****
لعل الكثير من القراء لن يغفروا لي القول إن “الفردية” بل وحتى “الفردانية” اللتين يعتبرهما الكثير ظاهرتين فلسفيتين ليستا كذلك بل هما في الحقيقة ظاهرتان مستحيلتان فلسفيا وليستا ممكنتين إلا دينيا.
كيف ذلك؟
وهل هذا من باب البحث عن المفارقات من أجل “خالف تعرف”؟
طبعا لست بحاجة لأن أعرف بهذا. ويكفي أن أذكر أن الإسلام وصل إلى حد تقديم الصلة العقدية على الصلة الأسرية فضلا عن القبلية فصلا لـ”لفرد” المؤمن عن كل الروابط غير الروحية.
فإذا كانت “الفرد” و”الفردية” و”الفردانية” تصورات-واستعمل “تصور” بمعناها في الاصطلاح الفلسفي العربي وحتى الغربي قبل ابتذاله ليصبح دالا على التمثل Représentation وليس على Concept وعلى Begriff وحتى بمعناها القرآني “يصوركم في الأرحام” فهي لا يمكن أن تكون فلسفية للعلل التالية.
فـحتى في المسيحية عبارة Immaculée conception تفيد “التصوير في الأرحام” لأنـها تعني حمل العذراء (حمل مريم دون علاقة جنسية بالمسيح عليه السلام). وكلمة Conceptus تفيد التصور في الاصطلاح الفلسفي عند فلاسفة المسيحية في القرون الوسطى.
ولنشرح قبل ذلك ابتذال مصطلح “تصور” في الفكر الفلسفي العربي الحالي حتى صار الهروب منه يعتمد على أحد وجوهه -المفهوم-دون دراية بالهاربين أنه أحد وجوهه ووجهه الثاني هو الماصدق حتى توهم احد مترجمي كنط اختلق مصطلحا جديدا على غير قياس يقره اللسان ولا عادة الاصطلاح عند فلاسفة العرب هو “الأفهوم” علما وأن كنط لم يتخل عن الكونسابت بل حافظ عليه في دلالته الفلسفية الراقية.
فالمفهوم الذي تم الهروب إليه في الغالب هو المقومات التصورية التي تحدد ما يشترك فيه الماصدق وهو الوجه الثاني من التصور الذي هو مفهوم مؤلف من معان توحد الماصدق بصفات عناصره المشتركة. فلنقبل إذن هذا التياسر الاصطلاحي إذ لا مشاحة فيه ولنقل إن “الفرد” و”الفردية” و”الفردانية” كلها مفهومات دينية وليست فلسفية لأنها لا تمثل مفهوما لشيء موجود فعلا بل هي وصف خلقي لشيء منشود في الأديان ليكون حاملا للمسؤولية الخلقية من حيث هو مكلف لا غير. لكنه لا وجود له في الأعيان.
فإذا لم نقل بوجود روح هي التي يتفرد بها من نسميه فردا مسؤولا لأنه حر ومكلف يستحيل أن نقول بالفردية وهو ما يعني أن القول بها مسلمة دينية وليست حقيقة فلسفية تبنتها الفلسفة فظن أنها أصلية فيها. ولما أراد أفلاطون أن يعرف الحقيقة الفلسفية لـ”الفرد” بين أنه نصف حقيقة الإنسان من حيث هو نوع قائم قابل للتجدد كنوع.
فإذا لم نجمع بين الجنسين استحال على هذا النصف سواء كان ذكرا أو انثى أن يتجدد. ولا بد أن يوجد الجنسان معا حتى يحصل التكامل المقوم لوجود الإنسان القابل للتواصل في الزمان أكثر من عمر النصف الذي يبدو متفردا بايولوجيا ذكرا كان أو انثى . ومن ثم ففي الأعيان الفرد نصف فرد لا فردا لأن قيامه رهن نصفه من الجنس الثاني.
وكما هو معلوم فإن افلاطون يفسر بهذه الظاهرة التجاذب بين الجنسين أو الحب. ولما كان التصور بمعناه الفلسفي يعني التطابق بين مفهوم وماصدق فإن الفرد في الفلسفة مفهوم من دون ما صدق إلا إذا اعتبرنا المفهوم “فرد” دالا على نصف الإنسان وليس على الإنسان. فمن أين جاءت الفردية بمعنى الإنسان؟
تلك هي العلة التي جعلتني أتساءل عن تعريف الإنسان من حيث هو جوهر واحد في الفلسفة عامة “حيوان عاقل” واعتبار الفرق بين الجنسين منتسبا إلى المادة وليس إلى الصورة أو الجوهر الفعلي للإنسان. فهذا الفهم يلغي أهمية القسمة بين الجنسين لأنه يعتمد على الهيلومورفية التي تلغي دور المادة.
لكن إذا عدنا إلى مفهوم الحيوان فإن من أهم مقوماته الجوهرية هو مقوم التوالد أو البقاء في النوع بإنتاج أجياله. وهذان مشروطان بالزوجية ولا تكفي فيهما الفردية. وإذا أخذنا الفرق النوعي “عاقل” أو “ناطق” والكلمة اليونانية تفيد المعنيين و”لعلكم تعقلون” في القرآن تعني “فهم الكلام أو المشروط به” فهو أيضا مشروط بالزوجية لأن الكلام علاقة شرطها وجود متخاطبين.
صحيح أن التخاطب يمكن أن يكون بين فردين من نفس الجنس. لكن التوالد لا يمكن والتخاطب الأصلي هو بين الجنسين لأنه يكون بين طرفي علاقتين ضروريتين للتوالد: التبادل والتواصل. فالتبادل هو بين خدمتين ضروريتين للنصفين أي الرعاية للأنثى والحماية للذكر إذ هما شرط الظرف المناسب للتوالد الذي يحول دون المرأة والقدرة حتى على حماية نفسها فضلا عن حماية غيرها وأوله جنينها.
ولهذه العلة كانت كل اللغات الإنسانية مبنية على الرسم الإشاري للتخاطب (الشكل في المكان بالإشارة) والتصويت الموسيقى (الإيقاع في الزمان بالصوت). ولهذه العلة اعتبرت اللغة مؤلفة قبل الثلاثية التقليدية الاسم والفعل والحرف من الرسم الإشاري والإيقاع الصوتي بثا والعين والأذن تلقيا. والمدار هو على الرعاية والحماية شرطي بقاء النوع.
فالمخاطبات الأولى المتعلقة بالرعاية التي تتبين مثلا من بكاء الأطفال لما يتحول إلى مناداة الأم وليس تعبيرا عن الشعور بالألم فحسب وبالحماية عندما تـحصل لحظة الـخطر وكثرة الصياح والتنادي وكثرة الإشارات الراسمة للخطر الداهم دون أن يكون في ذلك كلام بالمعنى العادي. ثم ينشا الكلام.
وعندما ينشأ الكلام يبقى دائما معبرا بالرسم الإشاري وبالموسيقي التصويتية. فاسم الصوت وهو الحد الأدنى في تسمية الأشياء بأصواتها واسم الفعل وهو الحد الأدنى في تسمية الأفعال بأشكالها هما أصل كل الكلام الإنساني وهما موسيقى ورسم ومنهما تتكون اللغة الأصلية أو الشعر.
وقد شرحت ذلك في كتاب الشعر المطلق وهما لغة الرعاية ولغة الحماية الأصليتان. ولهذه العلة اعتبر الشعر العربي الحديث الخالي من هذين الوجهين العائدين لأصل التواصل في بكارته ليس شعرا أصلا لأن خلوه منهما يعني أنه خال من المعيار القرآني الذي ظن الكثير أنه حكم خلقي على الفن وليس حكما ماهويا على جوهره: فالفن الشعري ليس قولا بل هو فعل بالقول الفاعل.
فإذا لم يبق منه إلا القول فهو لا صلة له بلغة الرعاية ولغة الحماية ليس بالمعنى المادي والعسكري بل بالمعنى الروحي والوجودي حماية الكيان بما في أعماق الوجدان. وهو حينها عبارة الإرادة الحرة والعلم الصادق والقدرة الخيرة والحياة الجميلة والوجود الجليل. أما إذا صار الشعر مجرد نظم فهو كلام لمن يهيم فيس الوديان ولا يتبعه إلا الغاوون لأنه يصبح عبارة عن عبودية الإرادة للدنيا التي يترتب عليها كذب العلم وشر القدرة وقبح الحياة وذل الوجود. ولا أذل من شعر الكدية وكل الشعراء اليوم كداؤون مع فقدان فن القول الذي كان كداؤوا الماضي مبرزين فيه.
وبذلك يتبين أن الإنسان عضويا ورمزيا لا يمكن أن يكون فردا إذا اعتمدنا على شروط التعريف الفلسفي للإنسان سواء من حيث هو حيوان أو من حيث هو ناطق لأنه في الحالتين نصف فرد وليس فردا كاملا ذكرا كان أو انثى. وهذا النصف هو الذي يحمل مسؤولية الفرد الكامل لكأنه قائم بذاته ومستقل بها.
وهبنا سلمنا أنه قائم بذاته ومستقل بها فهل هو مسؤول عما يصدر عن ذاته إذا كان محكوما بقانون الوراثة العضوية الطبيعية في بدنه وبسنن الوراثة الرمزية الثقافية في روحه؟ فأي فرد يتكلم لغة ما قد يقصد شيئا يخصه لكنه يشير إليه بالأسلوب الذي تفرضه لغته في الإشارة التي لا تفيد إلا بتواضع ضمني في جماعته.
وما يفاد بالإشارة في جماعته هو علاقة بين ما يفترض من حاجات مشتركة بين البشر من حيث هم كائنات حية فيكون التلقي تأويلا جامعا بين ما جاء من وحدة الحاجات العضوية ووحدة الإشارات الرمزية إليها في الجماعة. وهذه كلها ليست فردية بل هي علاقة بين عناصر مجموعتين الفرد فيهما عنصر يتقاسمانه وليس ذاتا قائمة بذاتها.
وما أن نصل إلى الذات حتى نجد أنفسنا أمام نصف فرد ذا جنس. فتكون الذات متجنسة حتما وليست “حيوانا عاقلا” فحسب بل حيوان ناطق متجنس عضويا ورمزيا. فالكلمات في أي لغة ليس لها نفس الدلالة عند الجنسين وخاصة ما كان منها متعلقا برؤية كلا الجنسين أحدهما لآخرهما. فالمفاد به هو ما يراه أحدهما في الثاني.
فما تستجمله المرأة في الرجل وما يستجمله الرجل في المرأة ليس واحدا إلا بالاسم الواصف له أي في الدلالة على الجمال. لكن جمال الرجل في عين المرأة غير جمال المرأة في عين الرجل. وطبعا هذا لا يستثني المرأة المترجلة والرجل المتخنث. وهذا من الشاذ الذي يحفظ ولا يقاس عليه. وتوجد ظاهرة ملحوظة.
فالجمال جذاب بالطبع لأنه هو عبارة المنشود في الموجود أي ما يشده إلى ما يتعالى عليه. لكنه بين رجلين أو بين امرأتين إذا لم يكن أي منهما مثليا طراد وليس جذابا بمعنى أن الرجل لا يعتبر جمال الرجل جذابا له بل يعتبره منافسا لجاذبيته. وكذلك المرأة. فيصبح الجمال في نفس الجنس طاردا وليس جاذبا. وهوما يعني أن الجاذبية والطاردية تفيد ضرورة النصفية في الحالتين.
وفي الختام فإن الذات الفردية من حيث هي واحدة وليس نصفا مفهوم خلقي أصله ديني ثم صار فلسفيا حتى يكون “الفرد” موضوعا حاملا للمسؤولية الخلقية في عالم متعال يترتب عليه وجوده في عالم دان. وبلغة قانونية الفرد ذات معنوية وليس ذاتا طبيعة رغم أن الاستعمال العادي يعتبره ذاتا طبيعية بالمقابل مع المؤسسات التي هي ذوات معنوية.
ولست غافلا عن كون الدقة في التعريف المفهومي ليست من العادات الحميدة السائدة في “تفلسف” الكثير من المتفلسفين وخاصة أولئك الذي يتصورون ما بعد الحداثة أو النيتشوية تسيبا خطابيا ليس فيه الصرامة المنطقية الضرورية فيتوهمون كل “سرد” أدبي “زردا” فلسفيا خلطا بين تلازم المعاني المشروط بنظم المباني وتوارد الألفاظ. فالنسقية المنطقية هي جوهر الفلسفة ولا فلسفة من دونها إلا إذا كانت شبيهة.
وبهذا المعنى فالفرد من حيث هو موضوع حامل للصفات الخلقية وخاصة للمسؤولية القانونية في الحياة الدنيا والمسؤولية الدينية في الحياة الأخرى ليس ذاتا طبيعية لأن كيانه الطبيعي نصف ذات وليس ذاتا بل هو ذات معنوية وهي منشود في وجوده وليست وجوده كما بينت في هذه المحاولة.
وهذا يعني أن الذات الطبيعية الكاملة هي لقاء الجنسين في العلاقة التي تضمن الرعاية والحماية لتواصل النوع عضويا (بالإرث العضوي) ولتواصل الجماعة رمزيا (بالإرث الثقافي). ومنهما ينبع الفرد ذاتا معنوية وليس حقيقة طبيعية ولا ثقافية هي الذات التي تحمل مسؤولية تفاعلها في العضوي والثقافي.
وهذا يعني أن البنية تكون دائما متقدمة على عناصرها والمجموعة على أعضائها والتقدم علته أن الأساس ليس العناصر بل ما بينها من تبادل وتواصل. فما يلحم العناصر فيكون البنية هو ما بين العناصر من تكامل قد يبدوا في العناصر نقصا ولكنه في الحقيقة كمال الوجود بما فيه من إمكان تحقيق المنشود.
وهذا المنشود الموجود في كمال المنشود هو أصل القيمي الذي يصل النصفين الطبيعيين والثقافيين لحمة للفردية بالمعنى الروحي وموضوعا للمسؤولية الخلقية في الدنيا والآخرة وهي التي تجعل الفردية ذاتا خلقية أو شخصا مكلفا وهي إذن مفهوم ديني بالجوهر وأول ذات معنوية. ولو كان ذاتا طبيعية لكانت حاصلة وليست موضوع تحصيل طيلة الحياة. وتلك علة الحاجة إلى التربية والحكم في الجماعات البشرية. فالفرد ذات في تحقق سائل وهي حاملة للمسؤولية الخلقية والقانونية وليست موضوعا طبيعيا.
والدين يعتبرها أمانة حملها الإنسان ممثلا للنفس الواحدة التي منها الزوجان والتي هي أصل كفطرة لكنها غاية كتحصيل ذاتي يحقق ما في الفطرة باعتباره المنشود الذي يشد الموجود إلى مبدأ الوجود وذلك هو أصل وحدة الديني والفلسفي المتقوم من حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود والذي يكون نسيانه هو مفهوم الخسر في سورة العصر والاستثناء من الخسر هو الإيمان والعلم الصالح (للفرد) والتواصي بالحق والتواصي بالصبر (للجماعة).
ولولا ذلك لاستغنى الإنسان عن السياسة أي التربية والحكم ولما كان بحاجة للرعاية والحماية من الجماعة في الجماعة وبين الجماعات بدأ من الأسرة وختما بالإنسانية كلها وتلك هي استراتيجية القرآن في توحيد الإنسانية وأول توحيد هو الفرد لأنه ليس واحدا بموجوده بل بمنشود وجوده المرسوم فيها وصلا بما يتعالى على الفناء وداعيا للبقاء وعلى المتناهي إلى اللامتناهي الذي يحرره من الإخلاد إلى الأرض.