الفكر المبدع بين دور الطبيعي ودور الاصطناعي

**** الفكر المبدع بين دور الطبيعي ودور الاصطناعي

الكثير يعتقد أن الذكاء الاصطناعي أو الحواسيب تفكر خلطا بين محاكاة تعبير الفكر عن ثمرة التفكير والتفكير ذاته. وحتى أيسر الامر: لنأخذ الجهاز الهضمي، فهو يستخرج من الغذاء ما يتحول إلى كيان المغتذي ويخرج البقية في شكل قاذورات بعضها من كامل البدن، وبعضها من مخارجه المعلومة. فله إذن نوعان مما يستخرجه من الغذاء: • ما يحوله إلى الكيان العضوي للمغتذي • وما يخرجه من فضلات. هناك إذن عملية تستخرج من الطبيعة الحية بتراتب ما، تحول به الأدنى إلى الأعلى من حيث التعقيد العضوي، فالحي النباتي يتحول إلى حي حيواني عامة وحي حيواني إنساني مباشرة، أو بتوسط الحي الحيواني. فيحول الجهاز الهضمي عند الحيوان النبات أو الحيوان -من اللواحم- إلى ما يكون مُخرجه من رتبة أرقى من رتبة مُدخله وغالبا ما لا يغتذي الحيوان من الرتبة التي ينتسب إليها بمعنى أنه لا يغتذي من نوعه، بل من النوع الأدنى أو الأسمى منه، وكان الإنسان يفعل قبل أن يصبح أكل لحم الإنسان شبه محرم. وأقول شبه محرم لأنه يمكن أن يحصل في حالة المجاعة العامة حيث يأكل القوي الضعيف والكبير الصغير وهلم جرا. وفي الحقيقة، فالإنسان يبدو وكأنه لا يأكل الإنسان في السراء مباشرة، لكنه في الحقيقة يأكله فيها أكثر مما يأكله في الضراء: فاستغلال جهده أكل له غير مباشر لأن جهده استعمال لبدنه وفكره. فلا فرق بين أكل لحم الحيوان مباشرة وبين تربيته لأكل ما ينتجه الحيوان سواء بالتكاثر أو باستعمال لبنه وصوفه وجلده والمتاجرة به كشيء مملوك. والمهم هو أن الدورة الحيوية فيها مدخلات ومخرجات تكون دائما مخرجاتها أرقى من مدخلاتها مع فضلات تعاد إلى الطبيعة الجامدة مغذية الحي بأصنافه الثلاثة. وقد نتوهم أن اجهزة الفكر الاصطناعي لها دورة مماثلة لأنها تغتذي من فكر الإنسان وتمده بمخرجات يعجز دونها فكر الإنسان من حيث امرين، كلاهما كمي: • سرعة العملية “الفكرية” التي تقوم بها (مثل الحساب) • وحجم المعلومات التي تحتوي عليها (الذاكرة) فتحقق شيئا كيفيا كتحسين فاعلية القرار إحاطة وسرعة. لكن ذلك يبقى دون الدورة الغذائية في جهاز الهضم في الكائنات الحية: • فمخرجاته ليست أسمى من مدخلاته كيفيا • ولا يميز بين مخرجات تتحول إلى أصل مدخلاته وفضلات تعود إلى أصل ما هو مدخلات أصل مدخلاته. بمعنى آخر هو يبقى كيفيا دون مخرجات الفكر الإنساني وهي لا تتحول إلى فكر إنساني.

الجهاز الهضمي يحول الغذاء إلى كيان المغتذي ويفرزه عن الفضلات التي يعيدها إلى الطبيعة الجامدة التي يغتذي منها ما يغتذي منه الإنسان (فالفضلات تتحول إلى سماد وحتى البدن نفسه بعد الموت يتحول إلى سماد وتراب). فهل يوجد في الذكاء الاصطناعي ما يماثل ذلك؟

يبدو أن ما يحققه من سرعة في علاج المعلومات والقيام بالعمليات، وما يحققه من كم كبير من المعلومات وتيسير لسرعة القرار – كما في المضاربات الاقتصادية بحسب سرعة حوالة الأسواق – وكأنه تحقيق لما يشبه ما يحصل في الدورة الغذائية في عالم الأحياء. لكن ذلك من الأوهام، بل العكس هو الصحيح. فلا أحد يمكنه أن ينكر أمرين: • الأول ان ما يقوم به الفكر الاصطناعي قد يجعل الفكر الإنساني أعجز في ما كان يستطيعه لصنعه، لأن تعويضه به يجعله أقل ممارسة لعمليات الفكر التي كانت تمده بالنفاذ والحدة الكافية للتمرن على التفكير، • وقد يصبح الإنسان أقرب إلى الثقافة الشفوية ودون الكتابية. ما يعني أن الفكر الاصطناعي يعوض الفكر الإنساني في تيسير التعبير عن الفكر وليس في ما يبدعه الفكر. فليس لأن المطبوع أسرع من المخطوط يكون أفضل للفكر حتى وإن كان أقدر على تعميم النشر والقراءة. لكن من يطبع الكتاب ليس كمن يكتبه سواء مخطوطا أو حتى مرقونا. فالكتابة هي جوهر الفكر. فيكون ما يؤديه دور الفكر الاصطناعي من جنس ما يؤديه الطهي في النظام الغذائي من تيسير لعملية الهضم الآلية دون أن يتعلق بعملية الفرز العضوية التي تنقل الغذاء إلى نوعي المخرجات التي من جنس بدن المغتذي والتي من جنس القاذورات التي يخرجها. ولعل التفنن في الطهي مضر بالجهاز الهضمي. عندما أقارن الطريقة التي تعلمت بها الرياضيات بالطريقة التي يتعلم بها الجيل الحالي – وطبعا يوجد استثناءات في أنظمة التعليم وفي طبيعة إقبال المتعلمين عليها – ألاحظ ما يجعلني لو كنت ذا سلطان أن أمنع الاجهزة التي تغني التلاميذ عن استعمال فكرهم في العلاج بدل الاجهزة المساعدة ولاشترطت ألا تستعمل هذه الاجهزة إلا بعد الفراغ من حيازة الملكات الضرورية المغنية عنها والقادرة على تغذيتها بما تيسر علاجه بسرعة لصاحب القرار الذي يقدر على الاستغناء عنها إذا تعطلت وكان عليه أن يقوم بما تقتضيه الحاجة في اللحظات الحرجة، فلا يتوقف لفساد جهازه وهو في جبهة القتال مثلا. ولو طلبت من أي تلميذ اليوم استخراج الجذر التربيعي مثلا لاستحال عليه أن يفعل من دون هاتفه، وقلما تجد من يحفظ جدول الضرب فضلا عن الحساب الذهني الذي كان يعتبر من أهم مكونات الفكر المجرد والقدرة على التفكير السوي الذي هو أصل كل ابداع. فالذاكرة ليست كل شيء في الفكر، لكن لا فكرمن دونها. وقياسا على ذلك، وليس دونه أهمية مسألة الخط: فتلاميذ اليوم أصبحت كتابتهم من جنس ألغاز الاطباء لا تكاد تميز حرفا عن حرف لأن فن الخط أهمل حتى صرت أعجب من المعلمين الذين خطهم يكاد يكون من جنس من نراهم يتعلمون في محو الأمية محاولين رسم الحروف بأي شكل اتفق. فنسبة التمييز الرسمي للخط إلى التحكم في البدن المعبر عن تعيين الفكر بالكتابة، هي عينها نسبة التحليل المنطقي إلى التحكم في الذهن المعبر عن الفكر بالصياغة. وما لم يتعلم التلميذ هذين الملكتين كما ينبغي، فلن يفيده استعمال الآلات التي يمكن بها أن يعالج محاكاة وليس إبداعا لمسائل الفكر. لذلك، فالفكر الاصطناعي بحاجة دائما الى الفكر الذي يجعله يفكر بما يبدعه له من مدخلات (السوفت وار) وما يبدعه له من أجهزة تعالجها بمقتضى ذلك (الهارد وار)، وكلاهما يحتاج إلى فكر ليس اصطناعيا، لأن المخرج من الفكر الاصطناعي يبقى من حيث الكيف دون الفكر الطبيعي أو غير الاصطناعي. فيكون الفكر الاصطناعي مفيدا بصنعه أكثر مما يفيد بمصنوعه. ومعنى ذلك أن الذين يصنعونه يعلمون أنه ليس بديلا من الفكر الصانع بخلاف الذين يستوردونه ويتوهمون أنه بديل منه. فهؤلاء لن يتجاوزوا الاستيراد حياتهم كلها بخلاف أولئك الذين يميزون بين صنعه ومصنوعه ووظائفهما. فصنعه لا يقوم به إلا صانع له فكر متقدم على الفكر الاصطناعي ويستعمل مصنوع الفكر الاصطناعي في علاج الوظائف الكمية التي وصفت وليس في علاج الوظائف الكيفية التي تبقى دائما فكرية عضوية إنسانية هي فعل الذهن أو الجهاز العصبي المركزي في وظيفته العقلية أو الفكرية والمبدعة. ذلك ما علينا وضعه نصب أعيننا عندما نريد تنشئة شباب مبدع بدلا من شباب مقلد وكسول يتصور اللعب بالأجهزة الاصطناعية فكرا وهي في الحقيقة من أدوات قتل الفكر، لأن من يكتب رسالة جامعية اعتمادا على شيخه جوجل قد يسرع في كتابتها لكنه لن يتعلم الفكر أبدا ويبقى من جنس الدعاة الجدد الدجالين. فصحيح أن السيارة والطيارة أسرع من المشي، لكنهما لو استعملا بديلا منه لكانت النتيجة بقانون فقدان الوظيفة بعدم استعمال العضو ما نراه من بدانة وأمراض القلب فضلا عن فقدان مذاق الطبيعة وانعدام المعنى الجوهري للسياحة في الأرض للاندماج في الطبيعة وسحرها. دور أجهزة الفكر الاصطناعي بالنسبة إلى ملكات الفكر الطبيعي تشبه إلى حد كبير دور وسائل النقل إلى ملكات البدن الإنساني صحيا وجماليا. ولهذه العلة، تجد، خاصة عند من انتقل بسرعة ومباشرة إلى وسائل المواصلات الحديثة ووسائل التواصل الحديثة، المزيد من البدانة و”البهامة”. فمن كانوا كالغزلان بدنيا وبفطنة القريب من الفطرة، صاروا مثل بدناء أمريكا وأغبيائها. والفرق الوحيد أن أمريكا لها قيادات في الإبداع قد تغني الشعب الأمريكي عن ملكات البدن والفكر. لكن الداء في بلاد العرب أن البدانة والغباء مسيطران على القيادات لأن البقية أفقدوها الغذاءين بدنا وفكرا. وقد يظن أن كلامي فيه تعريض بالخليج. لو كان ذلك كذلك لما انحصر الكلام على القيادات: فالقيادات وتوابعها من المافيات لها نفس السلوك في كل بلاد العرب. فحتى في أكثر بلاد العرب فقرا، تجد الشعب في فقر مدقع وتجد القيادات في مرحلة الترف التي يصفها ابن خلدون.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي