العنتريات ومحددات التفاوض وظروفه

ه

قرأت نصا نشره الصديق جمال الدين الهاني – وهو دون شك من تأليفه لأن طابع عالم النفس فيه بين – يمكن اعتباره تفسيرا ذا مرجعية نفسية لما يتهم به بعض “فرسان الفرجة” ممن أسهموا في ما يسمى فن “وضع العصا في العجلة” يتهمون الإسلاميين بأنهم ذوو أيد مرتعشة في سياسة المرحلة منذ أن اختارهم الشعب لأمانة الحكم والحرص على تمكين الثورة من استكمال مهمتها سلميا وتجنب تحولها إلى حرب أهلية كالحال في كل بلاد الربيع العربي. وليس جمال الدين من متهميهم لكنه يفسر الظاهرة باختصاصه في علم النفس.
ولا يمكن ألا أوافقه على أن لنفس المفاوض دورا كبيرا في مجريات التفاوض سواء كان الأمر في السياسة زمن السلم أو خاصة في زمن الحرب كما في الاقتصاد زمن الرخاء والسراء او خاصة زمن القحط والضراء وحتى في الحياة اليومية إذ إن التداولية نفسها لا يحكمها النظام الرمزي ومجال الحوار وحدهما بل وكذلك أحوال النفس عند المتواصلين والمتحاورين وظرفيات مجراه.
وطبعا فلست مختصا في علم النفس مثل الصديق جمال الدين. لكن لي فيها تكوينا أظنه كافيا لكي أعلق على محاولته القيمة من باب تبادل الرأي ومزيد الفائدة. فأحوال النفس متناسبة مع الوضعيات التي يجري فيها اللقاء بوصفه مسرح ظهورها وخاصة في حالات التفاوض التي هي دائما حالات اللقاء بين قوى متنافسة على شيء له دور في تحديد الرهان بقيمته وبدوره في لحظة اللقاء.
لذلك فالاكتفاء بتاريخ المفاوض النهضاوي ونفسيته لفهم سلوكه حتى وإن كان ضروريا يبدو لي فيه الكثير من الاحجاف. ذلك أن:
1-ظرف التفاوض
2-والعامل النفسي لدى الأطراف الاخرى المقابلة
3-وخاصة ظرف البلاد
4-وطبيعة المرحلة في الأقليم
5-وأخيرا طبيعة المرحلة في العالم
تعتبر كلها محددات سابقة على المحدد النفسي لديهم جميعا لأنها هي التي في خلالها تتشكل الرؤى وفي إطارها يكون العامل النفسي محددا للتلقي ولرد الفعل لدى كل الأطراف وليس عند النهضاوي وحده.
وقد قرأت بعض الردود. ولعل بعضها قد أشار إلى بعض هذه العوامل.
فالاستاذ الوريمي نبه إلى عدم الاقتصار على ماضي الحركة وأضاف لحذرها علة اخرى هي العلاقة بالمستقبل. ومعنى ذلك أن النهضة ليست حبيسة ماضيها بل إن لها رؤية لمستقبل الوطن. ولعله يقصد أن رؤيتها تجري في إطار حضارتها وشروط العصر التي لم يعد فيها للأقزام دور.
كما قرأت محاولة أخرى أشارت إلى تعدد المواقف في حركة النهضة ذاتها.
وقرأت نصا للأستاذ العوني حول نفسيات القوميين ومواقفهم مركزا على الصافي سعيد الذي هو المثال الأبرز على أمراض القوميين العرب التي لا علاج لها لأنها جعلت رؤاهم أقرب إلى الفاشية العسكرياتية منها إلى أي شيء آخر.
والمهم أن اشكالية التفاوض لتشكيل الحكومة أسالت حبرا كثيرا. وهي تستحق ذلك وأكثر لأنها حددت مسار ما يجري في تونس وقد تنهي التجربة في اللحظة التي يبدو التاريخ فيها وكأنه بدأ يعمل لصالح الثورة في الإقليم كله خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يجري في عقر دار نوعي القوى التي تقود الثورة المضادة في الهلال (الملالي) وفي الخليج (حكام البترول) وفي العالم أي روسيا وأمريكا خاصة بتوسط إسرائيل أداتهما المباشرة للمعركة في الإقليم.
وقبل أن نأتي إلى النهضاوي المفاوض – لئلا نقتصر على الأحوال النفسية فندرك أنه يتجاوزها بما يمكن اعتباره لا يفهم إلا من خلال مشروع يتجاوز الظرفي ويبحث عن شروط الجمع بين التحرر والتحرير – ومن ثم فهو لا يقبل القيس مع أي طرف من أطراف التفاوض لأنها كلها ودون استثناء ثورية في الداخل ومتحالفة مع الثورة المضادة في الخارج. والمعلوم أنا كلها متحالفة ضد ما يسمونه بالاسلام السياسي. ومعلوم كذلك أن الثورة المضادة تتألف من صنفين مضاعفين:

  1. الثورة المضادة الاقليمية سواء كانت عربية متذيلة لإيران أو عربية متذيلة لإسرائيل ناهيك عن هذين القوتين اللتين تخترقان النسيج التونسي بكل مستوياته الثقافية والسياسة وحتى الاقتصادية والأمنية.
  2. الثورة المضادة العالمية سواء كانت روسية أو أمريكية ومعهما أوروبا التي ما تزال مسيطرة على مقدرات البلاد وتستطيع أن تركع أي حكومة متسولة للرعاية والحماية في بلد ليس له أدنى شروط السيادة لأنها يمكن أن تعطل حتى أجور موظفيها وأن “تنش” عليها كلابها التي تسمى إعلاما وإذا لم ينفع أن تستعمل السلاح النووي السياسي أعني الإرهاب المخابراتي.
    وإذا حاولت النهضة أن تجد لها مخرجا من هذا الحصار داخل الإقليم وخارجه ولو على سبيل المهادنة إذ من دون ذلك فسيكون مآلها الاختيار الثاني أي ما يؤدي إلى صف الدواعش اعتبر ذلك منها تذيلا واتهمت مثلا بالتطبيع في حين أن جميع متهميها هم أول المطبعين ليس سياسيا فسحب بل وعقديا (مثلا الشيوعي والطائفي).
    والآن علينا أن نسأل:
    هل يمكن للنهضاوي إذا كان ذا عقل واستراتيجية سياسية رصينة أن أن يهمل أخذ ذلك كله في الاعتبار ويختار العمل بميزان القوى الداخلية؟
    هل يمكنه كذلك أن ينسى أن فرضية حياد أدوات الدولة الأمنية والعسكرية والإدارية وأدوات المجتمع المدني النقابي والحقوقي صحيحة فتلتزم بالشرعية الديموقراطية وتأتمر بأوامر من اختارهم الشعب وتكليفهم بإدارة شأنه؟
    من يصدق أن ذلك حقيقي وأنها ستأتمر بأمر الشرعية فلا تتدخل في الامر بحجة الخوف على النمط الاجتماعي؟
    لو كان ذلك كذلك لأصبح الكلام غير الكلام:
    هل يمكن اعتبار من قفز مباشرة إلى حكومة الرئيس شيئا آخر غير بداية انقلابية قد تتحول إلى انقلاب خاصة والدعوات إلى البيان رقم 1 لم تتوقف؟
    نأتي الآن إلى الاسئلة:
    • السؤال الاول:
    كيف يمكن أن تفاوض من يحالف بشار والسيسي وحفتر ويمجد الدكتاتورية بل وهو يعلم أنه من دونها لا حظ له في أن يصل إلى الحكم ومن ثم فهو عدو للديموقراطية بالجوهر؟
    • السؤال الثاني:
    كيف يمكن أن تفاوض من يعتبر وجودك خطرا على ما يسميه نمط المجتمع لأنه صار يعتبر نفسه أصيلا وأنت الدخيل بمعنى أن 50 سنة من نظام سابق ثار عليه الشعب صار يمثل الأصيل وأنت صرت الدخيل لا لشيء إلا لأنك لا تتنكر لقرون من حضارتك؟
    • السؤال الثالث:
    كيف يمكن أن تفاوض من يعلم الجميع – ضمن الـ200 حزب – أنهم “أذرع” المافيات المحلية أو مخابرات الثورة المضادة التي سبق فوصفت وقد رأيناهم لا يتورعون عن التمييز بين فصائل الدم وعن استعدادهم للتضحية بعشرين ألف كلفة لأسقاط الترويكا؟
    • السؤال الرابع:
    كيف يمكن أن تفاوض من يتوهم تونس قد صارت قوة ستغير نظام العالم حتى وإن اعترف بأنها ليست قوة عسكرية وزعم أنها قوة خلقية في شعب كلنا يعلم أن أخلاقه ليست على ما يرام اللهم إلا إذا كانت الأخلاق هي ما نسمعه في الاقوال وليست ما نراه في الأفعال؟
    • السؤال الأخير:
    ولذلك فينبغي أن نسأل هل بقي للتفاوض محل؟
    ولا عجب إذا كنت أعتبر التفاوض مع هؤلاء مضيعة للوقت ونصحت لقيادات النهضة كتابيا وأحيانا شفويا منذ اليوم الثاني بعد وفاة المرحوم السبسي بأنه عليهم أن يسلموا بأن التوافق رغم هشاشته قد انتهى وأنه عليهم يختاروا تمتين صفهم واختيار المعارضة في انتظار عودة الرشد لفاقدي النضج السياسي الذي يعتبر وضعية تونس كما هي وليس كما يحددها مثرثروا الفايس بوك.
    وعندما نجحت النهضة في الانتخابات فصارت القوة الأولى في البرلمان تيقنت بأن ذلك سيزيد في عناد خصومها لأنهم لا يؤمنون بالديموقراطية إلا على “ترتوشة” ألسنتهم. لذلك نصحت بأن يقترحوا حكومة وحدة وطنية بدلا من الدخول في مفاوضات وأن يقترحوا لهذه الحكومة خطة إنقاذ تونس من هذه الفوضى السياسية وإعادة النظر في الدستور الذي هو “كاتاستروف” كما قلت دائما حتى خلال تحريره.
    وإذا تمنع من وصفت فالأفضل اختيار صف المعارضة حتى لو اختاروا الحل السحري الذي يتوهمونه أعني حكومة الرئيس التي ستكون انقلابا يعيد الثورة المضادة للحكم وهو ما يتمناه الجميع حتى يتحقق لهم التناسق بين موقفهم خارج تونس وفي تونس: فمن يؤيد السيسي أو بشار أو حفتر لا يمكن أن يكون مع الثورة والديموقراطية.
    لا ينبغي للنهضة أن تعتبر نفسها وصية على الشعب ولا على الثورة. ففي نخبة سياسية صار بعض من لا وزن لهم عدا “طول” اللسان “العقون” يشككون في وطنية النهضاويين لأنهم ليسوا مثلهم فلا ينظرون لأبعد من أنوفهم. عيبهم أنهم يعتبرون التحرر (مطلب الثورة) مشروطا باستكمال التحرير (شرط مطلب الثورة).
    ولما كان التحرير مستحيلا ما ظلت أوطاننا محميات فإنها ستبقى عاجزة عن توفير شروط الحماية والرعاية اللتين هما أساس السيادة. لذلك فالمحميات تبقى بنيويا توابع للمستعمر وساحة اختراق مخابراتي وتصبح النخب السياسية والثقافية والاقتصادية مجرد مرتزقة لدى مافياته ويضطر الجميع إلى العنتريات التي تحاول التعويض بالأقوال عن الأفعال.
    ذلك أنه لو صح ما يقوله من يشكك في وطنية النهضاوي الذي لا يكتفي بالوطنية الضيقة لكان ينبغي كذلك على هؤلاء الحمقى أن يتهموا دوجول وأدناور باللاوطنية لأنهما تجاوزا القطرية وأسسا لوحدة أوروبا شرط تحريرها من الاستعمارين الروسي والأمريكي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي