الفرد: مفهوم ديني خالص وهو لغز الألغاز الوجودية

**** الفرد مفهوم ديني خالص وهو لغر الألغاز الوجودية

لما أكدت أن مفهوم “الفرد”و”الفردية” من المعاني العقدية وبالذات الدينية وأنه فلسفيا وعلميا صعب التصديق. لكني عالجت الأمر فلسفيا من منطلق شروط ما ينسب إلى الإنسان من استنثاء من الضرورة الطبيعية لتأسيس الحرية الخلقية المسؤولية. قد أشرت إلى الحل الذي توصل إليه كنط بمسلماته. والمعلوم أن الفلسفة التي سيطرت قبل إسهام الفكر الفلسفي في الكلام على المعضلة الكلامية التي تتعلق بالمسؤولية والحرية المنسوبة للإنسان في مسألة أفعال العباد كانت تعاني من أصل الخلاف بين الموقفين الأفلاطوني والأرسطي التي تتعلق به من خلال المقابلة حول منزلة الكلي والعيني الوجودية. فأفلاطون الذي كان يقدم منزلة الكليات الوجودية على الأعيان التي يعتبرها نسخا من الموجود الحقيقي الذي هو المثال وكلي غير متعين في الوجود الطبيعي ولا التاريخي بل في وجود أسمى منهما هو مثالهما وهما مجرد نسخ منه في ظاهرالوجود.لكن أرسطو اعتبرالصورمحايثة في الأعيان أو الوجود الحقيقي. فيكون الوجود الحقيقي عينيا والمعلوم الحقيقي كليا ومن ثم فالعيني لا يعلم إلى بما فيه من كلي وهو الحقيقي من وجوده. والمعضلة هي أن الحقيقي لا يقوم إلا متعينا في ما لا يعلم وكأنه غير حقيقي.وهو ما يسميه مادة الموجود الحقيقي.فهل الفردية هي المادي من الكلي المتعين فيه؟هذا هو موضوعي. وسأبحث في المحلين الممكنين لوجود الفردي في الإنسان: في كيانه العضوي أو بدنه وفي كيانه الذي لا ينسب إلى كيانه العضوي إلى إذا اعتبرنا ما يكتسبه الإنسان بكيانه العضوي من كيانه الحضاري هو بدوره من توابع كيانه العضوي:فيكون ما يتميز به عضويا هو أصل تميزه بما يكتسبه بالمقارنة مع غيره. فليس من شك عضويا أن الفرد يدين بما له من عضوي إلى ما ورثه من أبويه مناصفة ومن ثم فهو بهما يبدو عديم التميزإذا قورن بكل ما ينجبه أبواه فيكون جميع الأخلاف مدينين للأسلاف بالموروث العضوي منهماوممن تقدم عليهما بقوانين الوراثة العضوية المعلومة ربما إلى بداية النوع وربما الحي المطلقة. لكننا نلاحظ أن الاخوة مهما تشابهوا فلا يوحد فرد مطابق للثاني بينهم حتى لو كانا توأمين حقيقيين. فهل معنى هذا أن التميز يحصل بالتوليف بين ما يأتي من الوالد وما يأتي من الوالدة ويكون هذا مختلفا من إنجاب إلى إنجاب أو ثمرة توليفة مختلفة عن التوليفات السابقة فتعطي التفرد العضوي؟ وهل هذا العنصر المحقق للتفرد بالتوليفة هو مقوم الفردية التي نجدها لاحقا في كيان الإنسان والتي نعتبرها “الذات”بالمعنى الذي يجعله يصبح شخصاذا صفات خلقية وكائنا في جماعة حضارية ذاصفات ثقافية ومواطنا في جماعة سياسية ذات حقوق وواجبات مدنية وحينها يسمى إنسانا كما في تعريفه بالمدنية؟ وإذا اعتمدنا على ما يعرفه به الإنسان من تكليف واستخلاف وعلى ما يؤسسهما به من شهادة وميثاق ومن عرض الأمانة وقبولها ظلما لنفسه فإن هذا التفرد العضوي ليس عضويا فحسب أو لنقل ليس مقصورا على المادي من العضوي بل فيه مقوم من طبيعة مختلفة هو ما نسميه الروحي الذي يصله بالطبيعي والحضاري. فأما الوصل بالطبيعي فبين لأن البدن لا ينمو من دون استمداد قوامه وقيامه مما يستمده من محيطه الطبيعي غذاء وماء وهواء.لكن ذلك يحصل بذاته بل لا بد من أن يكون للإنسان دور سواء بذاته عندم يكبر أو بتوسط الجماعة بدأ بالاسرة قبل ذلك وحتى بعده فإن العلاقة بالطبيعة تتطلب ما ليس بطبيعي وهذا الدور هو ما نسميه بالحضاري أو الثقافي الذي يجعل الإنسان من حيث هو كائن عضوي يختلف عن غيره من الكائنات العضوية يعيش في محيطين: طبيعي مثلها وهو ليس من إنتاجه فردا وجماعة وحضاري هو من إنتاجه فردا في جماعة وجماعة من أفراد تتقاسم العمل لتحصيل شروط قيامها من الطبيعة. وهنا نقع مرة أخرى في نفس الإشكال: الناشئة التي تتلقى نفس التكوين الحضاري بكل أبعاده الخلقية والمعرفية والجمالية الذوقية في نفس الظروف الحضارية ما الذي يجعلها تتمايز من هذا الوجه تمايزها من الوجه العضوي؟ أخوان أو اختان من نفس الأسرة يتلقيان نفس التربية ويختلفان فيتمايزان. هل يحصل هنا أيضا بنفس المنطق التوليفي تفردمن طبيعة مختلفة عن طبيعة التفرد العضوي وتكون معلولة بالعوامل الثقافية مثلما يحصل في التفرد العضوي؟ وهي هي بمعزل عنه أم هي من نتائجه؟فإذا كانت من نتائجه فما دورالحضاري فيه إذ لايمكن ألا يكون له دوروإلا لكان العضوي كافيا فاستغنينا عن غيره. وإذا كانت التوليفتان العضوية والحضارية منفصلتين أفلا يكون ذلك ربما من علل اضطراب الشخصية وحتى من علل ازدواجها فيكون للإنسان تفردان عضوي وثقافي حصيلتهما مركبة لتألفهما من البعدين ثم من تفاعلهما من العضوي إلى الثقافي ومن الثقافي إلى العضوي وتكون الشخصية توازن ما في هذه البنية؟ أليس كل واحد منا يشعر بأن كيانه تنازعي وأحيانا تمانعي بين قطبين أناه ووعيه به ولا أحدمنهما يقبل الرد للثاني فيكون توازنه في هذا التفاعل في الاتجاهين لكأن بدنه في حوارمع وعيه بذاته ووعيه بذاته في تفاوض مع بدنهوهو قائم من حيث هو بنية مخمسة:وحدته وحداها في تبادلهما التأثير والتأثر. والسؤال: ما العامل الموحد في هذه البنية وهل يمكن فهم ما يعاني من الإنسان عندم يختل التوازن بكونه خللا في هذا العامل الموحد أو في أحد الحدين أو في أحد التفاعلين حيث يكون العضوي فاعلا أو منفعلا ويكون ما ليس عضوي فاعلا أو منفعلافيكون الإنسان بنية معقدة هي عين من العضوي والحضاري. لأعداد إجازة الفلسفة كان النظام في تونس المستورد من فرنسا إعداد شهادة في علم النفس ببعديه العضوي و”النفسي” غير العضوي فكانت المعضلة في العلاقة بين العضوي واللاعضوي في النفسي.فدرسنا مثالين تتعين فيهما هذه العلاقة في علم النفس المرضي وفي علم النفس “السوي”دورة المرأة الشهرية. وكان كل الأساتذة فرنسيين ومن الكبار باستثناء استاذي علم النفس المرضي الذي كان طبيب الرئيس بورقيبة ومدير قسم الأمراض العقلية في مستشفى الرازي الجامعي وكان تونسيا وعلم الإحصاء التطبيقي في علم النفس أيضا كان تونسيا. وكلاهما خريج المدرسة الفرنسية. ومعنى ذلك أن جيلنا كان معظوظا حقا. فقد كان من بين الأساتذة ميشال فوكو لمدة سنتين ومع كبار الأساتذة الزائرين مثل أكبر أساتذة الهرمينوطيقا ومترجم هجل ومؤسس مدرسة في علم النفس الفرنسي وأستاذ الاثنثروبولوجيا وهو رجل دين مسيحي. وكانت بقية الدروس متعلقة بعلم النفس الفلسفي وعلم النفس التجريبي وابستمولوجية علم النفس وكيفية الانتقال من الأول إلى الثاني في مرحلة تأسيس علم النفس قياسا على علوم الطبيعة وخاصة في المدارس الفرنسية والألمانية. لكن ذلك كله لم يشف الغليل لأنه منتسب إلى ما يسميه الألمان بعلوم الروح. فعلم الروح Geisteswissenschaft علة تسميته بهذا الاسم هي عين الإشكال الذي أريد الكلام فيه. ذلك أن “الوعي المدرك”الذي يعلم الإنسان-الاسم الثاني هو علوم الإنسان وأول من سماه كذلك هو الفارابي والاسم المعهود عند اليونان هو علم الاخلاق-هو في آن الذات التي تعلم والموضوع الذي يُعلم. وسواء ما خرجنا به من المثالين أو من دراسة النقلة من الفلسفي إلى العلمي في تأسيس علم النفس وبعده علما الاجتماع مع تاريخ الفلسفة ظلت المعضلة واحدة:فصامية الإنسان الجوهرية فهو يدرك ذاته متعنية في كيان عضوي هو موضوع لاواع يبدو”معلوما”وكيان لا عضوي(؟) هو ذات واعية مجهولة. والأمر ليس فصاميا فحسب بل يبدو متناقضا: فما يعلم يبدو غير قابل للعلم وما لا يعلم يبدوا قابلا للعلم.الذات العالمة تبدو شبه مجهولة بإطلاق والموضوع المعلوم من كياننا يبدو شبه معلوم وإن ليس بإطلاق. والوصل بين مقومي كيان الإنسان أو حدي وجوده يبدو معضلة المعضلات ناهيك عن تفاعليهما. والحصيلة أن “الفرد” ليس فردا بل هو “جماعة” يتنازعها العضوي و”اللاعضوي” وما بينهما من تفاعل في الاتجاهين ولا معنى للتسمية بالألسن الغربية Individu من أصل لاتيني لأن الفرد يقبل القسمة إلى حد لا يكاد يتناهى إذ في مخه فحسب مليارات الخلايا ناهيك عن بقية بدنه. فلكأنه عالم وليس فردا. وأي عطل في أي خلية يمكن أن يفسد كل الجهاز العضوي ومثله الجهاز اللاعضوي -تسليما بصحة هذه القسمة لأننا لا ندري أي يقف العضوي ويبدأ للاعضوي. وإذا اعتبرنا اللاعضوي هو الواعي من كيان الإنسان فقد رأينا في كلامنا على مخمس الحياة بين اليقظتين من العجائب من المغلقات ما لا يتناهي. لو لم أكن أومن بمفهوم الفرد الديني أو الإنسان المكلف والمسؤول والمستخلف لما آمنت أبدا من منطلق علمي أو فلسفي بأن “مفهوم”الفرد له دلالة أو معنى.والفرد إذن معنى ديني ولا علاقة له بالفلسفة ولا بالعلم وهو “الذات”الحاملة للبعد المدرك والخلقي من كيان الإنسان وهو لغز وجودي”من أمر ربي”. ولا يظنن أحد أن البحث العلمي ومحاولة الكلام في الذكاء الاصطناعي حسم المسألة. فقد بينت في محاولة سابقة أن ذلك مجرد أوهام ومقارنات متسرعة. ما يزال المشكل معضلا كما وصفت. لا شيء يمكن أن يعرف معنى “الوعي” أو قابلية الكائن الحي للعودة على ذاته ليكون ذاتا وموضوعا في آن. خرافة “الوعي” ايبيفينومان-ظاهرة زائفة-لا يصدقها عاقل وهي تشبه حكمين قديمين يبدوان متناقضين: القول بقوى خرافية ونفي القوى التي لا يدركونها. لا أحد كان يصدق أن الضوء يقضي وقتا في الانتقال من مكان إلى مكان والكل كان يؤمن بالتولد الطبيعي. لكن هذه خرافة وتلك خرافة. لا بد من الاعتراف بأن نفي وجود “الروح” التي من أمر ربي لا دليل عليه والزعم بعملها أيضا لا دليل عليه. وكلتا الرؤيتين لا دليل عليهما والأمر الوحيد ألأكيد هو أن المؤمن بالقرآن يمكن أن يصدق تصديقا إيمانيا لا تصديقا علميا بوجود الروح والكافر به قد يقول بالإبيفينومان وصفا للوعي. وهكذا فما قلته حول المصدر الديني لمفهوم الفردية واعتباره صار فلسفيا في الحداثة لا يعني أنه ذو مصدر فلسفي نظريا أو عمليا.فمفهوم القوتين لدى العاقل -مفهوم أرسطي ويعني القدرة على الضدين عنده-يمكن أن يؤسس الأخلاق والفلسفة العملية لكنه لا يحل مشكل الحرية والاستثناء من الضرورة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي