ه
ما لا يطيقه أعداء القوى السياسية ذات المرجعية المنتسبة إلى حضارة البلد الإسلامية هو انتقالها مما حاولوا وصمها به، أعني من مواقف رد الفعل في فكرهم أوفي سلوكهم أو فيهما معها وما يترتب عليها أو ما ترتبت عليه من رؤية لخياراتهم السياسية وأسسها في مرجعيتهم إلى المواقف المتحررة من هذه العقد والتعامل مع الفعل السياسي بثقة في النفس خلقيا والقدرة عليه بكفاءة.
والأمر لم يعد مقصورا على كل تضحياتهم التي امتدت لأكثر من قرن حتى يجمعوا بين ثقافتهم الأصيلة وثقافة العصر وخاصة بسبب عدم انحصار صلتهم بالغرب على نوفيذة الثقافة الفرنسية التي تزداد ضيقا وهامشية يوما بعد يوم في العالم كله. لذلك فقد صارت هذه القوى السياسية أصعب أرقام الوضعية الجيوسياسية في الإقليم بل وفي العالم. وقد تجاوزت في تونس مثلا حدودها لأن دورها في حماية الثورة مما حيك لها من أعدائها في المحل والإقليم والعالم الثورة التي فجرها الشعب التونسي كله دون تمييز بين القوى السياسية.
لكن انتكاس بعض هذه القوى بسبب تبعية قياداتها إما للمافيات المحلية أو لقوى الثورة المضادة ومن يسندها في الإقليم وفي العالم خوفا من عودة الوعي للأمة ودورها في التاريخ الكوني.
تجاوزت الحركات السياسية ذات المرجعية المنتسبة إلى تاريخنا وثقافتنا ما أريد لها أن تستبطنه من أحكام أعدائها المسبقة حولها وحول دورها في التاريخ سواء كان هؤلاء الاعدام من المحل أو الإقليم وحتى من العالم الذي لم يتحرر بعد من خلافات الماضي بين الحضارتين المحيطتين بالأبيض المتوسط. لكن شعوبنا تحررت من الموقف الدفاعي.
وإذن فما يجري في هذه النزعة العدوانية تثبت عكس ما يقال عن العلاقة الراهنة بين الحضارتين أيتهما التي صارت دفاعية ومقعدة إزاء الثانية. وذلك ما يعلل ظاهرتين لم يعد أحد يستطيع نكرانهما:
• الاستقواء بالثورة المضادة التي تعتمد هي بدورها إما على إسرائيل أو على إيران دليل ضعف الأعداء.
• الاحتماء بالمستعمر السابق كلما خسروا المعركة في مجراها السلمي ولجأوا إلى الإرهاب والاغتيال المخابراتيين.
لأن أعداءهم هم الذين يوجدون في وضعية تجعلهم هم الذين صاروا أصحاب الموقف الدفاعي وعقد النقص.
ويمكن تحديد مستويات هذه المعادلة التي تثبت تجاوز الأمة والشعوب التي أثارت موقف الدفاع وأعتقد النقص في المجالات التالية:
- فالأجيال الأخيرة من هذه القوى السياسية جمعوا بين الثقافتين الأصيلة والحديثة باقتدار.
- وموقف الأمة الحضاري المستقل ازداد قوة وقدرة على تحقيق السيادة الثقافية دون عدوانية.
- وشروط التنمية المستقلة باتت في المتناول لأن فك الارتباط بالمستعمر لم يعد أمرا مستحيلا ومن ثم فقد أصبح الانفتاح على العالم كله علاجا سويا لشروط التنمية المتكاملة بين شعوبه عربية كانت أو أمازيغية أو تركية أو كردية.
- والشعوب صارت مدركة لهذه التحولات ومؤمنة بالمصير المشترك والدليل أنها أصبحت تعطي تفويضها لقيادة أمورها لهذه القوى دون أن يقتصر دافعها على العلل الدينية بل صارت العلل متعلقة أساسا بالمسألتين الاقتصادية والثقافية التي يعتبر الدين أحد عناصرها وبالعزة والسادة الوطنية.
- وأخيرا فإن ما أصاب الثورة المضادة من وهن بعد أن خسرت كل رهاناتها فلم يعد بالوسع الاستفادة من إيران وإسرائيل ذراعين لروسيا وأمريكا حاميين للثورة المضادة وبعد تمكن الثورة من الصمود حتى حيث تجري حرب أهلية ومن الشروع في الموجة الثانية في مصر والعراق والسودان والجزائر أعني في أهم أقطار الاقليم الذي كان تابعا.
لكن الانتخابات الأخيرة في تونس قد تضعنا أمام مرحلة حاسمة في نضوج قوى الثورة السياسية وخاصة في تثبيت الثقافة الديموقراطية لأن هذا التعافي في مستوى الوعي المعرفي والوعي القيمي رغم كونه التوجه السوي في العلاج السياسي لقضايا الأمة ما يزال هشا ويبقى بحاجة إلى استراتيجية تحول دون نوعي المؤامرات التي يمكن أن تفسد السعي السلمي لإخراج أوطاننا من التهديد بالحرب الأهلية ومما يشبه صراع الحضارات الداخلي بين التأصيل المستقل والملتفت إلى المستقبل والتحديث المتحرر من التبعية الثقافية للاستعمار وأذياله في بلداننا.
• المؤامرات التي يقودها الذراعان إيران وإسرائيل وعملاؤهم من الأنظمة العربية سعيا للاستعادة خارطة ما قبل إسلامية في الإقليم.
• المؤامرات التي يقودها حماة الذراعين والأنظمة العميلة لفرض سايكس بيكو ثانية بعد أن بين التعافي فقدان سايكس بيكو الأولى قدرتها على تغيير وعي الأمة رغم تغييرها للخارطة.
ولحسن الحظ فإن نخب الصف الثاني الذي يستعمله الأعداء ليست كلها فاقده لهذا الوعي بضرورة اعادة بناء الإقليم بناء يضاهي أوروبا المتحدة دون معاداة لها بل وفيهم الكثير ممن يريدون فعلا تحقيق الصلح بين أبناء الوطن الواحد وبين شعوب اقطار الإقليم لتجاوز الصراع الحضاري في الداخل وبيننا وبين الغرب لأن رفض التبعية الثقافية والسعي إلى فك الارتباط مع القوة الاستعمارية ليس عدوانا على أحد بل حق الندية الذي ترفضه أنظمة الثورة المضادة العربية الاستبدادية وحماتهم من ذيلي الاستعمار الروسي والأمريكي أي إيران وإسرائيل. ولا بد من العمل مع هذه النخب الواعية بشروط التحرر والكرامة وهم موجودون في تونس.
وإذا ما استثنينا اليسار المحتضر في العالم كله وليس عندنا وحدنا والقوميين التابعين للأنظمة العربية التابعة للملالي والسلفيين التابعين للأنظمة التابعة للحاخامات -وهم الذين يستثنون أنفسهم لأنهم لا يعترفون بحق الشعوب في إدارة شأنها بذاتها وحكم نفسها بنفسها بل يعتبرون أنفسهم أوصياء عليهم – فإن القوى السياسية التونسية يمكن أن تحقق جبهة متينة للخروج من الوضعية الصعبة اقتصاديا وثقافيا لتأسيس شروط الديموقراطية وتطويرها بنسق معقول دون تعجل لتجنب النكوص.