لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالعقلانية ماهي؟ وكيف نعيد النظر في علوم الملة؟
ختمت الفصل الأول بالتوحيد بين العقلانية والشرعانية باعتبارهما بعدي انفعال الإنسان بما يتلقاه من الوسيطين الطبيعي والتاريخي من قوانين وسنن سواء نسبهما إليهما محايثين فيهما أو إلى خالق وآمر وبعدي فعله فيهما مستعمرا في الأرض بقيم الاستخلاف أو بدونه: كلاهما تشريع للعلم والعمل: فقه.
ولأعد مرة أخرى للمقابلة بين الخبر والإنشاء في القرآن: فالله يعلم الغيب دون شك. لكن المرسل إليه لا يعلم إلا الشاهد (بمن في ذلك الرسول نفسه). فلما نجد في القرآن كلاما على المستقبل نؤمن بأنه سيتحقق كما أعلمنا به القرآن ولكن بشرط فهمه أمرا للقيام بما ينبغي لتحقيقه: هو امر بشرط الغاية.
ولذلك كان الرسول يعمل على تحقيق ما كان واثقا من أنه سيحصل وثوقا إيمانيا بالعلاقة بين غاية أخبره الله العالم بالمستقبل أنها ستحقق والضمير بشرط أن تقوم الامة بما عليها لتحقيقه وما عليها هو الاجتهاد والجهاد باستعمال ما جهز به الإنسان مستعمرا في الارض ومستخلفا فيها.
لكن وثوق الرسل بوعد الله الذي هو وثوق ايماني لا يخلو من الوصول أحيانا إلى الشك الذي يلامس اليأس بدليل “حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين” على أن المرسل إليه يعتبر ما في القرآن من غيب إنشائيا لا خبري إلا بعد حصوله.
ومن دون هذا التمييز يصبح القرآن داعيا للقعود ما دمنا نعلم خبريا أن تحرير القدس سيحصل فما الداعي لأن نتعب أنفسنا لتحقيقه؟ الإيمان بأنه سيحصل أمر بالعمل على تحقيقه وليس انتظارا لتحققه بذاته. ذلك أن هذا الانتظار سيؤدي إلى عدم حصوله فنجعل القرآن كاذبا وليس صادقا.
وبذلك تجد الكثير من المسلمين يكذب القرآن في النهاية فعلا لا قولا لأنه لا يعمل شيئا ليكون وارثا للأرض ولا يدري أن ارثها ليس دالا على الصلاح لأن الوارثين يمكن أن يكونوا فاسدين. الآية تأمر الصالحين بتحقيق شروط الارث التي هي متوفرة للطالح كمستعمر في الارض دون قيم الاستخلاف أو الصلاح.
نعود إلى بيت القصيد: سلبا بيان توهم المثقفين ا لعرب أن الاعتزال والرشدية من علامات العقلانية وأن من لا يرى رأيهم ظلامي خاصة والمتكلمون في هذه المسائل لا علاقة لهم بالفلسفة والدين لا من قريب ولا من بعيد لأن جلهم من الصحفيين والمتأدبين وزاعمي العلمانية والليبرالية.
حتى لو أخذت هذه المواقف على أنها محاولة لتأصيل دعاة التحديث لفكرهم بطلب أصول من ماضي فكرنا فإن ذلك لا يعني أن كل تأصيل له هذه الصفة. فعندما يعود غربي إلى فلاسفة اليونان سواء ما بعد سقراط أو ما قبله فإن العودة لا تعني نفي ما حصل من تقدم في الفكر وطلب العودة إلى الماضي كما مضى.
وعندما أتكلم على المدرسة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية في فلسفة النظر وابن خلدون في فلسفة العمل) فلا يعني ذلك أن أعود إليهم لأكون تابعا لهم فادعي لهما ما ليس في عملهم بل أحاول بيان ما خفي منه إذا قرئ بموضوعية وتحررنا بالذات من ناسبي العقلانية للاعتزال والرشدية.
كذبة العقلانية الاعتزالية أو الرشدية هي التي تخفي ما يمكن أن يكون مفيدا وعمت عنه في أعمال معارضيهم في المدرسة النقدية العربية التي تتهم بالظلامية أو لا يطلب منها إلا ما تصوروه تطورا كأن يقرأ ابن خلدون بوصفه كونت أو ماركس فتكون قيمته رهن ما يقارن به فكره وليس ذاتية له.
هذا سلبا لكن الأهم هو الإيجاب: كيف يمكن أن أفهم العقلانية والشرعانية أو كون المعرفة تشريع متلق من البحث في الطبيعة والتاريخ ومبدع من الإنسان الذي يصوغ التلقي تشريعا للطبيعة والتاريخ قبليا وبعديا وما بين القبلي والبعدي بحسب مستويي الوجودي الفعلي والرمزي في الإدراك الإنساني.
وكيف يكون هذا التشريع المتلقى والمبدع متحررا من نظرية المطابقة ومن ضديدتها التي تدعي أنه لا فرق بين العلم والأسطورة وبين قوانين الطبيعة واجنحة الخيال الذي يكون كما يزعم نيتشة بمعزل عن الخير والشر: فعل الإنسان لا يمكن أن يكون بمعزل عن الخير والشر لأنه تشريع علمي وعملي حتما.
دعوى ان العلم كذب ناجح ودعوى أن العلم محيط من طبيعة واحدة: كلاهما ممتنع إنسانيا. ذلك أن تسمية الكذب كذب متضايفة مع تسمية الصدق صدقا. والعلم الإنسان ليس علما لموضوعه فحسب بل هو علم لحدود علمه لموضوعه. فيه اعتراف بالجهل وهو إذن نوع من التقييم الذاتي الدائم.
القول “بمعزل عن الخير والشر” لا معنى له لأن القيم خمسة أنواع وليس واحدة: أولاها هي أصل التقييم وشرطه وهو القدرة على التوجيه الوجودي للتمييز بين الجهات ممكنها وواجبها وممتنعها. وعلى أساسها تأتي القيم الأربع البقية بوجهيها: الحقيقة والخير والجمال والجلال وأضدادها.
فلو لم يكن الإنسان حرا أي قادرا على التعالي على مجرى الوجود العيني لكان كالمرآة عاكسا لما يسميه السطحيون من حداثيينا واقعا. لكنه ليس كالمرآة بل هو يتعالى فيقيم وعنده فرق بين الموجود والمنشود Etre et devoir Etre والفسحة التي بينهما هي الحرية شرط التقييم بمعانيه الخمسة.
موقف نيتشه بحد ذات موقف تقييمي للموجود باسم منشود هو ما يدعيه فوق الموجود في العلم وفي الوجود وخاصة في ظرفيات عصره وثورته على المسيحية وعلى الديموقراطية وعلى المرأة وعلى كل ما كان أعجز من أن يكون له فيه دور بخلاف ما يتوهم أصحاب ما بعد الحداثة.
وقد أفهم أن يمقت شاب غربي على ظروف حياته التي تحولت فيها الجماعة إلى جهاز آلي للإنتاج في خدمة كيانات مجردة وغير مرئية وأغلبها خفية الاسم. فيمقت على المدرسة والاسرة والدولة إلخ… لكن في شعوب حياتها فوضى لا تعرف معنى الانضباط لا أفهم تبنيهم لفكر نيتشة عدا الموضة والتظاهر.
ما بت أخشاه حقا هو أن يتحول يأس الفلاسفة من متابعة التطور شبه اللامحدود للعلوم إلى موقف هذياني لا يميز بين العلم والتخريف. فحتى الأدب عند من يعلم حقيقته لا علاقة له بما يتصور مجرد موهبة التخريف والترجمة الذاتية لبعض المغفلين. كلاهما فن راق لا يمكن تصور الفلسفة من دونهما.
صحيح أن الفلسفة حولها هيجل إلى إيديولوجيا وخاصة فرعا مدرسته من بعده بمنطق يكفي تأويلا فلنشرع في التغيير. لكن التغيير من دون علم تحليلي وتأويلي ليس إلى النكوص إلى العمل بلا علم أي إلى الفاعلية الحيوانية التي تخلو من مستواها الرمزي العائد على مستواها الفعلي قبله وخلاله وبعده.
وهذه العودة السابقة والمساوقة واللاحقة ليست مستوى رمزيا فرديا بل هي كل تراث الإنسانية بوصفه جملة المناظير التي من خلالها نرى ما يزعمونه واقعا ناسين أن الوقاع هو ما له وقع بمقتضى هذا التراث الكوني والدي هو العلم وهو كما بينت تشريع تتلقاه العقول المبدعة فتصوغه رياضيا وسياسيا: فقه.
وهذا هو القصد بالشرائع في مقابل الطبائع أو ما يضيفه الإنسان للعالم ويمكن ان نسميه الحضارة الإنسانية وهي بالجوهر كونية من حيث القوانين الكلية شكلا حتى وإن تعددت من حيث المضمون فتكون كونية بالشكل العلمي وخصوصية بالمضمون المعلوم: وقد درست العلاقة بين الطبائع والشرائع سابقا.