لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالصغار أو وأد طموح الشباب وريادته
تونس ومثلها جل بلاد العرب والمسلمين -إن لم تكن كلها فعلا-يحكمها خمس مافيات وكلها توابع لمافيات غربية وبالأساس اسرائيلية وبدأت تشاركها مافيات إيرانية: 1. الممسكة بنظام إرادة الجماعة 2. الممسكة بنظام معرفتها 3. الممسكة بنظام قدرتها 4. المافية الممسكة بنظام حياتها 5. المسكة بنظام رؤاها تكلمت على الاولى والثانية وتكلمت على الخامسة والرابعة. ولم يبق إلا الكلام على الوسطى أي على مافية المافيات أو مافية القدرة المادية والروحية لأنها هي التي بيدها الرمزان: 1. رمز الفعل (العملة) 2. وفعل الرمز (الكلمة). إنها مافية بعدي العجل الذهبي: معدنه (المال) وخواره (الإيديولوجيا). ولما كان الخوار تابعا للذهب لأن الاعلام الذي هو سلاح الأيديولوجيا تابع لرحال الأعمال (ونسائه في تونس وربما في بلاد العرب الاخرى) فإن البلاد تحكمها مافيتان هما نقابة الأعمال ونقابة العمال. أما المافية السياسية فقد تبين الآن وخاصة بعد الثورة أنها في الحقيقة خادمة لهاتين المافيتين. وهما تسيطران على أجهزة الحكم وأدوات التنفيذ وخاصة على الإدارة التي هي سرطان الدولة وهي التي تبتلع جل ثروة البلاد لأن أكثر من ثلثيها بطالة مقنعة سواء في ادارة الدولة نفسها أو في إدارة الشركات الوطنية وهيئات الضمان الاجتماعي والصحي والخدمات العامة والقاعدة الأساسية. ويمكن القول إن كلفة هذه الخدمات مع كلفة الأجهزة التي تحكم بها الدولة تأكل الأخضر واليابس بحيث إن دخل الدولة هو دائما دون انفاقها ما يجعل الادخار سلبي فيها بمعنى أنه كله اقتراض إما داخلي أو خارجي ومن ثم التداين لن يتوقف بل هو في تزايد مستمر لأن الاستثمار شبه معدوم لعدم التمويل. فإذا أضفنا أن ما يقرب أو يفوق نصف الاقتصاد مواز وليس داخلا في الاقتصاد الرسمي الذي يدر على الدولة مداخيل ضريبية بات من البين أن بلادنا في تقدم مستمر نحو إعلان الإفلاس. وهذه الظاهرة كانت شبه مقصورة على بلاد العرب غير البترولية لكنها اليوم تعمها (باستثناء “دول” هي مدن متوسطة). لذلك فيمكن القول إن “دولنا” وكل المصالح التابعة لها حتى الخاصة لأنها في الحقيقة خاصة قانونا وعامة سياسة إذ هي ملك نفس المافيات المستغلة لـ”لدولة”. وهذه محمية وهي في الحقيقة ضيعة أو مزرعة لمواشي (العشوب) تستخدمها هذه المافيات المحلية بحماية المافيات الأجنبية. وهذا التعريف جامع مانع: أي يصح على كل “المحميات العربية” ولا يصح إلا عليها لأن غير الغرب من المسلمين وإن كان فيهم مثل ذلك إلا أنهم يحاولون التخلص مثل الاتراك والإيرانيين والاثيوبيين اقتصارا على الإقليم الذي ننتسب إليه. وفضل ترومب أنه بين العلة: إن لم تدفعوا الجزية تسقط “دولكم”. فلأترك التعميم وأكتف بالكلام على تونس. وموقفي معلوم من النقابات العمالية ومن نقابات الاعراف. وقد أضافت اليها الثورة نقابات الأمن والحمد لله أن تونس لم تصل إلى نقابات الدفاع وإن كانت قد وصلت إلى نقابات ما يجمع بين الدفاع والامن أعني نقابات الديوانية التي هي أمن الاقتصاد الوطني. وعادة يقال إن المجتمعات الحديثة خرجت من الإقطاع. لكن هذا النظام الذي أصفه هو نظام اقطاعي بالجوهر: فكل نقابة من هذه النقابات “مقاطعة” اقطاعية أو مقاطعات متنافسة بمنطق الاقطاع في المجالات الخمس السياسي والتربوي والاقتصادي والفني والرؤيوي. لا وجود لدولة تمثل وحدة الجماعة. الممسك الوحيد بما يسمى دولة هو كونها محمية. وهذا يصح على كل الدول العربية التي ليس لها شرطا السيادة أي القدرة على الرعاية والحماية الذاتية إما بحسب الحجم الجغرافي والبشري أو بسبب ميتاستاز سرطان الاستبداد والفساد الذي تمثله هذه الاقطاعيات التي وصفت: الكل يفسد ويغض الطرف عن الكل. ودون أن ادعي أن تركيا وماليزيا خاليتان من الفساد فإن ما حصل فيهما إذا قورن بما يحصل لدينا يجعلهما قد أثبتا أن هذا الداء لم يصل إلى جعلهما مشلولتين بل دخلتا-تركيا منذ عقدين وماليزيا منذ مدة أطول-في أفق الدول النامية حقا في كل أبعاد التنمية الحديثة مثل نمور آسيا وجنوب شرقها. وبعبارة شديدة التشاؤم يمكن القول إن المستعمر لو اراد أو لو شعر بأن هذه البلاد فيها ما يوحي بأن شبابها قد يشرع في تحقيق شروط السيادة فإنه قادر على تفتيتها بحروب أهلية لن تتوقف كما نرى ذلك في العراق وسوريا وليبيا واليمن وقد تلحق بهم مصر والسعودية والجزائر وتونس والمغرب وهلم جرا. وآمل أن أكون مخطئا لكني لا أرى قوة سياسية ممثلة لإرادة الشعب يمكن الاعتماد عليها لحفظ وحده المحميات التي اقتطعها الاستعمار في جغرافية الإقليم خاصة ودار الإسلام عامة لأن الحدود التي فرضت لم تستقر بعد وقد لا تستقر لأنها غير طبيعية وفاقدة للحدود الثقافية والتاريخية. فهي أشبه بما كانت عليه إيطاليا والمانيا في القرن التاسع عشر من دون إرادة توحيد بل الإرادة الغالبة هي إرادة التفتيت لمنع شروط الاستئناف ولحماية الجرثومة الصهيونية ولو باستعمال الجرثومة الصفوية وإحياء الحروب الدينية والقومية استعمالا للأكراد والأمازيغ مثل العرب في القرن الماضي. ومشكل المشاكل اليوم هو فقدان هذه الإرادة الجامعة التي تماثل ما حصل في أوروبا القرن التاسع عشر فوحدت إيطاليا (دور فرنسا في ذلك) وألمانيا (دور بروسيا في ذلك قديما وحربيها مع النمسا وفرنسا) وكذلك حديثا ودور ألمانيا الغربية في ضم الشرقية. فالقوى العربية الداخلية دافعة وليست جاذبة. من ذلك أن الجزائر كان يمكن أن تكون قوة توحيد في بين أقطار المغرب لكن ما لا أعلمه من المحركات الداخلية والخارجية جعلها توقف ما كان أمل الأجيال التي قامت بحرب التحرير من مسعى توحيدي لم يكن القصد منه إلغاء الحدود رغم أنها اصطناعية لأن الحدود الوحيدة غير الاصطناعية هي الثقافة. فأوروبا التي لها ثقافات ولغات وتراث كله متنافي بما حصل بين أهلها وقواها الكبرى من حروب لا تحصى ولا تعد تجاوزت ذلك كله من أجل المصالح المشتركة وأهمها عامل الحجم المناسب للعصر بعد أن فقدت أوروبا مستعمراتها وأصبحت هي بدروها مستعمرة من السوفيات والامريكان بعد الحربين. لكني أعتقد أني قد اكتشفت العلة العميقة فضلا عن العلة السطحية التي لا تحتاج لاكتشاف مباشر لأنها بارزة أمام كل عين حتى لو لم تكن بصيرة. فالنخب الحاكمة وخاصة النخب التي بيدها اجهزة القوة في الدول هي التي نراها مرتهنة مصالحها مع المستعمر. لكن ما تبين لي عيانا هو دور نوعي النقابات. ولأبدأ بالنقابات العمالية. ففي بلاد العرب وخاصة تلك التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي الثقافة النقابية يسارية وبقدر أقل قومية وهي معادية بالطبع لما هو إسلامي. ولما كان العامل الثقافي الموحد الأكبر في الإقليم هو الإسلام فإن صراع النقابات معه ليس اقتصاديا بل هو صدام حضارات داخلي. ثم هي نقابات تعمل بمنطق الصراع الطبقي بخلاف الثقافة النقابية الألمانية مثلا فإنها لا تساعد على التنمية وتثقل كاهل المؤسسات الناشئة فتعطل كل تكون متين للنسيج الاقتصادي القادر على المنافسة في السوق الدولية وحتى المحلية لأن التعامل مع أوروبا فتح السوق المحلية دون مقابل مجز. ولما كان الفساد معشش في النقابات والعمل الزائف الذي هو بطالة متنكرة هو المسيطر على ما للنقابات فيه من دور ساحق وماحق فإن النقابيات العمالية صارت أهم عوائق التنمية بحجج الدفاع عن المصلحة الوطنية خطابا إيديولوجيا كلنا يعلم أنه مناف للحقيقة وهو أصبح معطل للاقتصاد بالدولة الحاضنة. وأريد أن أختم هذه المحاولة التي طالت زيادة عن اللزوم بأمر عشته بصفتي وزيرا مستشار لرئيس أول حكومة منتخبة بعد الثورة. فقد اصطحبني معه في لقاء مع منظمات أرباب العمل الفرنسية بحضور منظمتي ارباب العمل التونسيتين. فرأيت العجب. فهاتان المنظمتان لهما “ولي أمر” فرنسي بين للعيان. ويمكن القول دون أدنى احتراز أنهما خاضعتان لأوصياء وممثلتان لما لا يمكن أن يعتبر راس مال وطني بحق. ذلك أن رأس المال إذا كان وطنيا لا يمكن أن يكون تابعا لرأس المال في وطن آخر كلنا يعلم أنه يحتكر كل ما يمكن أن يعتبر مصدر ثورة وطنية حتى بمقتضى اتفاقية الاستقلال المنقوص. ولذلك وعملا بكلمة الفاروق “زورت” في نفسي كلاما واستأذنت السيد رئيس الحكومة في اخذ الكلمة -بخلاف ما يقتضيه دور المستشار-لما لاحظت أن مضيفيه قد بدأوا بأسلوب لبق نوعا من الابتزاز و”سحب أرجلهم” والتردد في الأقدام على عرض مشروعات تنموية منتظرين “الاستقرار”. فقلت في شبه ابتزاز مضاد. نحن في ثورة. والثورة لا تتعامل مع من لا يراهن على نجاحها. لذلك فعندنا من يراهن على نجاحنا وعينته إذ قلت إن جل افريقيا قد غزتها الصين. والصين مستعدة للتعامل معنا بشروطنا وليس بشروط ما ثرنا عليه. فهل أنتم مستعدون للرهان على نجاحنا أم تراهنون على العكس؟ اعترف أني تجاوزت حدي. وكان ينبغي أن أستشير رئيس الحكومة لأن في ذلك شبه انقلاب على منطق اللقاء إذ كان القصد تشجيع ارباب العمل على المساعدة. كان يمكن أن يوقف ذلك كل ميل للمساعدة. لكني فعلتها. وكانت النتيجة ما انتظرته. تغير الخطاب واصبحوا يستعجلوننا في نفس الجلية لتقديم المشروعات. ولو كان حق الكلام باسم الحكومة لكان ما هددت به فعلا لا قولا. لكن أومن بـ”عاش من عرف قدره” إنما أنا مستشار ولست مخولا للكلام باسم الممثل الشرعي للجماعة. وما زلت مقتنها بأن الغرب لا يفهم من يأتيهم من “تحت” بل لا بد من أن تخاطبهم من “فوق”. ويحق لنا أن نفعل: فنحن سادة الأبيض المتوسط. صحيح إننا فقدنا هذا الدور لكني كنت ولا زلت أعتقد أن كل ما يفعله أعداء الامة وعملاؤهم علته خوفهم من أن نستأنف هذا الدور وخاصة منذ أن تحرك شبابنا بجنسيه بثورة تبدو في البداية وكأنها مقصورة على أهداف مباشرة (الحرية والكرامة) لكنها في الغاية ستبين أن شرط شروطها هو طموح الاستئناف.