لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالفصل الاول أو بنية الدستور التونسي الفصل الثاني
ملاحظة:
ليس هدف البحث الرد على لجنة التقرير، بل غايته تمكين شباب الثورة بجنسيه من فهم دلالات الفصل الاول من الدستور وضرورة المحافظة عليه معلما مشتركا بين كل أبناء هذا الشعب وبناته وخاصة بعد الثورة.
ليس من اليسير التصدي للإصلاح، إما باسم التحديث أو باسم التأصيل، ولا يدرك هذه المعاني الصريحة وضمائرها التي في البند الأول من الدستور التونسي الأول والثاني- كما حاولنا بيانها لإثبات متانة الصوغ البورقيبي منطقيا وقانونيا وتاريخيا بعمق فلسفي وديني لا مثيل له. فمن يجهل لطائف المنطق على بساطتها وأسس القانون الدستوري ووظيفة الدستور من حيث هو التعبير عن إرادة شعب سيد يحقق نظامه السياسي الذي يحمي مقومات كيانه السياسي والثقافي، لا يمكن أن يتصدر لمثل هذه المهمة التأسيسية التي تصوغ إرادة السلطة الأصلية في أي جماعة إما مباشرة كما في العرف، أو بتوسط نواب يترجمون العرف في نص مكتوب. ولذلك، فقولي إن الجماعة التي حررت التقرير الذي قلت تعليقا عليه أنهم أميون، ليس فيه ظلم حتى ولو قصرته على دورهم في هذه الوثيقة، ناهيك عن دورهم في غيرها من دعاوى الريادة الفكرية وخاصة في المسائل الدينية. ذلك أن كل تحيلهم مبني على حجتين، كلتاهما دليل قاطع على وصفي إياهم بالأمية: فخرافة عودة الضمير على تونس وليس على الدستور، من علامات الغباء الذي لا مثيل له. فلكأن تونس يمكن أن تكون مسلمة ودستورها غير مسلم بمعنى أنه يقتصر تعبيره عن إرادتها السياسية دون إرادتها الثقافية التي من ضمنها خياراتها الروحية وأهمها ما يعبر عنه وجدانها بلسانها. ومعنى ذلك أن “بيزنطيات” الحداثي هنا دليل سفاهة وليست دليل نباهة. نعم الضمير يعود على الدولة. لكنها ليست دولة فرنسا ولا دولة إسرائيل ولا دولة إيران، بل هي دولة تونس، أي ما به يعبر الشعب التونسي عن إرادته السياسية والثقافية. المقابلة بين الدولة وتونس لا معنى لها إلا بالفصل بين جزئي موضوع القضية في البند. وخرافة المقابلة في التعريف القانوني، وخاصة الدستوري، بين الوصفي والتشريعي، من أكبر علامات البزنطة الساذجة ذلك أن التعريف القانوني شرط التشريع القانوني دائما وخاصة في الدستور، لأن تعريفاته هي تشريعاته أو مناط الحكم في تشريعاته. فالدستور يحدد موضوع الاحكام التشريعية بوصفها منطلق المناط في كل تشريع أدنى بالقياس إليه من حيث تشريع أعلى أو تشريع للتشريع. وإذن فالمقابلة حجة أخرى دالة على سذاجة محرري التقرير. ولنعد الآن إلى سطحية الحجة الاولى. فالموضوع في القضية الحملة التي صيغ بها البند الأول من الدستور ليس تونس ولا هو الدولة، بل هو تعريف تونس بكونها دولة. والمعلوم أنها لم تكن قبله دولة، بل كانت محمية، وحتى قبل أن تصبح محمية، فهي قد كانت إيالة أو شبه ولاية من الخلافة العثمانية التي سقطت منذ الربع الأول من القرن الماضي. وهذا هو الضمير التاريخي في البند. وبورقيبة ومثله جيله أعلم الناس بذلك وإلا لما كان اسم أول حزب يعبر عن هذه المطالب “الدستور ” ولما أبقى بورقيبة على هذا الاسم واكتفي بإضافة وصف “الجديد” بمعنى الذي له دراسة بفنون النضال الحديثة في ذلك الحين بالمقابل مع “القديم”. الموضوع في القضية هو إذن تعريف جديد لتونس وهو “تونس=دولة”. وهذا الموضوع التعريفي له مقومات يمكن قياسها على قولنا: “زيد= إنسان” موضوع لقضية تعريفية لكينونة زيد. ثم نورد بعده مقوماته فنقول عن “زيد= إنسان”: 1. (هو) حي (علاقة بالمكان والزمان) 2. و(هو) ناطق (بلسانه حول كيانه الروحي). ولو طبقنا هذا التعريف بمعيار التناظر في البنية المنطقية التي كان دارسو القانون في عصر الزعيم بورقيبة صاحب هذا البند التعريفي يتعلمونه ويحذقون استعماله، لتبين أن الرجل طبق المنطق حرفيا على النحو التالي. ولنقس الآن البند الأول على هذا المثال في تعريف “زيد إنسانا”. فـ”تونس دولة” هي الموضوع في التعريف. وهي تناظر “زيد إنسان”. وحر ومستقل تناظر “زيد حي”. والحياة تتحدد بعلاقته بالمكان حرية واستقلالا (السيادة السياسية). وناطق بالعربية ومتدين بالإسلام تناظر “زيد ناطق” لأنه حيوان ناطق. ويتحدد بعلاقته بالزمان نطقا ودينا (السيادة الثقافية). الموضوع ليس إما تونس أو الدولة، والجدل حول إحالة الضمير في دينها دليل سذاجة لا تقدر. الموضوع هو: “تونس=دولة” مثل الموضوع “زيد إنسان”. فالموضوع ليس إما زيد أو إنسان. الموضوع هو “زيد-إنسان”. فلو فرضنا أن التعريف فيه مضمرات هي استرداد ما فقده زيد من مقومات إنسانيته في الماضي والخوف على ما كان مهددا منها في المستقبل وطبقنا ذلك على تونس مكان زيد لوجدنا أن المضمرات هي: 1. استرداد تونس (أي التونسيين) لما فقدته من سيادتها السياسية في الماضي. 2. وخوف تونس (أي التونسيين) على ما هو مهدد من سيادتها الثقافية في المستقبل. تلك هي الأعماق التي لا يمكن للأميين في لجنة التسعة التفطن إليها في البند الأول من الدستور الذي وضعه بورقيبة وحافظت عليه الثورة وتريد الثورة المضادة-بالفكر العقيم للجنة التسعة- القضاء عليها مع بعدي السيادة السياسية والثقافية. وتلك هي علة وصفي إياهم بأنهم أميون. وقد حاولوا تغيير هذا البند خلال النقاش في المجلس التأسيسي الثاني الذي حافظ على قرار المجلس التأسيسي الأول. لكنهم قبلوا في النهاية المحافظة عليه ظنا أن تأويلهم المبني على ما يحيل إليه الضمير في “دينها” يمكن أن يكون حجة كافية للتخلص منه. توهموا أنهم شديدو الذكاء وأنهم «حصلوا» من يظنونهم اغبياء. وأظن أن أول من اعتبر نفسه مبدعا في التأويل الدستوري والتخريج العلماني للموقف البورقيبي قد قدم هذه الحجة ظنا أنه عبقرية خداع، ولم يكن يدري أنه لم يخدع إلا نفسه وجماعته كحال كل من يستصغر غيره ويتوهم أنه كما يتوهمه ليس داريا بحيله. فلا إحالة الضمير ولا التمييز بين الوصفي والتشريعي في الدستور يكفيان مهربا مما بينت. ذلك أن الدستور وحتى القانون العادي ليس الوصف فيه من جنس الوصف في الرواية الأدبية لمزيد من قابلية التصديق الذي يوهم بأن الخيالي واقعي، بل هو لتحديد المناط، ومن ثم، هو قاعدة التشريع وليس مجرد وصف للوصف. لذلك فهذه المحاولة كافية لبيان ما وقع فيه المخاتلون: لم يخدعوا إلا أنفسهم، وربما من يقتصر فكره على رد الفعل انطلاقا من محاججتهم بمنطقهم. لكن من شروط الحجاج أن يكون للمنطق المستعمل قواعد متفق عليها بين طرفيه، وإلا استحال الاحتكام إلى الحسم السلمي بين البشر ولم يبقى إلا اللجوء إلى العنف. وهو عين ما يلجؤون إليه. فمن المفروض أن يكون الملجأ في الخلاف القيمي، العودة لصاحب السيادة. وصاحبها هنا ليس سلطان الاقلية التي بيدها اجهزة الدولة والتي تستعملها ضد الشعب واستقواء بها وبالسند الاستعماري، بل هو الشعب نفسه. ويبدو أن الجماعة لم يفهموا بعد أن الشباب بجنسيه قد ثار وأنه ثار من أجل استرداد ما فقدته تونس، أعني بعدي السيادة السياسية (الحرية والاستقلال) ومن أجل حماية ما هو مهدد في كيان تونس، أعني بعدا السيادة الثقافية (العربية والإسلام). وهم يريدون تغيير السيادة الثقافية لأنهم تخلوا بعد عن السيادة السياسية. فهم ليسوا أحرارا ولا مستقلين، بل يأتمرون بأوامر من يفرض على الشعب ما يغير سيادته الثقافية بما يتنافى مع سيادته السياسية. بورقيبة بهذا البند حصن السيادتين المضاعفتين بنظام السيادة فيها بكل أصنافها للشعب، وهو معنى الجمهورية نظامها.