الفلسفة السياسية – أو العلوم السياسية وأدواتها – 2

الجزء الثاني



لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



تمهيد:

حددنا أمس في الفصل الأول من الكلام على الفلسفة السياسية أو بلغة أكثر “حداثة” على العلوم السياسية التي تعتمدها الفلسفة السياسية طبيعة الإشكال لحصر مقوماتها وأدواتها العلمية.
فكل علم يتحدد بموضوعه وبطبيعة علاجه الذي يحدد بهذين الوجهين.
وعلومه الأدوات هي شروط علميته القابلة لأن نتحقق منها بها وبمدى فاعليتها فيه.

تعليل الانطلاق من ابن خلدون

لكننا انطلقنا من سلطة معرفية كثيرا ما يشكك المتعالمون في جدواها لأنها من الماضي رغم أنه دون الماضي المستعمل في الفلسفة الغربية بعدا والذي لم ينسه أصحابه.
استعملنا ابن خلدون.

فالكثير لا يرى حرجا في الإحالة إلى أرسطو وأفلاطون في الفلسفة السياسية ولا يتهمك بالماضوية.
لكنك بمجرد أن تذكر أي مرجعية عربية تتهم بالماضوية لفرط عقد المتهمين.
ولا بأس فالعقد ليس لها دواء.

ولنشرح علة اعتماد ابن خلدون منطلقا إذ ليس الدافع إيديولوجي طلبا لبديل مسلم .
إنما اخترته لأن علوم السياسة بمعناها الحديث لم تبدأ إلا معه.

العلة الأولى إضافة العامل الرئيس في السياسة.

فهو أول من اضاف العامل الرئيس الذي يمكن القول إنه الحد الفاصل بين السياسة واليتوبيا.
وما أضافه غير ما كان يتكلم عليه كاليكلاس ممثل النظرة السوفسطائية في الفكر السياسي.
فابن خلدون هو في الحقيقة أول المنظرين علميا لدور القوة باعتبارها مقوما اساسيا يستمد شرعيته من وظائف الدولة.
إنه أول المحددين لهذا الحد الفاصل بالمعنى الموجب لأن محدده بالمعنى السالب هو أفلاطون في رد سقراط على كاليكلاس.

ابن خلدون بين دور القوة في السياسة شرطا مقوما وموجبا مع بيان تصور ما يميز السياسة من غيرها الذي هو مفهوم اليتوبيا وأصل نظرية المدن الفاضلة.
صراع القوى مقوم حتمي داخليا (في نفس الجماعة) وخارجيا (بين الجماعات).
وصراع القوى في الجماعة الواحدة وبين الجماعات من نفس الطبيعة لأنه يحصل بنفس الدوافع.
والفرق الوحيد أنه لا توجد دولة عالمية وإلا لكان العلاج واحدا كذلك.

لكن ذلك لم يكن قابلا للتصور في الفكر اليوناني كما بين الفارابي الذي أضاف المستوى الرابع إلى المستويات اليونانية الثلاثة لمفهوم الجماعة السياسية: الأسرة والقرية والمدينة.
وهو انطلاقا من كونية الإسلام أضاف المعمورة.

والمعلوم أن أفلاطون بنى الجمهورية على نظرية التحرر من المعيقات الخمسة التي تحول دون جعل المدينة الفاضلة ممكنة.
وإذن فالسياسية هنا يتوبيا وليست سياسة بالمعنى الذي يتضمن هذه المعيقات بصورة موجبة في المنظور الخلدوني:
1-الحس
2-والملكية الخاصة
3-والجنس الخاص
4-والذوق الخاص
5-ومجموعها هو الفرد المتجاوز لمجرد وظيفته في جهاز الدولة.

إزاحة هذه المعيقات بمنطق أفلاطون هو شرط وجود الدولة العادلة لكونها هي مصدر الصراع.
ولا يمكن بناء مدينة فاضلة من دون تجريد الدولة منها.
وهو ما يعني الاكتفاء بالجهاز التكنولوجي ونفي لحمتها وسداها البايولوجية.
وهذا الموقف علته المقابلة بين المادة -معين الشر- والصورة -معين الخير-.
فيكون ما يسميه عقبات هو المادة الحية فلا تبقى إلا الصورة التكنولوجية أو المثال الصوري من الدولة.

لكن ابن خلدون يعتبر ذلك يتوبيا -وأرسطو أيضا رفض اعتبارها معوقات- إذ لو كان ذلك ممكنا لاستغنينا عن الدولة أصلا.
ومن ثم فالدولة ليست مشروطة بإخراج هذه العناصر من المدينة بل بجعلها ابن خلدون تقوم عليها بالجمع بين الشوكة والشرعية.
وتلك هي ثورته التي هي بداية جديدة للفكر السياسي-ومثلها مثل الكثير من العلوم- لم تنتظر النهضة الغربية لتحصل رغم تصديق البعص خرافة معجزة الغرب.

وخلال ما بين أفلاطون وأرسطو وابن خلدون لم يتجاوز الفكر الفلسفي النظرة الجامعة بين التصورين الأفلاطوني والأرسطي.
وكان التصور الأفلاطوني هو الغالب في مراكز الحضارة العالمية حينها لأن الفكر الفلسفي في السياسة ظل هامشيا إلا بما سنعود إليه من جدل حول أساس شرعية الحكم في الفكر الديني الكلامي.

وكنت قد بينت وهم المعجزة اليونانية دون نفي لدور اليونان ومثلها معجزة الغرب الحديث.
فالحضارات المتوالية أسهمت بأقدار في جهود الإنسانية.
وليس الغرب كما يتوهمون منفردا بتأسيس العلوم العقلية ولا النقلية.
فكلاهما لم يصلا إليه إلا بعد أن تقدمت فيهما الإنسانية أشواطا.
فلا الأديان ولا الفلسفات ولا خاصة تكوين مفهوم الدولة والأمة بحادثين فيه بل هما موروثان عن الشرق.

وسنرى في ما يلي من مراحل البحث كيف تكاملت نظرية الدولة التي هي مادة السياسة الأساسية.

العلة الثانية البديل من المصفوفة اليونانية للأنظمة السياسية

الأمر الثاني والأهم في ضرورة انطلاقنا من ابن خلدون -والفكر الحديث يجهله لذلك لم يعر نظريته ما تستحق من عناية- هو رفض مصفوفة الأنظمة الستة على اساس عدد الحكام (3) وأخلاقهم (2) وبيان أن كل الأنظمة مزيجة.
وطابعها المزيج يختلف عن معناه الأرسطي لأنه لا يتعلق بالمزج بين ما ورد في المصفوفة اليونانية بل بأمور أخرى لم تعينها المصفوفة.
فهي مزيجة مما حدده هو وليس مما بنى عليه اليونان نظرية الحكم والدولة:
فالنظام طبيعي(اي خاضع للتاريخ الطبيعي) بداية وغاية خاصة ولكن أيضا دائما.
لكن كل نظام سياسي يتطور دائما كذلك لأن فيه ما هو غير طبيعي أو كونه “مكنة” يصنعها الإنسان بتعاقد يلطف من التاريخ الطبيعي بما يمكن أن نسميه التاريخ الخلقي للإنسانية.

وتلطيف الآلة بالقانون الخلقي للقانون الطبيعي له أشكال.
ويذكر منها ابن خلدون خمسة هي أصناف العقود التي حددها في المقدمة:
العقلي المضاعف
والديني المضاعف
والمزيح منها جميعا مع الأرضية الطبيعية بوجهيها السابق (بداية) واللاحق (غاية) يحيطان بها.

والطبيعي يمثل مصدر الحياة والموت لكل حضارة في آن به تبدأ وإليه تنتهي.
فهو ما في الإنسان من عنيف دال على عنفوان بداية واحتضار غاية في صراع الطبيعة والثقافة.
ذلك أن كل جماعة هي في آن تداول أجيال بوراثة عضوية وبتراث ثقافي في محيط طبيعي ومحيط حضاري ما يعني أن التراكب بين بيئتين طبيعية وثقافية هو المادة التي تصورها الدولة وترعاها السياسة.

العلة الثالثة طبيعة السياسي

فتكون السياسة باتم معنى الكلمة هي محاولة التوفيق بين مقومي السياسي اي بين تاريخي الإنسانية الطبيعي (قانون الصراع والبقاء للأقوى) والخلقي (قانون تبريد الصراع ما أمكن).
فعند ابن خلدون الإنسان-بخلاف ظاهر قوله في الكلام على المدني بالطبع- مستعمر في الأرض كحيوان (العمران البشري) ويصبو لأن يكون مستخلفا فيها كإنسان متعال على الحيوان (الاجتماع الإنساني).

والفرق بين الإضافتين إلى مقومي موضوع السياسة (العمران البشري والاجتماع الإنساني) ومن ثم إلى القانونين -الطبيعي والخلقي- هو أن الإضافة الأولى مستمدة من فلسفة التاريخ والإضافة الثانية مستمدة من فلسفة الدين.

وتلك هي الانثروبولوجيا الفلسفية الدينية التي بنى عليها نظريته السياسية ونظرية العقود الخمسة التي ينصف الأنظمة بمقتضاها.
تلك هي نظرية الإنسان في فلسفته السياسية.

وإذن فمنطلق ابن خلدون انثروبولوجيا فلسفية دينية في آن:
فكما يتبين من عنوان المقدمة يميز بين
العمران البشري (مستعمر في الأرض)
والاجتماع الإنساني (مستخلف فيها)
فيقابل بين عنصري الزوجين الإثنين
الأول: البشري والإنساني
الثاني: العمراني والاجتماعي.

والمعلوم أن البشري مشتق من البشرة التي هي ناقل مدارك الحواس وهي العلاقة المباشرة بالطبيعة.
وان الإنسان مشتق من الأنس الذي هو ناقل مدارك الوجدان وهي علاقة غير مباشرة بالطبيعة بتوسط العلاقة الأولى.

الفاعلية السياسية

وإذن فالفاعل السياسي بشري في العالم المحسوس وإنساني في العالم اللامحسوس.
والعلاقة المباشرة بالطبيعة هي لسد الحاجات لكنها تعتمد على التعاون والتبادل والتعاوض.
وهذه التعاون والتبادل والتعاوض في سد الحاجات هو الذي يحتاج للوزعين الأجنبي (السياسة) والذاتي (الأخلاق ومنها الشكل الديني).

المفعولية السياسية

ومن التبادل والتعاون والتعاوض المحتاجة إلى الوزع بسبب ما في الإنسان من طبيعي وتنافس على ما تسد به الحاجات تتكون الدول وعنها تنتج المدن والدعة والحضارة.
وذلك هو المفعول السياسي ببعده
الأول أو العمراني (سد الحاجات المادية والاقتصاد)
والثاني الاجتماعي (سد الحاجات الروحية والثقافة)
والسياسي هو صورة الفاعل والمفعول بمستوييهما كليهما وهو حكم وتربية.
والحكم تغلب عليه الشوكة وازعا في المستوى الأول خاصة لأن سد الحاجات يولد التنافس والعدوان.
والتربية تغلب عليها الشرعية وازعا في المستوى الثاني خاصة يقلل من الحاجة إلى عنف الدولة الشرعي.

وإذن فالسياسة لا بد فيها من شوكة شرعية ومن شرعية ذات شوكة.
والتفريق بين الدول بالفصل بينهما ممكن في اليتوبيا.
لكنه ممتنع في السياسة الفعلية.

العلة الرابعة وجها الدولة (سلامة التحليل الخلدوني)

كيف نتأكد من سلامة التحليل الخلدوني؟
نتأكد من السلامة إذا بينا أن كل دولة أيا كان العصر تتضمن حتما هذين الوجهين
الطبيعي السابق (بداية) واللاحق (غاية)
وبينهما على أرضيته العقد العقلي بفرعيه والعقد الديني بفرعيه والجامع بينها.

فلنذكر ان الإشكال كله في السياسي هو ما في جهاز أي دولة من علاقة بين العضوي والتقني أو بين البايولوجي والتكنولوجي والفروق بين دوريهما السياسي.

إن الدولة كما أسلفنا “مكنة” أو”نظام آلي” هو
بنية مؤسسية ذات عمل شبه آلي تصفه قواعد تسمى قوانين وتراتيب
وهي تمثل خانات خالية يملؤها بشر تعينا حيا لفاعلية الدولة.

والبشر الذين يملؤون هذه الخانات خضعوا لـ”فورماتاج” بالتكوين وبالعرف حتى يدخلوا في تلك الخانات بتكوين فني ومعرفي يجعلهم يحققون ما لأجله صنعت الآلة المؤسسية.
ومعنى ذلك أن مثيل ما فرضته المرحلة الصناعية في الإنتاج المادي فرضته الدولة منذ بدايتها بنظامها الإداري على عملها وعلى القائمين به منذ نشأة الدولة.
ولعل أفضل الأمثلة ما نجده في الإدارة الفرعونية والبابلية بل وحتى في النظام الاجتماعي الهندي والصيني الذي حولوه إلى نظام ديني وعقدي هو من هذا الجنس.

وليس هذا التصور -بايولوجي تكنولوجي- استعاريا بل هو يعبر عن حقيقة الدولة.
فهي شخص معنوي له هذا الجهاز الذي هو بنية تكنولوجية مجردة تتعين في قائمين عليها من الحكام والإداريين.
وقيام هذا الجهاز في الأعيان مؤسسات ذات قواعد عمل شبه آلية.
وقيامه في الأذهان هو تربية القيمين عليه وتكوينهم بمقتضى عمل هذه الآلة ووظائفها التي تعود إلى جنسين : هما الحماية والرعاية.
وكلا الجنسين مضاعف:
فهو داخلي لتنظيم العلاقات بين افراد الجماعة وفئاتها
وخارجي لتنظيم العلاقات بين الجماعة والمحيط الطبيعي والسياسي الدولي.

تضايف الحاكمية و المحكومية

فالقائمون على هذا الجهاز العضوي-الآلي ليسو الحكام وحدهم بل هم الحكام والمحكومون في آن
سواء كان هؤلاء مسهمين في صوغ الجهاز وقواعده (كما يتوهم في الديموقراطيات)
أو لم يكونوا (في غير الديموقراطيات).

فالمحكومون يسهمون فيه بشروط المحكومية خاصة.
ذلك أن البشر لو لم يكونوا مسلمين بأن المحكومية من شروط قيام الجماعة لكانت الجماعة مستحيلة:
الحماية والرعاية تقتضيانها.

فوجود الجهاز وعمله لا يمكن من دون خصائص المحكومية السلمية التي تبقي على الحاكمية السلمية قائمة قياما تثبته التربية وتحميه الشوكة:
وهو معنى كيفما تكونون يولى عليكم.

المفهومان متضايفان.
لذلك فبمجرد تغير مزاج المحكومية
يحدث تغير في مزاج الحاكمية طوعا أو كرها لتتكيف وتكيف التناسب بين الشوكة والشرعية:
الطوع يقتضي الإصلاح الدائم للمكنة.
والكره يؤدي إلى الثورة.
وذلك ضروري لفهم وضعنا.

وهذا هو معنى التضايف بين الصفتين أو خاصيتي الحاكمية والمحكومية والتناسب بين الشوكة والشرعية.
ولهذا فأصناف الأنظمة تعتبر ثانوية عند ابن خلدون لأن خصائصها هذه موجودة فيها جميعا ولا تختلف إلا بالكم لا بالكيف.

المُزيتان السياسيان

وما يخفي حقيقة السياسة بوصفها حربا أهلية بالقوة -كامنة- ويحول دون تحولها لحرب أهلية بالفعل هو وظيفة “مزيت” المكنة السياسية ومنها الديموقراطية أو وهم المشاركة في تعيين من يملأ خانات المكنة.

لكن المزيت الحقيقي ذو صنفين: مادي ورمزي.
فالمادي يتعلق بالاقتصاد والثروة.
وله مستويات أدنى وأعلى.

فما هو في الخليج مكرمات ورشى من الحاكم للمحكوم مثلا ليس إلا شكلا بدائيا يناظره دور المال في انتخابات أمريكا.
كلاهما يزيت عمل المكنة بالمادة.
والتزييت يكون بعديا ومباشرا في الخليج
وهو قبلي وغير مباشر في الولايات المتحدة:
شراء الراي المباشر هناك
وشراؤه غير المباشر هنا.
وكلاهما إقناع غير عقلي.

شراء الذمم جزء لا يتجزأ من المكنة السياسية بمجرد أن تتنوع كيفية تسهيل عمل المكنة بتقديم الدوافع البدائية على الدوافع العقلية لدى الإنسان.

لكن المزيت الرمزي يتعلق بالثقافة والتراث.
ويمكن أن يعتبر بنفس القوة.
وهو ثقافي مثلما أن المزيت المادي اقتصادي.
والتزييت الرمزي هو التبرير الإيديولوجي والدعائي للخيارات السائدة.

وصراحة الحل الأمريكي تتمثل في عدم اعتبار ذلك غير أخلاقي بل هو عين أخلاقهم لأن المعبود كما أسلفنا هو العجل الذهبي والمصلحة النفعية المباشرة وما يبرره رمزيا أو ثقافيا.
ولا أظن الخليجي اليوم يشكك في أخلاقية المكرمات والرشاوى المساعدة في تزييت مكنة الحكم حتى رغم تصور النخب أن ما يجري في أمريكا ديموقراطية.
والتبرير الإيديولوجي غالبه ديني في هذه الحالة.
في الظاهر نسمي ما يجري في أمريكا نظام حكم ديموقراطي وما يجري في الخليج نظام حكم قبلي.
لكن عمل الآلة هو في آن خفي وموضوع جدل علني وصريح.
والآلة في الحالتين واحدة:
تزييت المكنة بالمال وبالرموز.

ولفهم هذه الظاهرة وضعت نظرية “رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة)”
والأولى تمكن من التزييت المادي
والثانية من التزييت الرمزي
لعمل الآلة التي تسمى دولة وحكما.

ويوجد فرق بين التزييتين بمقتضى تطور البنية الاجتماعية من البسيط إلى المعقد.
فالتزييت في أمريكا لا يذهب مباشرة إلى المحكوم بل لحاكم من جنس ثان بين الحاكم والمحكوم سياسيا.
إنها مكنة ثانية أعمق هي مكنة اللوبيات المصلحية والصحافة والشركات والكنائس أي كل ما يحقق شروط توجيه الرأي العام في الاتجاه الذي يجعل السياسي في خدمة ما هو أعمق منه.
والغالب على ما يجري في الخليج هو التزييت المباشر لقلة اللوبيات أو لبدائيتها لأن اقواها هي القبائل ولم تتكون بعد لوبيات نقابية عمالية أو لأصحاب الأعمال.

العلة الخامسة العصبية

يسمي ابن خلدون كل ما يمثل مراكز سلطوية “عصبيات”
بعضها يعتبرها مفضية للهرج -إذا تعددت ولم يتحقق لأحداها الغلبة-
والبعض الآخر يعتبره بغلبة شوكته وشرعيته مؤسسا للدولة أو للمكنة المصورة العمران والاجتماع بالحماية والرعاية.

والعصبيات خمسة أصناف:
دموية (الولاء الدموي): بداية الدولة.
ومصلحية (بداية الولاء المصلحي): استبعاد الحاكم لعصبية الدم وتعويضها بالولاء المصلحي حتى يكون معاونوه مجرد خدم لا دالة لهم عليه.
واثنية (بداية القومية): لما يهدد الحاكم خطر الموالي يعود إلى قومه الأوسع.
وعقدية (بداية تجاوز القومية): ثم تتوالى الأقوام على نفس الدولة.
وإنسانية (بداية تجاوز المحلي إلى الكوني): لكن العلم يدرس العصبية العامة التي هي البشرية والإنسانية.

والحدان الأول والأخير يمكن بيانهما
عقلا بتعريف مضمون علمه
ونقلا بالآية الأولى من سورة النساء والكلام على الرحمين الكوني (مع الربوبية) والجزئي (مع الألوهية).

أبعاد التحليل الخلدوني

ورغم أن تحليل ابن خلدون يبدو بدائيا فإنه يغوص إلى أعماق مكنة الحكم وصنفي التزييت أكثر ألف مرة من الكلام على الأنظمة بمعنى فلسفة السياسة يونانية كانت أو كلاسيكية أو حديثة أو حتى ما بعد حديثة.
فهو يغوص إلى ما يقرب من التحليل الفوكلدي لظاهرة السلطة ويصلها بالبشري والعمراني (التاريخ الطبيعي) وبالإنساني الاجتماعي (التاريخ الخلقي) حدين متنافسين.

صحيح أن تحليله اقتصر على العلاقة بين الشكلين البدائين أي السلطة السياسية ذات المزيتين المادي والرمزي البدائيين:
المزيت المالي المباشر (للقبائل والأعيان)
والمزيت الرمزي المباشر (الدين).

لكن ينبغي أن نميز بين التزييت الذي لا يخلو منه نظام سياسي وخاصة ما كان منه غير مباشر عن طريق أنظمة السلطة الوسيطة -وهو من جنس الشحم في الميكانيكا- والفساد الذي هو مبالغة في التزييت حتى يغرق المحرك.

فالمكنة تحتاج إلى الزيت للتقليل من الاحتكاك كما في الميكانيكا لكن لما يصبح كل شيء زيت يغرق المحرك فتتوقف المكنة وهو حال ما نسميه دولا عندنا: ضجيج بلا طحين.
او بالاحرى هي مكنات تطحن ليس لتحقيق شروط السلم الداخلية بل هي تعمل بطحن الجماعة من أجل حماة النظام السياسي أي إن وظيفتها هي طحن شعوبها حتى تمكن حاميها من استغلال ثرواتها وناسها ويسمح للمتنفذين بالعيث فسادا واستبدادا.

الخاتمة:

وعندما تصل الوضعية إلى حد معين -كما نراه في جل بلاد العرب- تحصل الثورة.
وقد حصل ما يماثله في فرنسا في القرن الثامن عشر: الاستبداد والفساد السياسي والديني.
وذلك ما يحصل دائما شرطا لوقوع الثورات:
التزييت يتحول إلى فساد مادي ورمزي.

وتبدأ الثورة طلبا للمساواة في ثمرات الفساد ثم تتحول بالتدريج إلى تجاوز الفساد طلبا للإصلاح إن كانت ثورة بحق.

وتلكما هما وجها الدولة والسياسة إذ تنحرفان عن وظيفتي الحماية والرعاية:
الحكم الذي تفقد شوكته شرعيتها
والتربية التي تفقد شرعيتها خلقيتها.
فيخلع المجتمع صورته لاستبدالها بما يطلب: ثورة.
نحن الآن -جل البلاد الإسلامية- في هذه المرحلة:
لذلك حصلت الثورة ولها غاية ومشروع بين.

إنه ما أطلقت عليه اسم الاستئناف لأنه ضد الجغرافيا والتاريخ المفروضين علتي الانحطاط الحضاري والتبعية السياسية.


الجزء الثاني


يرجى تثبيت الخطوط
عمر HSN Omar والجماح ياقوت AL-Gemah-Yaqwt أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ومتقن الرافدين فن Motken AL-Rafidain Art وأميري Amiri
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي