمار الإنسان في الارض واستخلافه فيها.
- والثانية محاولة فهم شروط رد الأمر كله إلى مفهومين قرآنيين انطلق منهما ابن تيمية لتحديد المقصود بالسياسة الشرعية حتى وإن لم يتمكن من بيان ذلك في محاولته: مفهوم الأمانة ومفهوم العدل.
وبذلك تكون خطة ما يمكن أن نعتبره درسا في الفلسفة السياسية.
نسأل الله العون على الانجاز الذي قد تتخلله انقطاعات طويلة بحسب طوارئ التاريخ السريع الحالي في دار الإسلام.
الجزء الثالث
يرجى تثبيت الخطوط
عمر HSN Omar والجماح ياقوت AL-Gemah-Yaqwt أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ومتقن الرافدين فن Motken AL-Rafidain Art وأميري Amiri
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/