العقلانية، ماهي؟ وكيف نعيد النظر في علوم الملة؟ – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله العقلانية ماهي؟ وكيف نعيد النظر في علوم الملة؟

فمن يتصور شرح الفاظ القرآن علما بالدين أو بالدنيا فهو يعبر عن الفكر العامي الذي لم يتجاوز فقه اللغة السطحي ومن يتصور عرض الإيديولوجيات الغربية بحسب الموضة علما بالتاريخ وما بعده فهو يعبر عن الفكر العامي الذي لا يتجاوز التقريب الجمهوري في الصحافة المتعالمة.

ولهذه العلة اعتبرت الأمر الفكري عندنا حاليا مقصورا على معركة بين كاريكاتورين أحدهما يدعي التأصيل والثاني التحديث وكلاهما يصدق الثاني في دعواه فيظن التأصيلي أنه يرد على الحداثة ويظن الحداثي أنه يرد على الإسلام وهما أبعد ما يكون عن الحداثة والإسلام لمضغهما قشورا مبتذلة منهما.

ذلك أن الكوني من القيم فيهما واحد بل هو واحد في كل الحضارات الإنسانية: المعادلة الوجودية والاحياز ومقومات الإنسان أو صفاته الذاتية وعلل التنافس بين البشر والحلول التي يصل إليها العقل تلقيا وإبداعا والتشريع تنظيما وتطويرا كلها من طبيعة واحدة رغم اختلاف الاساليب.

لذلك فعندي أن أفسد الرؤى بين أدعياء التفلسف القول بالخصوصية واغفال أنها ليست في العلم والعمل بل في المواد التي يتعلق بهما العلم والعمل. فمن يتصور خصوصية موضوع العلم والعمل هي المحدد وليس كلية العلاج العلمي والعملي لا يدرك حقيقة العلم ولا حقيقة العمل.

والادهى أنك تجد بين علماء الإسلام من يحتج بالخصوصية ضد كلية القيم التي جاء بها القرآن وعرفها بكونها قيما للإنسان من حيث إنسان رغم كونه يؤكد في نفس الوقت أن التعدد الثقافي واللساني والالوان من آيات الله في الاكوان. لكن الخصوصية تبقى أسلوبية لتنوع الأعيان وليست مقومة لعلاجها.

تعدد الثقافات في المستوى الرمزي من وجود الإنسان من جنس تعدد الالوان في المستوى البايولوجي من وجوده: فكما أن تعدد الألوان لا يغير قوانين البايولوجيا فإن تعدد الثقافات لا يغير سنن التاريخ. فالناس جميعا رهان تعاونهم وتصادمهم واحد وهو الاحياز الخمسة التي حددتها.

فهم يتعاونون من أجل الرزق المادي (الجغرافيا والثروة) والرزق الروحي (التاريخ والتراث) ويجمعها أربعها المرجعية التي توحد بينهم لكنهم يتنافسون كذلك عليها باعتبار كل واحد وكل جماعة تريد أكبر قدر منها. فيكون التعاون والتنافس (سلما وحربا) له نفس العلل في كل الحضارات وبينها في الأرض.

وهذا التعاون والتنافس سلما وحربا هو أصل الوجود الفردي والجمعي وهو علة وجود الجماعات والدول لكونه مطلب السياسة تربية وحكما لتنظيم الحياة المادية والروحية للإنسان من حيث إنسان مهما اختلفت الخصوصيات العضوية والثقافية التي هي خاضعة لقوانين كلية بايولوجية وحضارية واحدة.

وشرط ذلك كله أن يكون إطار العلم والعمل والعمل العامل والعمل العالم وأصلها جميعا التوجه إلى تحقيق شروط استعمار الإنسان في الارض بقيم الاستخلاف أو بدونها بالتعاون والتنافس على هذه الأحياز (الجغرافيا والثروة والتاريخ والتراث والمرجعية المحددة للذات) في داخل اي جماعة بين الجماعات.

والمعادلة الوجودية التي هي إطار التعاون والتنافس مؤلفة من علاقة مباشرة بين الإنسان وما يؤمن بكونه يؤدي وظيفة المبدأ المؤسس (الله أو الطبيعة الطابعة) وبينهما الطبيعة المطبوعة والتاريخ وسيطين محتاجين للمبدإ المؤسس ماوراء لهما مفارقا او محايثا ليكون مسرح وجود الإنسان قابلا للفهم.

وفي هذا المسرح مرت الإنسانية بمرحلتين واحدة كانت تتصور الفرد الإنساني قاصرا ومرحلة اعتبرته راشدا. والقصور روحي وسياسي (الكنسية والحكم بالحق الإلهي) والرشد روحي وسياسي (حرية الفرد والجماعة بلا وسيط روحي وحريته والجماعة بلا وصي سياسي: وهذا هو جوهر الإسلام والحداثة.

صارت الامة جاهلة بالآفاق والانفس مخرفة حول الغيب وشروح النصوص دون علم ولا عمل ولا علم عامل وعمل عالم بل صارت عاجزة عن حماية ذاتها ورعايتها فتحولت إلى محميات حكمتها الهمجيات قبل الاستعمار الغربي ثم خلال وبعده إلى أن بدأ الشباب يثور فبزغ فجر الاستئناف.

وهذه المحاولات هدفها بيان أعماق هذا الفجر وأهدافه: فالاستئناف يقتضي إخراج الأمة من حالة الطوارئ التي بدأت بعد الفتنة الكبرى وما نتج عنها من حروب اهلية (أربعة حروب) وهي حالة طوارئ مضاعفة لأنها أدت إلى تعطيل الدستور السياسي ببعديه تربية وحكما فأوقفت الحرية الروحية والسياسية.

وإذا كانت محاولات التشيع فرض الوساطة الروحية للمرجعيات ذات العلم اللدني والوصاية السياسية في نظرية الأيمة المعصومين أمرا واجبا فقد وازتها محاولات السني أمرا واقعا في وساطة روحية لفقهاء السلطان الذين شرعوا سلطة المتغلب بل وذهب المتصوفة إلى اعتباره ظل الله في الأرض.

وما حصل في حكم الوجه السلطني الفعلي من السياسة حصل أدهى منه في التربية الوجه السلطاني الرمزي من السياسة وأصبح المسلم فاقدا للحرية الروحية في الثاني والحرية الفعلية في الوجه الاول بحيث بات كالميت يغسله المتصوف وكالعبد يستعبده الحاكم: ففقد معاني الإنسانية بلغن ابن خلدون.

وما حصل في الحكم الوجه السلطني الفعلي من السياسة حصل أدهى منه في التربية الوجه السلطاني الرمزي من السياسة وأصبح المسلم فاقدا للحرية الروحية في الثاني والحرية الفعلية في الوجه الاول بحيث بات كالميت يغسله المتصوف وكالعبد يستعبده الحاكم: ففقد معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون.

وكونها عالة على غيرها في شروط الاستعمار في الارض يلغي البعد المادي من الحماية والرعاية وكونها عالة على غيرها في قيم الاستخلاف يلغي البعد القيمي منهما فتكون الامة عزلاء لا تستطيع حماية ذاتها ومعوزة فاقدة لشروط بقائها غذاء ودواء وشروط بقاء بصورة عامة: تصبح محميات لمن يستعمرها.

فلكأن ابن خلدون يصفنا في وضعنا الراهن وهو وضع كان ابن خلدون قد عاصر بداياته العميقة إذ لم يبق من الاندلس في عصره إلا القليل وبدأت حروب الاسترداد تصل إلى المغرب وجزر الأبيض المتوسط التي كانت إسلامية وعادت إلى أوروبا المسيحية إذ إن دور العثمانيين لم يصبح بعد بارزا.

ورغم أن هذا الدور لا يستهان به لكنه لم يكن عصر ازدهار علمي يتجاوز المنجزات الاولى لدولة الإسلام بل كان الانحطاط العلمي قد عم كل البلاد الإسلامية ولم يبق فيها إلا فضل قوة مادية بسبب عدم بروز آثار التقدم العلمي والتقني الذي شرع فيه الغرب بعد اكتشاف الممرات المغنية عن دار الإسلام.

وهذا التحريف المضاعف في مجال المعرفة النظرية وتطبيقاتها (علوم الطبيعة وأدواتها الرياضية لبناء صورتها والتقنية لإدراك مادتها) والمعرفة العملية وتطبيقاتها (علوم التاريخ وأدواتها السياسية لبناء صورتها المادية والتقنية لإدراك مادتها) هو علة سيطرة الاستبداد وفساد معاني الإنسانية.

تحديد هذا التحليل يجعل الامر كله متعلقا بنظرية المعرفة والتربية العقلية لتكوين الإنسان ونظرية الحكم والتربية الخلقية لتكوين المواطن وبيان أن العقلانيات والشرعانيات شيء واحد أولهما يحقق شرط القيام المادي والروحي للإنسان والثاني يحقق شرط قيامه السياسي الحر والسيد.

أما الغيبيات سواء بالخلق أو بالأمر في الدنيا أو في الآخرة فهي من مجال الإيمان الذي يؤسس للعلم والعمل وتبادل التأثير بينهما علما عاملا وعملا عالما وأصل ذلك كله هو حقيقة الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض بقيم الاستخلاف لإنسان حر روحيا وحر سياسيا ف أمة سيدة وغير تابعة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي