لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالعرب
كلما حاولت فهم ما نفعله نحن العرب بأنفسنا منذ قرون كلما ازدادت قناعتي بأننا أدنى شعوب الإسلام أهلية لحمل الرسالة إذا ما استثنينا عصر الراشدين. فلا شيء من سلوكهم يخضع لأحكام العقل ولا لأحكام النقل بل إن جاهليتهم ما تزال هي المتحكمة في سلوكهم وأخلاقهم وكل حياتهم.
وهذه الحال تصح على صفي العرب: فكلى النوعين من الانظمة القبلي والعسكري والنوعين من النخب التابعة لهما لا تجد وراء سلوكهم وأخلاقهم وحياتهم ما يمكن أن يفهمه التحليل العقلي لما يقتضيه وجود الإنسان ذي العقل السليم ولا التأويل النقلي لما يقتضيه وجود المؤمن الصادق.
فأما الانظمة فبعد أن اضرمت حربا أهلية عربية منذ خمسينات القرن الماضي بمقتضى تبعية الانظمة القبلية للقطب الأمريكي والأنظمة العسكرية للقطب السوفياتي ها نحن نراها الآن تستبدل القطبين بذراعيهما إسرائيل وإيران ومن ورائهما أمريكا وروسيا متسابقين في آيات التبعية والاحتماء بهما.
وأما النخب فالانقسام فيها ما يزال ممثلا لمعركة الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي: فكلاهما يمضغ قشور ما يدعي تمثيله وكلاهما يصدق الثاني في دعواه تمثيل ما يدعيه: كاريكاتور الحداثة يحارب الإسلام ظنا أنه عين ما يدعيه كاريكاتور الأصالة والعكس بالعكس: مهزلة النخب الدونكيخوتية.
لذلك فبعد قرنين من دعوى النهوض ما يزال العرب من دون كل شعوب العالم التي استفاقت في نفس التاريخ تقريبا بل وأحيانا بعدنا ما زلنا تابعين في كل شيء حتى في غذائنا ودوائنا وشروط حماية ارضنا وعرضنا لأن الانظمة والنخب نكصت إلى الجاهلية وأصبحت كل قبيلة تدعي أنها أمة ذات دولة.
فأصبحت المحميات تسمى دولا والقبائل تسمى أمما والطراطير ملوكا وأمراء ورؤساء والفرق الإيديولوجية تسمى أحزابا إسلامية أو حداثية والطبالين مفكرين والدجالين علماء دين ولم يبق من الحقائق إلا الأسماء بحيث إن كل الكلام العربي صار من الأضداد: يفيد عكس دلالته المعتادة.
جميع العرب يدوسهم غير العربي لأن القوي منهم لا يقوى إلا على اخيه فيضطره للاحتماء بالذي يدوس على الدائس فيصبح الجميع مدوسين وهم يتصورون أنفسهم دائسين: لم أر في حياتي أمة بهذا الغباء كل تنافسهم يجعلهم مثل العاهرات يتنافسون على قواد يستعبدهم جميعا.
ولا يتوهمن أحد أن ذلك مقصور على الخليجيين فالمغاربة هم في هذه الوضعية: فالصراع الجزائري المغربي لم يدم كل هذه المدة إلا لأنه صراع يغذيه من يحتمي به كلى الصفين. ولست بحاجة لتحديد الحامي الواحد الذي يقوي هذا ضد ذاك ثم ذاك ضد هذا تارة باسم حق تقرير المصير وطورا باسم حقوق الإنسان.
وما كان يفكر فيه آباء حرب التحرير من وحدة مغربية صار حتى بالاسم يسمى مغارب ولم يبق منه إلا تنافس المافيات على إرضاء حماتها وأصبحت الحدود بين المحميات حديدية أكثر مما كانت في عهد الاستعمار وصار الاستعمار الثقافي والاقتصادي أمتن والفرنسة العامة لم تتحقق إلا بعد الاستقلال المزعوم.
ورغم أن المحافظة على مستوى خلقي مقبول في المغرب لم يصل إلى ما وصل اليه الامر في التنابز الصبياني في معارك الخليج الأخيرة معاركه التي مست الأعراض فصارت السياسة معارك زعران من جنس حليقي الرأس من مشجعي كرة القدم فالخوف أن يكون ذلك هو المآل بقيادة سخفاء العائدين إلى العرقيات.
فالمجموعات الخمس التي كنا نعتقد أنها متجانسة ومتقاربة اجتماعيا وثقافيا كلها انفرط عقدها:
آخرتها مجموعة الخليج
وقبلها مجموعة المغرب
وبعدها مجموعة الهلال
وتلتها مجموعة القرن
وأخيرا مجموعة النيل.
كلها في حرب أهلية قبلية أو طائفية أو إيديولوجية. وجميعها ناتجة عن التبعية.
ولا تحدثني عن الجامعة العربية فهي سلبية بمن فيها وبمن ليس فيها. فمن فيها مجرد حراس للمحميات العربية التي ما تزال قياداتها ونخبها دمى بيد مستعمر الامس وحامي اليوم. ومن ليس فيها من العرب استثنتهم تبعية هؤلاء وعدم إيمانهم بالعروبة ممن يوجدون دون الصحراء وفي ضفة الخليج الشرقية.
فمن يوجد في الجامعة العربية وجوده كعدمه لأن الامر كله شبه التزام شكلي: فلو كان المنتسبون إليها يؤمنون بشيء اسمه عروبة وإسلام لكانوا أقدر من مارشال على مشروع يخرج العرب كلهم مما هم فيه ولكنا تجاوزنا الحرب الأهلية بسبب تبعية الأنظمة القبلية والعسكرية للقطبين ثم لذراعيهما في الإقليم.
ومن ليس في الجامعة انتهى بهم الامر إلى فقدان آخر معالم الهوية ففرنس أفارقتهم وفرس آسيوهم لأن اخوتهم في الجامعة لا يعنيهم من الوجود إلا متع الاخلاد إلى الأرض. فكل ما حققه العرب من معالم الحداثة لا يتجاوز استيراده بتصدير ثرواتهم الطبيعية دون عمل ولا إنتاج ولا أبداع.
في الاقليم الذي يسمى الشرق الاوسط -مشرقا ومغربا-يتآكل المكون العربي من فوق ومن تحت: فمن فوق توجد ثلاثة دول ذات مشروعات واضحة المعالم -إسرائيل وإيران وتركيا. ومن تحت توجد ثلاث قوميات تنازع العرب بعد أن قضوا على عامل التوحيد الإسلامي: الكرد والأمازيغ وبعض الأفارقة.
فكأن عنترياتهم القومية -البعثية والناصرية-حربا على عامل التوحيد الموجود (الإسلام) دون أن تحقق من عامل الوحدة المنشود إلا إحياء قوميات لم تكن تعرف ذاتها بالعرقيات بل كانت مندمجة فيما يوحد الامة فكان ما توهموه من توحيد يتجنب صراع الأديان مولدا لصراع أخطر هو صراع القوميات.
وتبين في الاخير أن دعوى العروبة لم يكن إلا نزعة توسعية من دعوات خفية هي بالجوهر طائفية وعنصرية من بعض مراكز التاريخ المتقدم على الإسلام مثل البابلية والفينيقية والفرعونية والقرطاجنية. إنهم أكبر الجناة على تاريخ الامة وعامل التوحيد فقضوا على العروبة والإسلام في آن.
وما بدأته الانظمة العسكرية التي تدعي القومية تواصله حتى بعد أن تبين طابعها الطائفي والعربي المزيف وشرعت الآن الأنظمة القبلية التي وإن لم يكن لها ما تعود إليه قبل الإسلام فإنها بدأت تعكس اتجاه التاريخ فتجعل الماضي من جنس حاضرها فصار العيي من قبائل العربان أصل فصاحة القرآن.
وفي اللحظة التي تتحد كل الأمم والحضارات من حولنا يفتت العرب أنفسهم وينددون بمشروعات التفتيت التي ليس لأحد فيها دور عدى العرب أنفسهم أو بصورة أدق ليس لأحد فيها دور من دون أن تكون أدواته عربية في الهلال وفي الخليج وفي النيل وفي القرن وفي المغرب أي في مجموعاتنا الخمس.
ولا شيء بلغ درجة الغباء والسخف والبلادة أكثر من تفاخر العرب بعضهم على البعض بما يعتبرونه مزايا أنظمتهم: لكني أرى أنهم بدون استثناء واقعون في نفس التبعية وفقدان السيادة وهم جميعا دمى ولا أستثني أحدا لأن عنتريات الكلام لا تفيد سيادة حتى وإن أفادت للاستهلاك المحلي.