العقلانية، ماهي؟ وكيف نعيد النظر في علوم الملة؟ – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله العقلانية ماهي؟ وكيف نعيد النظر في علوم الملة؟

كل ما يعترض به أدعياء العقلانية من المعتزلة إلى المتشبهين بهم اليوم من أدعياء الحداثة والقراءة النقدية للقرآن هم أبعد الناس عن العقلانية والحداثة وذلك لعلتين:

  1. قولهم بنظرية المعرفة المطابقة ظنا أن علم الإنسان محيط.

  2. وتجاهلهم ما يقوله القرآن عن نفسه وعن المعادلة الوجودية.

وقد وفقني الله لاكتشاف العلتين خلال محاولتي قراءة القرآن كما يقرأ أي باحث ظاهرة ذات قيام مستقل عن أحكامه المسبقة فيحدد كيانها المادي إذا كانت طبيعية وكيانها المادي والرمزي إذا كانت ذات طبيعة عائدة على ذاتها تتكلم عليها وعلى ما لأجله كانت كما كانت: في هذه الحالة القرآن.

فالقرآن كيان ذو قيام مادي هو نصه (في المصحف) لكنه ذو قيام رمزي لأنه يعود على نفسه ليحدد ذاته ويحدد طبيعته بوصفه رسالة من مرسل هو الله ومرسل إليه هو الإنسان عامة ودور هذه الرسالة (التذكير والتحذير مبشرا للمتذكر ومنذرا للناسي) وكل ذلك في إطار سميته المعادلة الوجودية.

وأول أمر ينبغي الانتباه إليه هو أن الظاهرات ذات القيام الطبيعي الخالص ليس لها المستوى الثاني الذي سميته العودة على الذات لتعريفها بل هي تتجلى بقيامها المادي وبما يعرض لها ويمكن اعتبار ذلك كلامها عن نفسها وانطلاقا منه نكتشف قوانينها وراء هذا التجلي بالفعل ورد الفعل الطبيعيين.

لكن الظاهرات التي لها المستويان المادي والرمزي فهي متكلمة فعلا على ذاتها ومعرفها لها ولا تنتظر منها أن نعتبر تمظهراتها الطبيعية وكأنها لغة تقول عنها ما علينا الانطلاق منه لاكتشاف قوانينها. وكل المشكل في القرآن لا يدور حول كيانه المادي الذي لم يترك منه المسلمون شاردة ولا ورادة.

كما ان المسلمين استفادوا بالفهم المباشر للقرآن فاستخرجوا منه أصول علوم الملة الخمسة: الفقه وأصوله أولا والكلام واصوله ثانيا والتصوف وأصوله ثالثا والفلسفة وأصولها رابعا وكل ذلك في إطار محاولات التفسير وأصوله لأنه هو أصل الأصول كلها في علوم الملة الخمسة.

وحتى أشرح ذلك وضعت مفهوم المعادلة الوجودية منطلقا لشرح هذا المعنى الدقيق: فمن يقرأ القرآن بالاستناد إلى ما يقول عن نفسه تعريفا لذاته ولمجال خطابه ولحقيقته رسالة تذكير بالدين الذي هو مما فطر عليه الإنسان تبشر المتذكر وتنذر الناسي يكتشف هذه المعادلة التي لا يمكن فهمه من دونها.

والآفاق والأنفس هما ما يرينا الله فيهما آياته: الطبيعة والتاريخ في الأعيان (الآفاق) وفي الأذهان (أنفسهم) يمثلان علاقة غير مباشرة بين المرسل (الله) والمرسل إليه (الإنسان). فتكون المعادلة الوجودية كالتالي: قطبان مرسل ومرسل إليه وبينهما مستويان للرسالة: القرآن والعالم الطبيعي والتاريخي.

فإذا وضعنا الرسالة بين الطبيعة والتاريخ في الأعيان وفي الأذهان ووضعنا القطبين على الطرفين الله قبل الطبيعة والإنسان بعد التاريخ كانت المعادلة هكذا:

  1. الله

  2. الطبيعة

  3. (الرسالة المباشرة أو القرآن الكريم في الإسلام)

  4. التاريخ

  5. الإنسان.

و1 و5 في صلة مباشرة بـ3 وغير مباشرة بـ2 والرسالة تتعلق بذاتها أولا ثم بالقطب الأول الله (تعرفه خالقا وآمرا) وبالطبيعة (خلق بقوانين رياضية) وبالتاريخ (أمر بسنن سياسية) وبالإنسان (مستعمرا في الأرض كمخلوق ومستخلف كمأمور).هذا مضمون الرسالة بوصفها رسالة تذكير للمستعمر في الأرض وشروط أهليته للاستخلاف خلقته تمكن من مأموريته.

ومن حيث مخلوقيته يكون الإنسان مخاطبا بكلام خبري. ومن حيث هو مأمور يكون مخاطبا بكلام إنشائي. ومن ثم فكل ما يتعلق بالتذكير في القرآن ينقسم إلى ما هو خبري لأنه يتعلق بالخلقة وإلى ما هو إنشائي لأنه يتعلق بالأمر. ولو لم نميز بين نوعي الخطاب لكان مفهوم التكليف ممتنعا ومثله الحساب.

وبصورة جامعة مانعة يمكن القول إن الخطاب الخبري في القرآن متعلق بالخلقة وبعالم الغيب في الدنيا وفي الآخرة حيث لا معنى للإنشاء لأن الوجود فيها كلها مطلق وتام وليس من مجال الممكن المنفتح على الضدين لتعلقه بالحرية والمسؤولية شرط التكليف ليس بغاية المأمور به بل التوجه إليه والقصد.

ذلك أن التكليف الإلهي للإنسان ليس من جنس واجب النتيجة بل من جنس واجب الوسيلة. المطلوب من الإنسان الصدق في الاجتهاد والجهاد بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر للخروج من الخسر الذي هو نسيان ما تذكر به الرسالة (شهادة الاعراف) والنتيجة بيد الله دون سواه.

أهملت قوانين الطبيعة الرياضية (كل شيء خلق بقدر) وأهملت سنن التاريخ السياسية (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وأصبح التطبيق المباشر للنص عديم الأساس العلمي الأول شرط في استعمار الإنسان في الأرض والأساس العلمي الثاني شرطا في الاستخلاف. صرنا أمة عمياء عزلاء يسيطر عليها الغباء.

والمعلوم أن جواب الشرط لا يصدق إلى إذا صدق الشرط. ومعنى ذلك أن المسلمين لا يكونوا خير أمة أخرجت للناس (خبرا) إلى إذا كانوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر (شرط). والشرطية وجوابها لها قانون منطقي: فنقيض التالي يعني نقيض المقدم. لسنا خير أمة لأننا صرنا ننهى عن المعروف ونأمر بالمنكر.

فالقرآن يعتبر الراسخين في العلم هم من لا يدعون القدرة على تأويل المتشابه وعلم الغيب (آل عمران 7) ومن ثم فهو يميز بين علمين محيط (علم الله) ونسبي (علم الإنسان) فتكون نظرية المعرفة القرآنية غير قائلة بالمطابقة بالنسبة إلى علم الإنسان: لا نعلم أي شيء على ما هو عليه لما فيه من غيب.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي