العقلانية، ماهي؟ وكيف نعيد النظر في علوم الملة؟ – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله العقلانية ماهي؟ وكيف نعيد النظر في علوم الملة؟

فالقول بالمطابقة نظرية للمعرفة تعني امرين كلاهما ممتنع عقلا ونقلا. فعقلا لكأن الإنسان يدعي أنه يعلم كل شيء عن موضوع علمه أو يدعي أنه لا يجهل عنه شيئا. وشرط ذلك أمران: الوجود مطلق الشفيف بحيث لا يوجد فيه أمر خفي ومجهول وأن يكون العقل الإنساني مطلق النفاذ بحيث لا يخفى عنه شيء.

ولا يقول ذلك عاقل بل إن من يقوله يثبت لسامعه أنه مجنون وأنه يدعي الألوهية والعلم المحيط. ومن المفروض أن يكون أكثر الناس تجنبا لهذا من يدعي الإلحاد: ذلك أن الإلحاد ينفي ذاته بمجرد ادعاء الاستغناء عن الألوهية التي يدعيها لنفسه عندما يتصور علمه العقلي كافيا للجزم بعدم وجود الله.

ذلك أنه لا فرق عندي بين من يدعي أنه بالعقل يثبت وجود الله أو أنه بالعقل ينفيه. كلاهما في هذه الحالة يتأله بلا وعي لأن شرط ذلك العلم المحيط الممتنع عقلا ونقلا على الإنسان. عقلا لأن العقل يعلم أنه لا يعلم كل شيء وأن ما يجهله لامتناه بالقياس إلى ما يعلمه. ونقلا الرسول ينفي علمه بالغيب.

وأكاد أجزم أن الذباب الالكتروني في مسائل الفلسفة والدين سبق في الوجود الذباب في الجدل السياسي الدائر بين العرب. كم من أمي يريد أن يجادل في هذه المسائل وخاصة من المرتزقة عند ملالي الشيعية وما يناظرهم عند السنة ممن يتصورون المحفوظات علوما فيدعون “معلوما من الدين بالضرورة”.

لا وجود لمعلوم لا من الدين ولا من الدنيا بالضرورة. يوجد المعلوم عقدا أو وضعا والأول إيمانيات والثاني فرضيات. ومثل هذا القول حوله الأميون من ذباب الفكر إلى نفي الحقيقة. خلطوا بين نفي علمها المطلق على الإنسان ونفي وجودها. فالنبي لم يدع العلم المطلق فكيف يدعيه المتكلم أو الفيلسوف؟

والقرآن بوصفه رسالة إلى الإنسان لا يمكن أن يتضمن علما بالغيب وإلا لفقد مدلول الرسالة: أن يرسل الله للإنسان رسالة فيها ما لا يفهمه الإنسان يعني أن الرسالة لم تعد رسالة. والقول بالغيب هو نفي القول بنظرية المطابقة في المعرفة. فالقول بالغيب دينيا مناظر للقول بعدم المطابقة فلسفيا.

وكم يضحكني من يعترض على هذا الكلام بالقول: أليس في نفيك لعلم الحقيقة المطلقة مع الإيمان بوجودها قول بمطلق؟ من يعترض بهذا الاعتراض لم يقم بالخطوة الضرورية لفهم القصد من القول بعدم المطابقة. ففيه دلالة على معنى ترجمه ا ابن خلدون بعبارة شديدة الوضوح: إن الوجود لا يرد إلى الإدراك.

ومعنى ذلك أن في نفي المطابقة دليل على أن الإنسان يعلم ويعلم أن عمله محدود دون أن يجزم بأنه يوجد من يمكن أن يكون علمه مطلق إلا إيمانا: ذلك أن العلم بمحدودية العلم مفهوم متضايف مع إمكانية وجود من علمه غير محدود. تماما كالتضايف بين اليقظة والنوم: فما نسميه يقظة متضايف مع عدمها.

وعدم العلم المحيط عندنا هو المتضايف مع العلم النسبي الوحيد الذي نملكه. وهذا هو الدليل الأساسي الذي بنى عليه ديكارت إثبات وجود الله. فإذا كنت واعيا بأن علمي محدود فلا بد أن يكون ذلك دليلا على التضايف مع علم لا محدود. وقس عليه الحياة والقدرة مثلا.

وفي الحقيقة كل ما يزعمه أصحاب ما بعد الحداثة من نيتشوية في نظرية المعرفة التي ردوها إلى سرديات لا فرق فيها بين العلمي والأسطوري ليس هو الوجه الثاني من نفس الموقف: فكما وصف نيتشة نفسه في نظرية القيم بكونه ضديد المسيح هم أضداد ابن تيمية وابن خلدون وديكارت.

فلا فرق بين من يدعي القول بالمطابقة في نظرية المعرفة والقول بنفي العلم: كلاهما يطلب نفي الفرق بين الإدراك والوجود. لا يمكن رد الوجود إلى الإدراك لا بنفي تجاوز هذا لذاك أو تجاوز ذاك لهذا. فحتى الخيال والفن النيتشويين لا يمكن تصورهما قابلين لتجاوز الوجود حتى لو قلنا بوحدته.

عندما يقول نتشة إن “ربه” فنان بمعزل عن الخير والشر فهو لا يتجاوز وجود القيم بل ينزل دون الإنسان إلى الحيوان لأن ما لا يعنيه الخير والشر فيه هو الحيوان بمعنى يشبه ما يقول به الغزالي عند الكلام على ما سماه “النفي الاصلي” أو “البراءة الاصلية” قبل وضع الشرائع سماوية كانت أو وضعية.

فمثلا قبل وجود الشرائع لم يكن في الجنس معنى للمحارم. كان الجنس حيوانيا يمكن للإنسان أن يمس أخته أو أمه مثل أي انثى. لكن المحارم مفهوم تجاوز النفي الأصلي أو البراءة الاصلية سواء على أساس ديني أو على أساس غير ديني: فالأنثروبولوجيا بينت أن حياة البشر تقتضيه لضرورة التزاوج الخارجي.

والتشريعات (قانونية كانت أو خلقية) ليست أمرا يمكن الاستغناء عنه إلا في وهم مرضي من جنس ما يدعيه نيتشة: ذلك أن ربه كفنان مبدع لا بد له من لسان ونظام تعبير لا يشاركه فيه غيره في حين أن الإنسان وجوده مشروط بغيره حتى عضويا بمعنى أن ثنائية الجنس تلغي وهم الفرد المتأله المكتفي بنفسه.

لا شيء في الوجود مكتف بنفسه بل الوجود ذاته لا يستطيع الإنسان أن يعتبره مكتفيا بنفسه. وتلك علة الأديان سواء كانت فلسفية أو غير فلسفية. وحتى نفي الأديان وخاصة وجود الله ففيه تأليه للعالم وليس نفيا للألوهية. فالقول بوحدة الوجود تأليه للعالم أو تطبيع لله: ابن عربي العالم عين الله.

ولهذه العلة اعتبرت المعادلة الوجودية التي ذكرت عين بنية الوعي الإنساني: أي إن الإنسان سواء كان مؤمنا أو ملحدا بنية وعيه هي: الوعي بذاته وبعدم عدم اكتفائها بذاتها ومن ثم بحاجتها إلى العالم الطبيعي والعالم التاريخي اللذين ينتهي إلى أنهما بحاجة إلى ما ورائهما من نظام يحكمهما.

وهذا هو نظام الاستدلال القرآني على وجود الله وعلى وحدانيته خالقا وآمرا سواء اعترفنا به أو أنكرناه: وهو معنى كون الدين مما فطر عليه الإنسان إذ حتى نفيه فهو قول به كمحايث للعالم بمعنى اعتبار العالم مكتفيا بنفسه. والاكتفاء النفس هو مفهوم الربوبية الموثن في هذه الحالة في الطبيعة.

لذلك اضطر سبينوزا إلى التمييز بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة وابن عربي قبله بين الثوابت في العدم وضاخ الوجود فيها فتكون الثوابت في العدم وجودا بالقوة بالمعنى الأرسطي ويكون باث الوجود فيها المحرك الناقل من القوة إلى الفعل: وحدة ابن عربي جمع بين المادة والصورة الارسطيتين.

وكون الوعي الإنساني بنيته هي المعادلة الوجودية هو المعنى العميق لكون الإنسان خليفة الله: وكل ذلك ليس علما بأمر غيبي بل هو عين الوعي الإنساني بذاته من حيث وعيه بكونه ليس مكتفيا بذاته بل وجوده مشروط بوجود كل الموجودات التي تنتظم في نسق معادلته هي المعادلة الوجودية التي وصفت.

وهذا الوعي بعدم الاكتفاء بالذات في أدنى الحاجات أمر واقع ليس لنا علم بعلل كونه كذلك: وذلك هو ما فيه من غيب لا يمكن الإحاطة به. ونظرية الخلق ونظرية الامر في القرآن تبين أن الإنسان جهزت خلقته ومأموريته بما يمكنه من أن يحقق مقومي ذاته مستعمرا في الارض(بايولوجيا)ومستخلفا فيها(خلقيا).

والمشترك بين الرسالة المذكرة والمعرفة الإنسانية المعالجة لما يعترض الإنسان من تحديات لتحقيق شروط بقائه من حيث هو مستعمر في الأرض بقيم الاستخلاف أو بضدها هو مجال فعل الإنسان وانفعاله وهو فلسفيا ما يمكن أن ننسبه إلى العقلانية وما يمكن أن ننسبه دينيا إلى الشرعانية.

فتكون العقلانية هي عين الشرائع الإنسانية أي ما يحققه الإنسان بوصفه مستعمرا في الأرض بقيم الإستخلاف أو بضدها من قوانين مستمدة مما يعمله من قوانين الطبيعة (الرياضية) وسنن التاريخ (السياسية) ليسد حاجاته العضوية النفسية المباشرة وحاجاته العقلية والروحية غير المباشرة.

وبهذا المعنى فـ”الأرض يرثها عبادنا الصالحون” ليست خبرية بل إنشائية أساء فهما علماء الملة. لأنها لو كانت خبرة لكان القرآن كاذبا. لأن من يرث الأرض اليوم ليس صالحين بل هم أفسد من عرفت البشرية. القصد من الآية هو أن يقوم الصالحون بما ينبغي ليرثوا الأرض وهي إذن إنشاء وتكليف وليس خبرا.

وهذا ما سأحاول بيانه من خلال ما انتهيت إليه في تعريف القرآن بكونه استراتيجية تحقيق وحدة الإنسانية بقيم الاستخلاف الذي يمكن الصالحين من وراثة الأرض بدلا تركها للفاسدين. وهذا يقتضي ما حصل في ثورة الشباب من إعادة فهم القضاء والقدر كما في شعارهم المستمد من بيتي الشابي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي