لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالصغار أو وأد طموح الشباب وريادته
لو اتبعت ترتيب النخب لآن الآن أوان الكلام على نخبة القدرة تليها نخبة الحياة لأختم بنخبة الوجود. لكن كما سبق أن بينت القدرة ببعدها المادي هي ثمرة الإرادة والعلم قبله لكن بعده الروحي تستمده من الحياة والوجود. لذلك فلا بد من تقديم هذين عليها مثل ذينك ليكون الكلام عليها ببعديها تاما. والمشكل مع نخبة القدرة يتمثل في كونه مشروطة بما يتقدم عليها وبما يليها وشارطة لهما. فهي الذروة في حياة أي جماعة. فهي قدرتها المادية أي ثمرة سياسة علاقتها بالطبيعة وإنتاج الثروة وتبادلها فيها وهي قدرتها الروحية أي ثمرة رؤية علاقتها بالتاريخ وإنتاج التراث وتواصله فيها: تلك هي القدرة. وهي في آن شرط العلاقة بالطبيعة والتبادل لأن الثروة هي التي تيسر ذلك أو بصورة أدق لأن فضل الإنتاج المادي على الاستهلاك إدخار مادي لمستقبل المادة وهي شرط العلاقة بالتاريخ والتواصل لأن التراث هو الذي ييسر ذلك أو بصورة أدق لأن فضل الانتاج الروحي على الاستهلاك إدخار روحي لمستقبل الروح. ولهذه العلة فهي عين كيان الإنسان العضوي والروحي لأنها شرط الحرية المادية والحرية الروحية وبها يكون الإنسان معيلا لنفسه وحاميها. وما يقال عن الفرد يقال عن الجماعة. فالثروة هي أصل الحرية المادية والتراث هو أصل الحرية الروحية. وكل شعب عاجز عن إعالة نفسه وحمايتها فاقد لشرطي السيادة. وإذن فينبغي أن نتكلم على البعد الروحي من القدرة أي على النخبتين اللتين تردان بعد القدرة في ترتيب النخب الذي نعتمده تصنيفا لها: الحياة والوجود أو الرؤية الذوقية والرؤية الوجودية. لكننا سنقدم نخبة رؤية الوجود على نخبة رؤية الذوق كما قدمنا رؤية نخبة الإرادة على نخبة رؤية المعرفة. وقبل التقدم في البحث فلنشر إلى أمرين: 1. ورود كلمة “رؤية” فيها جميعا. وإذن فكل مقوم من هذه المقومات يفترض صراحة أو ضمنا رؤية هي أفق عمله سواء كان إرادة أو معرفة أو قدرة أو حياة أو وجود ومعنى ذلك أن الرؤية حتى في هذه الحالة الأخيرة وراءها رؤية هي رؤية الرؤية كما سنرى. 2. ثم كل مقوم هو المميز للشخص المنتسب إلى صنف النخبة لكنه متقوم بالخمسة: صاحب الإرادة ينتسب إلى النخبة التي تتميز بغلبة الإرادة على مقوماتها لكنه لا يوجد إنسان له مقوم واحد وإن غلب عليه بل هو متقوم بالإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود مع غلبة أحدها مميزا له ومعللا انتسابه. وهذه العملية التصنيفية تعوض تصنيف البشر بالطباع التي كانت مبنية على صفات عضوية أو على عوامل عضوية بتصنيف مبني على صفات نفسية أو خلقية هي الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة (الذوق) والوجود (الرؤية) ثم ناظرت بينها وبين وظائف في الجماعة هي السياسة إلخ…. والآن أبدأ الكلام في نخبة الرؤية الوجودية. وأول ملاحظة هي أنه لم يعرف التاريخ حقبة خلت منها الجماعات الإنسانية من نخبة الرؤية الوجودية أولا ومن تكونها من أسلوبين للتعبير عنها استقرا في النهاية في الأسلوب الأنبياء وأسلوب الفلاسفة في الغاية وأسلوب الشعراء واسلوب السحرة في البداية. وأسلوبا الغاية يمكن أن ينحطا فينكصا إلى أسلوبي البداية بعد ختم الرسالات والفلسفات ويعود من يدعي الكلام باسمهما إلى التشاعر والتساحر في ثرثرات المتكلمين باسم الرؤية الدينية والمتكلمين باسم الرؤية الفلسفية مقتصرين على الأقوال دون الأفعال. وتلك هي علة الانحطاط في كل حضارة. وقد بينت أن العلاقة بين الفلسفي والديني هي علاقة بين حب الحكمة (الفلسفي) لعلاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة شرط قيامه المادي والتبادل وغايته ما بعد الطبيعة وبين حكمة الحب (الديني) ولعلاج العلاقة الافقية بين الإنسان والتاريخ شرط قيامه الروحي والتواصل وغايته ما بعد التاريخ. فيصبح بالوسع تعريف الانحطاط: 1. هو عجز الجماعة عن علاج العلاقة العمودية بينها وبين الطبيعة ومن ثم فساد شروط القيام المادي وانخرام تبادل الثروة في الجماعة. 2. وهو عجز الجماعة عن علاج العلاقة الأفقية بينها وبين التاريخ ومن ثم فساد شروط القيام الروحي وانخرام توصل التراث في الجماعة. وعلامة العجز الاول هي نكوص الأسلوب الفلسفي وما يتبعه من علوم طبيعية إلى الثرثرة السحرية أو الأيديولوجية أو إلى أقوال قاصرة دون الأفعال. وعلامة العجز الثاني هي نكوص الأسلوب الديني وما يتبعه من علوم روحية (بالمعنى الالماني) إلى الثرثرة التشاعرية أو إلى اقوال قاصرة دون الأفعال. وهذا التعريف قرآني خالص: فالرسول الخاتم يستثني من الشعراء من كان يفعل ما يقول ويعتبر البقية من الهوام في الوديان لأنهم يقولون ما لا يفعلون. وقول الإنسان ما لا يفعل له دلالتان دينيتان وفلسفيتان: 1. خلقية هي فساد الفعل في الأرواح. 2. وعلمية هي فساد الفعل في الأشياء. وصلت الآن إلى التحديد الدقيق لما أريد وصفه: حال الرؤى الوجودية التي تجعل النخب العربية عقيما سواء النخبة التي تدعي الكلام باسم الدين والتأصيل أو النخبة التي تدعي الكلام باسم الفلسفة والتحديث. ولا اريد أن استعمل كلمة النقل والعقل لأني بينت سخف المقابلة ولا بأس من التذكير به. فـ”العقل” إذا كان عقلا بحق أحوج إلى النقل من “النقل” إذا كان نقلا بحق. العلم العقلي بحق صورة رياضية مضمونها التجربة العلمية وهي نقلية حتما وإن بشروط القيس الرياضي. والنقل الديني بحق صورة خلقية وهي عقلية حتما ومضمونها التجربة الروحية وهي نقلية حتما. فيكون النقل في الحالتين -العلم الطبيعي والعلم الروحي-مستمد من الموضوع بتقنيات الإدراك الحسي الخارجي والداخلي والعقل في الحالتين-العلم الطبيعي والعلم الروحي-مستمد من الذات بألغوريتميات رياضية ومنطقية لا يمكن تصور أحد النوعين من الفكر الفلسفي والديني من دونهما إلى عند المشعوذين. وبخلاف عقد الدجالين وخاصة من الحداثيين أو من المتحادثين من الأصلانيين فإن محدد هذه المعاني التي أحاول صوغها بلغة فلسفية أوضح مما هي عند صاحبها هو شيخ الإسلام ابن تيمية. فهو الذي بين أن العقلي من حيث هو ملكة فكرية ضروري في المعرفتين. فصريح العقل-الصراح Pure-شكل مشترك بينهما. وهذا العقلي المحض مطابق للنقل الصحيح ما يعني أنه يميز بين مضمون عقلي وشكل العقل وبين النقل الصحيح والنقل الكاذب. ومعرفة النقلي الصحيح تكون بالعقلي الصريح أي بمكلة التفكير التي تحررت من إحكام مضمونية مسبقة ظنها اميو التفلسف العقل وهي من “ضيق” حوصلتهم بلغة الغزالي. وإذن فنحن الآن في لحظة نكوص الرؤية الوجودية التي تدعي الكلام باسم الدين والتأصيل والرؤية الوجودية التي تدعي الكلام باسم الفلسفة والتحديث كلتاهما كاريكاتور من الديني الأصيل ومن الفلسفي الحديث بل ومن الديني عامة ومن الفلسفي عامة لأنهما نكوصان إلى التشاعر والتساحر الإيديولوجيين. ودون أن أتفصى مما أقول فإنه من الأمانة العلمية أن أنسب الفضل لأصحابه: فهذه التعريفات أو الحدود الجامعة المانعة هي لثلاثة أعلام كبار في تاريخ فكرنا مر عليهم انصاف المثقفين بسبب الأحكام المسبقة مرور الانذال لا الكرام فاكتفوا بالتصنيف الإيديولوجي ولم ينظروا في الطابع الثوري لفكرهم. ولو كنت ممن يطلبون النجومية لرقصت مع الراقصين ولأشدت بمن تشيد بهم شلل الاعتزال الجديد والرشدية الجديدة وكل ما لا يعتبر جديدا إلا وجد فيه من لا يفهم جدة الفكر الحديث لأنه أمي في الفكرين الديني والفلسفي بعض سطحيات الفكر الغربي دون تعمق ودون لما يتجاوز به الفكر الحديث الفكر القديم. فمن يتوهم الفكر الحديث مدينا لابن رشد بشيء لا يمكن ان يكون قد درس الفكرين القديم والحديث ليدرك بم يعد الحديث حديثا بالقياس إلى القديم. لأنه لو كان يفهم ذلك لعلم أن الحداثة لم تبدأ إلا بعد أن قطعت مثل الغزالي وابن تيمية وابن خلدون مع القديم في مستويات ثلاثة هي من إبداع هؤلاء. فالغزالي وضع مفهوم “طور ماوراء العقل” لينسب المعرفة الإنسانية وينهي نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة حتى وإن نكص بعد ذلك للقول بها بحجة الكشف. وابن تيمية بين أن هذا الطور لا متناهي وأن الإحاطة بالوجود ممتنعة على غيرالله. وابن خلدون سخر من رد الوجود إلى الإدراك. هذا هو شرط الحداثة. ولذلك فأكثر الناس “قدامة” هو حداثيو العرب وخاصة المتهيجلين والمتمركسين منهم. فكنط حرر الفكر الغرب بالحديث مما حررت منه المدرسة النقدية العربية فكر المسلمين وإن لم يتبعهم أحد لكن المثالية الألمانية عامة وهيجل وماركس خاصة أعادوهم لسذاجة القول بالمطابقة بحيلة جدل الذاتي والموضوعي. فنكص الجميع إلى “التشاعر” و”التساحر” ومات الفكر الديني والفكر الفلسفي بدعوى ما بعد الحداثة لكأن من لا علم لهم ولا فن ولا تقنية ولا ثورة حقوق ولا ثورة اجتماع ولا ثروة سياسة يمكنهم أن يأخذوا آخر صيحة في الغرب ويعتبرونها مغنية عن هذه الثورات فتصبح الأقوال بديلا من الافعال. فأن يشكو نيتشه من ثقافة عصره وأن يشكون هيدجر من سيطرة العلم والتقنية أمران يقبلان الفهم لان ذلك فعلا أمر خانق للمفكر المبدع. أما الصحافي الذي يتكلم على ما لا وجود له مدعيا أنه “يتنتش” أو “يتهدجر” فمن عجائب الدهر. يشكو من هيمنة التكنولوجيا وهو في عصر البداوة. بئس التشاعر والتساحر.