العربية، ما المشكل؟ حالها أم حال أهلها؟

****

العربية ما المشكل؟ حالها أم حال أهلها؟

هل مديح العربية يجدي نفعا في استعادة منزلتها فضلا عن كونه لا أساس له لأن كل اللغات من حيث هي لغات تؤدي نفس الوظائف إذا توفرت شروط النمو الحضاري في الجماعة؟
ففي أمة صار جل حكامها عاجزين عن النطق بجملة واحدة سليمة وصار اعلامها هدفه جعلها “لغة” مالطية، أي معنى لمدح العربية؟
لذلك فلن انضم إلى حملة المديح. ما أنوي القيام به هو البدء في حملة هجاء النخب العربية التي ترضي توبيخ الضمير بالمدح وضرب البندير للعربية. ولست بهذا الهجاء أوجه اللوم لأحد بعينه. ففي أمة بين ابن خلدون علل “فساد معاني الإنسانية” فيها لا يلام أحد بعينه بل الجميع مسؤول عن وضع يجعلنا لسنا أهلا للزعم بأننا أحفاد من ذاقوا لغة القرآن والشعر العربي ولغة الفلسفة والعلوم التي كانت لقرون لغة العلم العالمية.
وقبل الكلام في منزلة العربية لدى أهلها سواء كانوا عربا خاصة أو مسلمين عامة فلأبدأ ببيان سخافة فكرتين يتعلل بها أعداء العربية من العرب خاصة. وهما فكرتان دالتان على حمق وجهل لا يضاهيان:
• وجود العاميات أولا
• وضرورة الانفتاح على اللغات الأجنبية ثانيا.
ولنبدأ بالحجة الأولى التي تدل على جهل مخيف حتى بالعموميات اللسانية. فلا توجد لغة في العالم ليس فيها دائما تلازم بين فصحى وعامية. واللغات لا تختلف إلا بالمسافة بينهما. والمسافة بين فصحى أي لغة وعاميتها تضيق بسعي الجماعة إلى ترقية الذوق اللساني بالفصحى وترقية الكلام بالتربية مع الاستفادة من مخيال الاستعمال. ولعل ما ساعد على توهم عكس ذلك كذبتان:

  1. توهم شعراء الجاهلية من جنس الشعر النبطي أو العامي لكأن العرب كلهم كانوا يتكلمون مثل أمرئ القيس.
  2. وتوهم القرآن نزل بلغة قريش لكأن كل القريشين كانوا بفصاحة القرآن ولم يكن لهم فصحاء مثل شعراء المعلقات.
    في الحقيقة كل إبداع راق في أمة حية يمثل قاطرة للغة العادية من حيث ترقي المبنى وتلطف المعنى حتى وإن كان دفق المخيال لا يتطور حقا إلا بفضل الاستعمال شبه العفوي في العاميات التي هي تتطور بمنطق شبيه بما يحصل في التاريخ الطبيعي للظاهرات الحية عامة. فالحياة الرمزية العفوية مماثلة للحياة العضوية العفوية من حيث الإبداع التكيفي في الوجود الفعلي. فتكون الفصحى وكأنها مستوى ثان من اللسان في كل الأزمان.
    وهذه النسبة ليست في المبنى فحسب بل وكذلك في المعنى.
    والقصد أن الفصاحة ليست شكلية وأسلوبية فحسب بل هي مضمونية باعتبار صفاتـها التواصلية في الجماعة التي يكون فكرها حيا بوصفه عين حياتها وليس تعبيرا متكلفا. إنه أسلوب يتلو عن “أسلوب وجود” متعين في عبارة عنه ملاصقة له ملاصقة حميمة حتى يكاد يتحول إلى ما يشبه الإشارة بالكيان كله.
    وهذه الحميمية بين أسلوب الوجود وأسلوب التعبير عنه هي التي تجعل المسافة بين العامية -أو الاستعمال الحي المباشر الذي يكون فيه تزامن بين الأسلوبين الوجودي والتعبيري- وفصحاها من جنس العلاقة بين الإدراك العادي والإدراك العلمي لما يتجلى في الوجود ولما يتجلى في الوجدان في آن فيتشاجن ما في الأعيان وما في الوجدان حتى يكون فعل الكلام بالعبارة وكأنه فعل الجوارح بالإشارة. أكاديميات اللغة توثيق للاستفصاح أي لما يرقيه علماء اللسان إلى مستوى الفصحى من عامية اللسان الذي يرعونه.
    فكل ما يفاخر به الكثير ممن لا يعلمون خصائص الالسن بالقول إن العربية ثرية بكثرة الاسماء لنفس المسمى دليل جهل بأصل هذا التكاثر الاسمي. فما فعله كبار علماء العربية الذين جمعوا معجمها -فضلا عن نظرية المعجم المستنتج رياضيا من التواليف عند الفراهيدي- عندما أرادوا أن يؤسسوا نحوها وصرفها وبلاغتها فاستفصحوا جل “عاميات” العرب. وكانوا بذلك أفضل إدراكا للظاهرة ألف مرة من “متقعري اللسانيات العرب الحاليين”.
    ورغم أهمية مشروع المعجم التاريخي فهو ليس من المهام المستعجلة لإحياء العربية إذا كنا حقا نريد خدمتها دون حاجة للمهرجانات. تقريب المسافة بين عاميتها وفصحاها باستفصاح نسقي لمعجم عاميتها التي فرضها الاستعمال وخاصة قلة التواصل بين المحميات العربية هو الحاجة الملحة حاليا. ويكون ذلك مفيدا حقا بشرط وحيد لانتخاب ما يستفصح هو عموم الانتشار في بلاد العرب تيسيرا لوظيفة التواصل أولا وإثراء للفصحى مع حفظ نحوها وصرفها قدر المستطاع.
    وبخلاف ما يتوهم الكثير فإن العاميات العربية الحالية-وهنا أتكلم عن تجربتي الشخصية في فرع من قبيلتي المرازيق خاصة انتقل من الجنوب إلى شمال تونس-جل معجمها ما يزال عربيا فصيحا دون أن يعلم مستعملوه أنه كذلك. ولو تحققت حملة للاستفصاح بالقيام بما قام به علماء اللغة العرب والأعاجم الذين قننوا للسان العربي فجالوا في بلاد العرب لجمعها وتصنيفها وإدراجها في فصحى القرآن والشعر العربي ولحلت مشكلتان خطرتان:
  3. والأولى نتجت عن نكبة الفنون السفلى عند من يدعون الإبداع الفني وخاصة السينمائي والتلفزي الذي يتوهم أن العاميات أكثر قدرة على التواصل ولا يدري أن ذلك قاتل للتواصل والانتشار. وذلك لعلتين:
    • فأولا لا يوجد بلد عربي واحد له لهجة عامية واحدة ولا حتى طبقة لهجتها غالبة.
    • وثانيا غزو العامية المصرية انتهى عهده. لم تعد مصر مركز والبقية هوامش.
    فكل بلاد العرب صارت لها مركزيتها الذاتية.
    وكل منها يريد نشر عاميته في قطره ما يعني أن كل قطر سيصبح معزولا عن الأقطار الأخرى وسيصبح التواصل الثقافي بين العرب مثله مثل التعاون السياسي كل يغني على ليلاه.
  4. والثانية هي سطحية من كان يتصور أن إحدى لهجات “القوميات القطرية” التي نشأت مع الدول المزعومة قومية” يمكن أن تكون بديلا من عربية القرآن. وهذا كله دليل ضيق أفق وخاصة بالنسبة إلى من بدأ الظاهرة وتصور أن المصرية ستغزو الوطن العربي وتصبح بديلا من الفصحى حتى وإن لم يكن ذلك بقصد. وهو في الحقيقة كان لجهل الفنانين الذين لم يكونوا يدرون أن “قابلية التصديق” في الفنون الإبداعية ليس شرطها استعمال العامية فضلا عن قصر النظر حتى تجاريا.
    لو كانت لهم سياسة للغزو الثقافي مثلا بلغة جامعة هي العربية التي تجمع في الحاضر أولا ثم تجمعه مع الماضي ثم تعد إلى جماعة لسانية كبرى قادرة على استعادة حياة العربية في كل بلاد الإسلام وفي العالم كله. لو حصل ذلك لكان ذلك مربحا حتى اقتصاديا لأن فيه توسيعا لسوق الاستهلاك وفيه في آن وظيفة ترقية الذوق اللساني شكله ومضمونه. لكن إذا كان جل الفنانين اميين أو قريبا من ذلك فكلامي صيحة في واد. واليوم في تونس صارت لغة الفن والإعلام مالطية.
    أما في مصر فلغة التعليم هي بدورها صارت عامية.
    وما حضرت ندوة “علمية” تنظمها المؤسسات الجامعية المصرية إلا وخرجت أكثر تشاؤما بمستوى التعليم والفكر وخاصة مستوى اللغة أيا كانت عامية أو فصحى أو خاصة أجنبية. ولذلك فالسياسة اللغوية في البلاد العربي -ومصر مفروض فيها أنها رائدة بسبب حجمها ودورها في حضارة الإسلام-دورها المتقدم على الإسلام لا معنى له إلا سياحيا-نكبة أخطر من كل سياسة.
    وأحيانا اتساءل ما الشاذ وما العام في التمكن من العربية في القيمين على المؤسسات: فهل بعض القضاة الأفاضل الذين اعرفهم من قضاة مصر وهم متملكين للسان العربي هم الشواذ أم من سمعناهم في محاكمات المجرم السيسي؟ فجلهم يذكروني ببعض حكام السعودية: لا يمكن أن ينطق نطقا سلميا حتى الألفاظ فضلا عن النحو الشكلي والمضموني (منطق المضمون).
    أما الطبالون في الإعلام فهم في كل بلاد العرب من نفس الطينة وتقريبا بنفس الثقافة الشارعية والعامية ولذلك فلا عجب ما آل إليه من “تذبن” ليس دونه قاع. ويكفيني ما أسمعه من الإعلام وخاصة في عهد ابن علي والإذاعات التي أنشأتها عائلته ومافيته: لكأنهم مكلفون بقصد لإفساد اللسان العربي ليس الفصيح بل حتى العامي. صارت لغة مالطية في من “كل لون يا كريمة”.
    وهنا نصل إلى فضيحة الفضائح: دعوى الحاجة إلى اللغات الأجنبية باسم الانفتاح وخاصة في المغرب العربي الذي يعتبر الفرنسية تمكن من الانفتاح على العالم وهي أكثر انغلاقا من العربية في وضعها الراهن.
    وقد يتطور الأمر إلى أن يصبح المغرب العربي مثل بلاد افريقيا التي فرضت عليها لغة المستعمر نهائيا وخاصة بعد أن أصبح التنافس بين العربية والأمازيغية التي هي في الحقيقة ليست مطلوبة لذاتها بل لتكون مرحلة تقتضي الخروج من تعدد لهجاتها إلى تبني الفرنسية مثل بقية الأفارقة الذين استعمرتهم فرنسا.
    أما في تونس فقبل أن يدعي بورقيبة أن احترام الشعب يقتضي مخاطبته بالعامية. وهي كذبة لأنه عمم الفرنسة التي جعلها لغة الإدارة والتعليم. كان جمعه بين العامية في الخطاب السياسي والفرنسية في الخطاب الإداري (لم تعرب الخدمات الإدارية ناهيك أن القوانين تكتب بالفرنسية ثم تترجم إلى العربية ولم يعرب إلى القضاء والأمن والعلة معلومة) والتربوي وحتى الرسمي-لأنه يتكلم بالفرنسية حتى في اجتماعات مجلس الوزراء-يعني أن الأمر سياسة مقصودة لفرض العامية لغة للشعب والفرنسية للنخب كما يحدث في جل المستعمران الفرنسية الإفريقية حاليا.
    وبورقيبة لم يكن جاهلا بالعربية مثل بعض حكام العرب بل كان من الفصحاء فيها. لكنه يفضل التفاصح الفرنسي على الفصحى العربية. ولما جاء ابن علي وهو عيي وشبه أمي مثل بعض حكام العرب حصل طوفان لغة “مالطة” (خليط من العربية واللغات الأوروبية) رغم أنه كان يقرأ خطابات تكتب له بالعربية وفرنسية الـ”بوتي ناجر”.
    ولا يوجد الآن من يمكن أن يجادل في الحاجة إلى اللغات الأجنبية وخاصة لغات التواصل والعلم والاقتصاد العالمية كلها (يعني الآن الانجليزية). لكن هل هي من فروض الكفاية أم من فروض العين؟ واضح أن تعميمها وخاصة جعلها لغة التعليم يفيد بأنهم يعتبرونـها من فروض العين: وهو السخف بعينه.
    وغالب نحب المغرب العربي يحاكون الفرنسيين في كل شيء إلا في احترامهم للغتهم. فلا يوجد حاكم فرنسي يمكن أن يخاطب شعبه بـ”الأرجو” (العامية الشعبية في فرنسا) بل كلهم يتكلمون مع شعبهم بالفصحى بل بأفصح ما يمكن في الخطاب السياسي. والشهادة لله فكل رؤساء فرنسا الذين عاصرتهم مبدعون في ذلك.
    فمن بين مائة طالب في الابتدائي قد يصل إلى العالي في أقصى تقدير عشرهم. وقد يصبح منـهم باحثين علميين ومبدعين أدبيين واحد في المائة منهم. واللغات الأجنبية ضرورية للبحث العلمي وربما للتجارة والدبلوماسية وليست ضرورية لبقية وظائف الحياة التي هي مشغل أكثر من ثمانين في المائة من البشر.
    فما ينفق على تعليم اللغات الأجنبية التي لا يحتاج إليها في شروط البناء السوي للأمة كان يمكن أن يحسن مستوى التعليم والبحث العلمي المغني عنها في أكثر من ذلك لأن الاحتياج إليها سيكون سهل التعليم للمحتاج في أقل من سنة أيا كان المجال الذي يريد فيه تعلم الإنجليزية مثلا ويكون ذلك على نفقته وليس على نفقة المجموعة.
    وحجة الحاجة للغة الأجنبية لتعليل عدم تعريب التعليم من أسخف الحجج. فترجمة الأعمال العلمية الراقية ضرورية حتى كهواية شخصية. ويمكن أن يكون في كل جامعة بحسب اختصاصها قسم لترجمة الأعمال التي يحتاج إليها التعليم في كل مستوياته فليست العربية دون العبرية مثلا للأداء هذه الوظيفة.
    ومنذ دخولي إلى دار المعلمين العليا في سنتي الجامعية الثانية سعيت مع بعض الأصدقاء إلى تكوين فريق يفكر في علاج المسائل الفلسفية بطريقتين: تعلمها في لسانها الأصلي ومحاولة نقل ما نراه ضروريا لاستئناف الحركة الفلسفة في ثقافتنا إلى العربية مساهمة منا تواصل الجيل الأول في الجامعة المصرية والتي اعتقد أنها ماتت بنهاية عبد الرحمن بدوي الأليمة.
    وكنا متأثرين بحرب 67 التي عشناها ونحن في قاعات امتحان السنة الاولى من الجامعة. وكانت الهزيمة من علامات وهاء المحميات العربية واستراتيجياتها في كل المجالات وخاصة في مجال إعادة البناء السوي للأمة بدأ بالأساسيات التي فهمها عبد الملك بن مروان الذي يمكن اعتباره محققا للوجه الثاني من فخرنا بالعربية:
  5. فبعد الدور الأول الذي أداه القرآن لجعلها لغة الروح لأمة صارت دولتها امبراطورية عالمية
  6. فحقق عبد الملك الدور الثاني الذي جعل العربية لغة العلم العالمية فعمت كل أرض فتحها الإسلام.
    ولا يمكن أن ينتظر المرء من أقزام يحكمون محميات وفاقدين لأي طموح كوني بسبب الحجم والدور التابع أن يعيدوا الأمجاد فضلا عن أن يفهموا أن الأمم العظيمة لا يمكن أن تبقى عظيمة إذا استهانت بأساس كل قيام حضاري: اللغة التي هي أساس كل ترميز من دون لا وجود لشروط الحياة المادية فضلا عن الروحية.
    حياة اللغات دليل حياة نخبها ورمز طموحها الكوني ماديا وروحيا. فالعبرية مثلا كانت لغة ميتة لقرون. ولم تصبح أبدا خلال تاريخها كله قبل إسرائيل الحالية لغة علم ولا فن ولا حتى دين باستثناء العبادات. لأن أهم كتابات اليهود في القرون الوسطى كانت إما عربية أو تابعة للعربية. ومن ثم فنخب إسرائيل الحية والطموحة هي التي أحيت الميت. ونخب العرب الميتة والذليلة هي التي قتلت الحي. وتلك عادة العملاء من النخب الغبية.
    لكل هذه العلل لم أشارك هذه السنة في إحياء يوم العربية. فما يحتاج إلى الإحياء ليس اللغة العربية بل النخب العربية. ولا يمكن إحياء النخب العربية إذا كان المتنفذ منهم في السياسة وفي المعرفة وفي الاقتصاد وفي الفنون وفي الرؤى الوجودية هم كما نراهم عليه. فلا فائدة من سخافة مدح العربية.
    العربية لغة ككل اللغات. ليس فيها ما يجعلها بذاتها أفضل من غيرها. فضل اللغات ليس فيها بل في أهلها إذا كانوا يستأهلونها. العرب لو كان لهم ذرة عقل لأصبحت العربية لغة مليار ونصف مسلمـا بكلفة أقل بمرات مما يدفعونه جزية أو حتى لما ينفقونه لتعليم لغات لا تتجاوز ما يحتاج إليه نوادل السياحة النوادي الليلية والمقاهي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي