الفكر بين كساد سوق القراءة ونَفاقها



لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



بعض الأصدقاء عبروا عن تعجب من قلة متابعة كتاباتي.
وعدم الرواج طبيعي.
العجب في تعجبهم رغم ما فيه من شهادة منهم اعتز بها وأشكرهم عليها.
وسيكون فهم الظاهرة مناسبة للكلام في ما هو أهم.
فقلة الرواج -بالمعنى الكساد وعدم النَّفاق في السوق- يمكن أن تكون دالة على الأدنى والأعلى من حيث القيمة.
لذلك فهي لا تعتبر دالة بإطلاق على أي منهما.
فدلالتها متعلقة بحاجة السوق وعاداته ومن ثم فهي معيار الذوق السائد وليس دلالة قيمة ذاتية موجبة أو سالبة للمعروض بل هي إضافية للمتسوقين.
لذلك ينبغي أولا أن نحدد المتسوقين: من ذلك أن فينومينولوجية الروح لهيجل قد بارت في سوق الكتاب في ألمانيا الناهضة إلى ما بعد وفاة صاحبها (لم يبع منها إلا 40 نسخة والبقية هرسها الناشر).
إذا كان نيتشة لم يقرأ في حياته -دون تعزية النفس ولا قيسها به أو بهيجل-فينبغي ألا نعجب مما يحدث في ثقافة يغلب على مثقفيها السطحية والانتهازية.
ويمكن أن نعتبر هذا الرد على الأصدقاء المتعجبين من قلة رواج ما أكتب مناسبة للسؤال عن شروط الرواج في المجال الفكري بحسب السياق الثقافي.
أعلم أن الكثير يشكو مما يصفونه التعسير الأسلوب.
وأعلم كذلك أن بعضهم ينسبه إلى إخفاء الفراغ فيسميه تقعيرا ليس وراءه شيء يستحق العناء.
وطبعا لن أحاول تبرير أسلوبي ولا الدفاع عن المضمون -ممتلئا كان أو خاويا-لأن الرد على مثل هذه الأحكام يعني ربما تمكين أصحابها مما يطلبون.
يكفي أن نترك المسألة مترددة بين حكمين: قلة المقبلين تكون للأثمن أو للأدون. والتاريخ هو الذي يفصل إذ الفكر كالخمر يحتاج إلى التعتيق.
وفيها السوق تحكمها السوقة حيث تلتف الساق بالساق ولا يعلم أحد أين المساق في صراع بين انحطاطين أهلي ومستورد ومعركة دونكيخوتية لقشوريتي التأصيل والتحديث المغشوشين.
ولنسأل الآن عن محددات الرواج في عصرنا الحالي وسياقيه أي:

  • في مجتمعات ذات رأي عام علمي
  • ومجتمعات ما تزال محكومة بالرأي العام العامي.

ولبندأ فنحدد معيار الفصل بين نوعي السياق ولنختر الابسط والأكثر بروزا: ثقافة الحكام.
فالحكام هم صورة الجماعة. وعلامة مستواهم لغتهم.
هل يمكن أن يكون حاكم في ألمانيا أو في فرنسا جاهلا بلغته؟
أما حكامنا فحتى بعض صحفيي إسرائيل عربيتهم أسلم من عربية حكامنا إلا ما ندر.
بهذا المعيار ينبغي أن يكون التصنيف كالآتي:
ينبغي أن يكون مبرز المثقفين من بطانتهم -ابن خلدون علل الانحطاط- للمزاح الثقيل والمتع البهيمية.
وهؤلاء ينصبون على كل وسائل الاتصال والتسويق للشِّلل التي تُكوِّن النجوم الزائفة والمناخ الثقافي الذي لا يقرأ فيه ولا يذكر إلى ما يماشيهم.
وفي مثل هذا المناخ -الذي لا يجهله أحد وقل أن يخالف أحد في وصفي له-يكون عدم الرواج علامة مبشرة بأنك على الاقل مستثنى من رداءة الحال.
لكن الاستثناء من الرداءة بعدم الرواج والذي هو علامة تميز قد يبقى حتى مع الرواج بأمر ذاتي لمنتج استثناه ذوق الرواج في لحظة منحطة ما.
وسأضرب مثالين:
فلا أحد يشك في أن ابن خلدون وابن تيمية رائجان رواجا كبيرا.
لكن ما راج من انتاجهما ليس عين ثورتهما بل أدنى ما فيها أعني ما يناسب سوق القراءة
ما يعني أن الرواج حتى للكبار ليس دليلا على أن علته هي حقيقة ما به كان المؤلف جديرا بأن يعد مضيفا للحضارة الإنسانية ما يجعله من بناتها وفاتحيها.

  • فابن خلدون لم يرج منه إلا ما تحتاجه عقدة العرب من قيس ذواتهم بغيرهم بحجة السبق في أمرين: وهم اكتشاف علم الاجتماع والمادية الجدلية.

وكلا الأمرين وهم: فما وضعه ابن خلدون ليس علم الاجتماع وليس مادية جدلية إلا على أساس وجوه شبه سطحية لا تقدم ولا تؤخر حتى في عقدة النقص.
فإذا حاولت أن تثبت ذلك وتبين جوهر ما سعى إليه ابن خلدون وما هو أبعد غورا من علم الاجتماع ومن المادية التاريخية فستوسم بكثرة التعقيد.

  • وابن تيمية لم يرج إلا بوصفه فقيه الجهاد والتشدد في التجريد العقدي النافي للتدين الشعبي القريب من الوثنية.

لكن ذلك ليس جوهر ثورته.
فإذا حاولت أن تثبت أنه أكبر فيلسوف أنتجته الحضارة الإسلامية اعتبروك تتقرب من الوهابية لكأن الوهابية تنتسب إليه أو لكأن ماركس هو ستالين.
ولما كان المناخ العام تحكمه الأحكام المسبقة والاطلاع السطحي على الفكرين الفلسفيين القديم والحديث فالسيطرة هي لثقافة الصحافة وجوجل.
والصحافة وجوجل كلاهما محكوم بما يمر مر السحاب:
لا شيء يثبت أو يتعتق وكل شيء ابن لحظته ومن ثم فكل ما يتطلب التأمل والتعقب ثقيل وعسير.
ولعل الجيل الذي انتسب إليه كان يقضي سنوات في اعداد المصادر والمراجع لبحثه أما الجيل الحالي يكفيه الضعط على زر لينجز ما يرضي العجول الذي يخلط بين الرواية والدراية.
في النظام الفرنسي القديم -على عكس النظام الجديد الأمريكي المعمم- كان المرء لا ينهي رسالة الدكتوراه إلا في نهايات تكونه وقد شاب قرناه -الرسالة رمز التمكن من التخصص لا بدايته.
هما إذن ثقافتان مختلفتان.
لذلك فلا عجب مما يحصل بل لا بد من فهم أهل العصر ومعاييرهم التي قد تكون أفضل من معايير عصرنا إذ تشجع الشباب فاقدم على شروط التعلم الصبور.
ومن كان طيب المعدن منهم بجنسيهم فهو يعلم أن الحصول على العنوان بداية وليس غاية وأن “ثني الركبة” بلغة تونس أي العمل الصبور لعقود واجب.
وختاما اكتفي بالتعبير عن أمل وحيد: ليت العدد الذي يتابعني على قلته يكون بحق ممن يستفيد مما أكتب ويجد فيه لذة البحث الصبور ومتعه الفهم.
لماذا أتكلم في الموضوع؟
لعلتين:

  • الأولى أني أرى الكثير من الشباب ذكورا وإناثا لهم ما يجعلهم من بناة ثقافة الاستئناف تستهويهم النجومية العجلى.

فالنجومية السريعة هي مقبرة التكوين السليم ونهاية تعميق الفكر: النبذ والاستثناء من الرواج من أهم الدوافع للعمل الجاد والصامت والصبور.

  • والعلة الثانية وهي اخطر من الأولى: ظاهرة التكدي (مثل شعراء عصر الانحطاط) قضت على بعض المثقفين الذين كنت أتوسم فيهم القدرة على الإبداع وبعضهم كانوا من تلاميذي (لحين).

لا يمكن أن تكون “بياع” وصاحب “ابداع” إلا بمبتذلات النَّفاق السوقي بين السوقة في عصر يحكمه العسكر والقبائل ولا وجود فيه لرأي عام علمي.
وليس معنى كلامي على الصحافة تحقيرا منها بإطلاق بل بتعيين: فعندما نعلم أن شارل ديكنس نشر الكثير من ابداعاته الكونية في الصحافة نفهم فنعلم نوع القراء ونوع الصحافة بنكيف الكتابة.
وحتى عندنا ففي بداية القرن العشرين كانت الصحافة تتحف الراي العام بكتابات مبدعين عرب من مستوى رفيع وكانت المجلات راقية على الأقل لغويا.
فشتان بين مصر قبل ما يسمى ثورة الخمسينات وبعدها: فالجامعة والفن والأدب وحتى البيئة كانت في مستوى يليق بما كانت تمثله مصر في النهضة العربية.
ومثلها جل عواصم الوطن:
كلها تريفت وتبدت وعمها الوعي السطحي بقشور الحضارة الغربية وقشور الماضي الإسلامي ولم يبق فيها حياة فكر وإبداع.
قد يتصور الكثير أن في كلامي بكـاء على الأطلال وعلامة شيخوخة من جنس الـ”كنتية” كلاما يفضل الماضي على الحاضر. لكن العكس هو الصحيح.
فأغلب كاتبات الرواية كن من أسر دينية محافظة قرأن كثيرا وكتبن تجاربهن بعمق هو عين العنفوان الإبداعي.
لكنهن مغيبات في مناخ الشلل الحالي.
ولو وجدن تشجيعا وعناية لكن فاتحات لعهد جديد لم يكن بوسع نساء العرب الآخريات القيام به لأنهن لم يعشن المزيج الخلاق للثورة الباطنة.
ذلك أن الجمع بين الـتأصيل الصادق والتحديث الحاذق هو عين النهضة الدافقة.
والمقابلة بين التحرر في تونس أو في مصر بما هو ظاهر والتحرر الباطن ودوهما في الإبداع يبين الفرق بين التحلل والتحليل والتعلل والتعليل: التحرر القشري الذي يفسد وجهي الحصانة عروق الماضي وأفنان المستقبل.
اهتمامي بشباب السعودية ذكورا وإناثا لهذا السبب:
إذ أجد فيه غاية التعتيق وغاية التحديث (الإسلام التقليدي والثقافة الإمريكية)
ما يطرح السؤال:
هل هي تجربة تحرر من القشور أم تفرق بين صفي الحرب الكاريكاتورية ككل البلاد العربية؟
أعرف تجربة مماثلة
:فألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية الموالي كانت نموذج المحافظة اصدمت بفرنسا فكان ما كان فلسفيا وعلميا وأدبيا واجتماعيا: أفضل نظام تضامن اجتماعي تأسس فيها منذ منتصف القرن التاسع عشر.
لا أزعم أن السعودية مثل ألمانيا الآن. لكني أزعم أنها يمكن أن تكون افضل فلها ما لم يكن بيد ألمانيا وهي في نفس وضعية المزيج المبدع : بين تليد التقليد ومتين التجديد.
هي المركز الرمزي للوحدة الروحية للأمة ومن الله عليها بإمكانات مادية لجعل هذا المركز محور فاعليات العقل الإنساني لتحقيق شروط الاستئناف
فإذا تمكنت قيادتها الشابة -ولا عذر لها مثل الجيل الأول والثاني- من تحقيق هذا الهدف أصبحت ممثلة ليس لـ20 مليون سعودي بل لنصف مليار عربي.
شبابهم بحنسيه يحتاج لمشروع وقيادة طموحين يعطيانهم الشعور بالعزة والقوة.
وكلام وزير الخارجية باسم السعودية على احتلال أرض عربية تلتزم بتحريرها من الاحتلال الأجنبي بداية سياسية واعدة لكنها تبقى كلاما من دون الأساس الذي يضفي عليه المصداقية.
وهذا الأساس هو الذي جعلني أقارن الوضعية بألمانيا في عصر الأنوار: بناء القاعدة الأساسية العلمية والتقنية ليكون العرب قاطرة المسلمين في مرحلة الاستئناف التاريخي.
وهذا البناء شارط ومشروط لأداته الأولى والأخيرة:
وذلك ما جعل ألمانيا أول قوة في اوروبا:ت
وحيد الألمان في القرن التاسع عشر.
فلتوحد العرب.
لماذا هو شارط ومشروط؟

  • هو شارط بمعنى توحيد النخبة العلمية والأدبية والفنية وليس الدينية فسحب.
  • ومشروط بمعنى أن السعوديين وحدهم لا يكفي بمنطق العصر الذي يفرض حجما مناسبا للقوات المسيطرة.

وهذا الفارق مع ألمانيا يحدده منطق العصر: البحث العلمي وتطبيقاته والقوة الاقتصادية تحتاج إلى قاعدة بحجم قوى العصر أي نصف مليار عربي.
فالاقتصار على الدور الديني قد يجعل السعودية مجرد فاتيكان وهو أمر يتنافى مع نظرة الإسلام ومع الطموح لاستئناف الامة دورها فضلا عن خطره.
وخطره لا ينبغي أن تغفل عنه القيادة الشابة:
فلا يخفى أن نوايا تفتيت الإقليم يتضمن هذا المقترح بجعل السعودية مجرد فاتيكان بوظيفة دينية.
والأعداء الآن في اضعف حال فلا تنتظروا حتى يستردوا أنفاسهم.
والدليل دعوتهم روسيا لنجدتهم.
أما إذا قادت السعودية بطموح مشروع توحيد العرب على اساس ولايات متحدة عربية بأنظمة مختلفة الطبيعة ومتحدة الطابع الديموقراطي فستكون قوة.
وخير خطط الدفاع الهجوم قبل فوات الأوان.
وحينها كما بينت في ما تقدم من المحاولات لن تقف أمامها لا إيران ولا إسرائيل ولا حتى روسيا:
ما بينته يتحقق الآن في سوريا رغم ضآلة الدعم.
ولا داعي للخوف لأن المشكل هو بيدي لا بيد عمرو: الأعداء قادمون وقدومهم لن يتوقف إلا بإقدامك.
بشيء من الجرأة والطموح سيضمن النظام شرعية دينية وسياسية لا يقوى عليها أحد لأن كل الشعب العربي سيلتف حولها كما حصل في ألمانيا القرن التاسع عشر.
والظرف ملائم: حرب التحرير في الحالتين.
وسأسمح لنفسي بالقول -وهي ليست نبوءة لأن مشروع الأعداء معلن والجميع يعلمه- إن المنجاة الوحيدة للحفاظ على النظام ووحدة السعودية هو هذا المشروع وإلا فإن ما يطلبه الغرب وعملاؤه هو التفتيت.
إيران ومليشياتها العربية إسرائيل ومليشياتها العربية همهم الأول والأخير هو حصر دور السعودية في دور الفاتيكان وتفتيت كل الأقطار العربية.
لكن الإسلام لا يقبل بهذا الفصل ومن ثم فاللحظة سانحة لاستعادة عاصمة الإسلام إلى دورها:

  • المدينة المنورة وهي منطلق دولة الإسلام الأولى.
  • وينبغي أن تعود لتكون عاصمة دولته المستأنفة.

وهذا يفسد على أصحاب مشروع التفتيت مشروعهم.
ويفسد على أدعياء الخلافة دعواهما ويوحد العرب.
وهذا ليس من باب الحلم لأنه هو الطريق الوحيدة للحفاظ على بلاد الحرمين ونظامها إذا كان لها أمراء ابطال مثل الذين وحدوا ألمانيا في القرن التاسع عشر.
وليس في بناء ولايات متحدة عربية أدنى مساس بطبيعة الأنظمة إذ يمكن أن تبقى الملكية والإمارة والمشيخة والسلطنة والجمهورية المهم أن تكون جميعا ديموقراطية أي أن تستمد السيادة من الشعب.
ذلك أن القرآن الكريم حدد طبيعة الحكم الفعلي وترك الحكم الرمزي للقرآن وللأمة والتي تختار شكله المناسب لتقاليدها (رئاسة الدولة أو الخلافة).
أما الحكم الفعلي (رئاسة الحكومة أو السلطنة) هو الشورى العامة لأن اختيار الحاكم الفعلي لا الرمزي يكون بالحرية التامة في البيعة.



يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي