الشهادة التاريخية (الكرونيك) أو يوميات الشاهد التاريخي (الكرونيكور)

كما هو بين فقد صرت أجمع بين نوعين من الكتابة  انشرها في وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة منذ “الثورة” لأن التاريخ  تغير فصار للفعل الجمعي فيه دور متزايد الزخم كيفيا والتراكم  كميا.

فالجمع بين نوعي دوافع التاريخ ومحركاته الروحية والمادية هو جوهره الفعلي في جميع الحضارات. والانحطاط علته الفصل بينهما. ومراحل الاستئناف هي تكوينية الجمع المتدرج بينهما كما نشهد ذلك في لحظتنا الراهنة.

فبدت بعض كتاباتي شبه اليومية-المشفوعة بمواصلة الكتابات الجامعة بين الفلسفي والديني وهما عندي غير قابلين لفصل أحدهما عن الثاني -وكأنها من جنس “الكرونيك” لظرفيتها أي الشهادة التاريخية بمعنى اليوميات التاريخية من منظور المشارك في الأحداث ليس بالرأي الأكاديمي فحسب

بل بالمشاركة الفعلية في الحدث الذي لم يعد حكرا على الساسة أو على القوى السياسية بل عين المشاركة في المواطنة التي هي فرض عين في رؤية الإسلام باعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جوهرها وهو من مقومات الإيمان.

لكن مفهوم “الكرونيك” التي هي مساوقة للفعل التاريخي وغالبا ما تكون إما لأصحاب الفعل السياسي نفسه أو لمن كلفوهم بكتابة يوميات ما شاهدوه من أفعالهم هو الذي يحتاج إلى شرح حتى أميز ما أقوم به عنه. فما أكتبه لا ينتسب إلى أي من هذين النوعين.

فلست كرونيكور بهذا المعنى لأني لست مشاركا في الفعل السياسي المباشر حتى لما تقدمت للناخبين وشاركت بصفة المستشار: ما زلت لم اقصص تجربتي تلك لأنها محكومة بواجب التحفظ.

ثم إني لست في خدمة قوة سياسية معينة ولا لسان دفاع عن خياراتها التي لها قرابة بمشروع أومن بها دون أن تمثله حقا. فكونها حركة سياسية مباشرة يجعلها تقدم العاجل على الآجل والتكتيكي على الاسترايتجية لأنها عديمة التأسيس النظري المتعلق بمديد التاريخ.

وبهذا المعنى فما أقدمه ليس كرونيك بمعنى يوميات السياسي بل هو محاولة في فهم ما وراء ما يجري في مشروع نهوض الأمة بعد الانحطاط. وهي فضية يشترك فيها الفلسفي والديني من حيث كونهما “ما بعدا” لكل أنشطة الإنسان بمعنيي المابعد اللذين وصف بهما ابن سينا الميتافيزيقا: أي ماقبل تأسيسا وما بعد تجاوزا.

وهو إذن نفس ما كنت أقوم به أكاديميا منذ كتبت الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر. وما تغير هو المخاطب به. كان خطابي مقصور على اهل الاختصاص ثم صار  المواطن عامة لأن الهموم التي اتكلم عليها هي شأنه من حيث هو مواطن يبحث عن:

1-شروط حرية المواطن وكرامته في الداخل.
2-شروط سيادة الجماعة وكرامتها في الخارج.

فهذان النوعان من  الشروط متلازمان بمعنى أن الشعوب التي لم تتحرر من الاستباع والاستضعاف يعسر أن تتحرر من الاستبداد والفساد. والعكس بالعكس. وهذا التازم التشارطي هو الذي يجعل المعركتين متلازمتين ولا تجريان بالتوالي بل بالتساوق.

وخطر هذه النقلة من  الخطاب الاكاديمي إلى الخطاب الجماهيري قد يحول الفكر إلى  أفسد صور الخطاب الفكري أعني ظاهرتين كلتاهما لا يتجاوز دورها الأداة الإيديولوجية التي تحول الكرونيك إلى “محاماة” عن اجندات ليس للمعركتين فيهما دور آخر غير التغطية عليهما.

1-ظاهرة التنشيط الإعلامي  من جنس ما نراه اليوم في الأعلام العربي خاصة والعالمي عامة  والذي لا علاقة له بالأعلام لأنها في الغالب تابعة للمخابرات والمافيات. وهي الآن بيد كاريكتور التحديث.

2- ظاهرة الدعوة الفجة في الفكر الديني الذي لا يختلف عن التنشيط الاعلامي إلا بنوع الاجندة ولا علاقة له بالدين لأنها مثل الأولى تابعة للمخابرات والمافيات. وهي الآن بيد كاريكاتور التأصيل.

وغالبا ما يحصل ذلك عندما يتحقق الجمع بين نوعي المشاركة بين المخاطبتين في الأمم التي مرت بمرحلة انحطاط حين انتقالها:

1-من الاستئناف الدفاعي في مرحلة التحرير من العدو الخارجي فتقاوم  الاستعمار المباشر كالحال في لحظتنا التاريخية الإسلامية الحالية من مندناو إلى المغرب.

2-إلى مرحلة  التحرر من نوابه فتقاوم  الاستعمار غير المباشر ممثلا بعملائه الذين يستخدمون نوعي الكرونيك التي نجدها في الإعلام وفي الدعوة الدينية لمنع هذه النقلة.

فتجمع الأمة حينها بين مطلب الحرية والكرامة داخليا ومطلب عدم التبعية ومطلب السيادة خارجيا. ومن المفارقات أن الترتيب بين المقاومتين ينعكس بمعنى أن البداية كانت مقاومة عدو الجماعة الخارجي

والغاية أصبحت مقاومة ممثليه في الجماعة الداخلية ونوعا الكرونيك الجارية حاليا من أدوات هؤلاء الممثلين للاستعمار غير المباشر في تزييف الوعي ومنع الانتقال: فالكاريكاتوران أفضل ممثلي ألسنة الدفاع عن الحوائل دون الاستئناف.

فهم من يعمق سلطانها ويؤبد حربها على شروط السيادة التي من دونها لا يمكن التحرر من الاستبداد والفساد. ومعنى ذلك أن الاستتباع والاستضعاف هو الذي يحول دون الحرية والكرامة لما يصبح ممثلو الاستعمار من أهل الدار بأخلاق العار.

كنت قبل البلوغ إلى هذه الغاية اسهم بما أستطيع في المقاومة الأولى لأني عشت غاية المرحلة الأولى من المقاومة. وكان يسيطر عليها شبه اجماع وطني يحول دون رؤية ما يندس في هذا الاجماع الوطني من حيل لا تمكن من فهم فنون الاستعمار غير المباشر المتخفي في خرافة التحديث السريع.

وعدم الوعي بهذه الحيل أو حتى الوعي الغائم بها كان يحول دون الانتقال من الكتابة الاكاديمية -وهي على اهميتها-أبعد ما يكوهن عن تجاوز الخطاب اهل الاختصاص في مجال التخصص .

فكانت علاقتها بالشأن العام الذي يشمل حياة الجماعة بكل ابعادها شديدة اللامباشرة ومن ثم فهي أبعد ما يكون عن هموم الناس التي هي شديدة المباشرة فضلا عن كون ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي لم تكن موجودة.

بحيث إن الجمع بين الهم العام والفكر الأكاديمي لم يكن ممكنا حتى لو فرضنا فرصه السياسية متاحة. وهي طبعا لم تكن متاحة لعلتين: الامية شبه العامة بمعنى عدم الوعي بمقتضيات العصر والحرية السياسية شبه الممتنعة بمعنى الاجماع شبه المقدس حول رموز الشرعية التاريخية من الجيل المقاوم.

وامكانه الوحيد كان العمل السياسي المباشر باعتباره حق الجميع وواجبهم مشاركة معهم لكنه كان شبه مستحيل بمعنى المشاركة في تحديد العبارة عن إرادة الجماعة الحرة التي لا يمنعها الإيمان بالشرعية التاريخية من نقد أصحابها ومنعهم من الاستبداد بالامر.

فصارت السياسة وكأنها اختصاص احتكره قوم يعتمدون على الشرعية التاريخية بحيث يعسر أن نميز بينهم من هو حقا في خدمة الجماعة ومن هو بوعي أو بغير وعي في خدمة الاستعمار غير المباشر. وهو أمر حصل في كل الجماعات التي مرت بنفس التجربة وخاصة في المغرب الكبير.

وأبرز مجالين محيرين من هذا الوجه هما النهوض بشروط القيام المادي للجماعة أو السياسة الاقتصادية التي نعيش الآن مآسيها لأنها كانت خاضعة لمنطق تقديم العاجل على الآجل لفقدان الاستراتيجيا المناسبة

وما حدث في في الاقتصاد حدث ما هو  أسوأ في ما يتعلق بشروط القيام الروحي للجماعة أو السياسة الثقافية التي صارت حربا على الذات وتشويها للتاريخ من أجل تأسيس الخيارات التي تبدوا معبرة عن الحاجة إلى التحديث السريع فصارت العائق الأساسي لكل تحديث مستقل لجماعة ذات سيادة.

وبين أن ما حصل بالشروط الأولى صار المحدد الاول لطبيعة الحكم. وما حصل بالشروط الثانية صار محددا لطبعية التربية. وهما بعدا السياسة بمعناها المعبر عن إرادة الجماعة ذات السيادة. فكانت النتجية زوال كل شروط السيادة بمعنييها:

1-سيادة الجماعة إزاء غيرها من الجماعات وخاصة إزاء الذي صار غير مباشر لتحكمه في الاقتصاد والثقافة أي في الحكم والتربية.

2-سيادة الفرد إزاء الحكم والتربية اللذين أصبحا بيد من يستمد قيامه من سلطان المستعمر الذي يفرضه ويحميه و ليس من سيادة الجماعة.

لما حصلت الثورة -وقد بدأت في الجزائر وليس في تونس لأن ما يسمى بالعشرية السوداء هو هو ثمرة الحلف الذي صار اليوم عاما واقتصر حينها عليها أعني حلف الاستعمار الفرنسية وممثليه في الجزائر مع الثورة العربية المضادة التي دفعت إلى وأد ثورة الحرية والكرامة.

ولذلك فما يحدث في سوريا وفي ليبيا وفي اليمن كلها محاولات لتكرار ما حدث في الجزائر في تلك العشرية حتى يحولوا دون اتمام التحرير من الاستعمار شرطا في تحقيق شروط الحرية والكرامة للموطن في كل أرض الإسلام.

وتونس ومصر مهددتان بنفس المآل إذا ظلننا نتصور النكوص التام في مصر والشروع  فيه في تونس يمكن ألا يؤولا إلى ما يحصل في سوريا وليبيا واليمن إذا بقينا ننتظر ولم نفهم أن التكتيك يمكن أن يعوض الاستراتيجيا.

فالأعداء في نوعي الثورة المضادة التي تديرها اسرائيل والغرب والتي تديرها إيران والشرق يمكن أن يتوقفا عما يفعلانه في سوريا وليبيا واليمن دون أن يلغيا كل إمكانية لتواصل المسعى نحو الاستئناف بل هم يحاولون تعميم النموذج المصري بالنموذج الجزائري للعشرة المشؤومة.

والآن ينبغي أن أحدد أنواع الخطاب التي تحقق هذا الفعل النقدي لنوعي الكورنيك السائدين أي الكرونيك من حيث هي تنشيط اعلامي ومن حيث هي دعوة دينية .

فكلتاهما يغلب عليهما خدمة نواب الاستعمار غير المباشر والثورة المضادة بنوعيها التي تقدوها إسرائيل والغرب وإيران والشرق ويمولهما الحكام العرب من أعراب سايكس بيكو:

1-الكرونيك السياسي وهم خدم القوى السياسية مباشرة الحاكم منها والمعارض في خدمة  الثورة المضادة  بنوعيها.

2-الكرونيك “المعرفي” هو كرونيك خدم القوى السياسية ممن يزعمون النخبوية المعرفية أو ذوي الخبرة الأكاديمية الخادمين لخدم  المستعمر.

3-الكرونيك “الاقتصادي والثقافي” هو كرونيك الخبراء في شروط القيام العضوي والقيام الروحي للجماعة بصورة تشترط فيه التبعية لسيد أسيادهم من نواب الاستعمار.

4-الكرونيك “الفني والذوقي” هو كرونيك “المبدعين” الذين يقضون على ذوق الجماعة باعتباره لا معنى له ويحاولون تعويضه بذوق مستورد باعتباره “الذوق” الكوني.

5-الكرونيك “الرؤيوي” هو كرونيك المتكلمين في الرؤى الوجودية من منطلق فلسفي أو ديني والمنظرين لوحدانية الحضارة لأنها الغالبة ويعتبرون غيرها صفحة من الماضي ينبغي لقلبها بحيث إنهم يحولون بخرافاتهم دون الاستئناف الذي يعتبرونه نكوصا لأنهم مستلبون روحيا.

واغرب ما في الكرونيكيون الممثلون للكاريكاتورين يجمع الواحد منهم بين هذه الأصناف الخمسة وهي من العلامات القاطعة على دجله. لانه لا يوجد إنسان يمكنه أن يكون خبيرا في هذا المجالات الخمسة بل حتى في أحدها بصورة جامعة مانعة.

وطبعا لا اعمم الاتهام وإن عممت الوصف. فالكثير يفعل ذلك وهو صادق في التعبير عن عقده وليس عميلا لأحد بوعي منه.

فلست أدعي أنهم جميعا عملاء بقصد بل إن الكثير منهم  مستعمل بغير قصد منه لاندراجه في مشروع شديد اللطافة والخبث بحيث إن المرء من حيث لا يعلم يدافع عن اجندة الاعداء وهو يتصور نفسه مقاوما لها.

وسأكتفي بمثالين من مواقف رجل لا يمكن أن يشكك احد في صدقه ولا في اخلاصه للامة وهو شيخ فاضل احبه واقدره لأنه خصص كل حياته للدفاع عن قضاياها مجتهدا ومجهادا واقصد الشيخ الفاضل والقدير الشيخ القرضاوي:

1-فموقفه من التقريب المذهبي مر بمرحلتين كان فيهما صادقا. الأولى كان من المدافعين عن التقريب بحماس منقطع النظير. لكنه اكتشف في الغاية أن العملية كلها خداع وقع فيه لأن دهاة الباطنية استعملوا هذه الورقة لتمرير اجندة نراها بالعين المجردة.

إنها اجندة التقريب بهدف تيسير التبشير بالمذهب الشيعي الذي هو نقض للقرآن والسنة باسم مظلومية آل البيت. وطبعا فالقصد آل بيت كسرى وليس آل بيت محمد. ولما أدرك ذلك عبر بصدق كذلك عن خطإه وصار معارضا للتقريب. وقد ساندته ضد محاربيه-ومنهم من كانوا ينافقونه ممن يمكن اعتبارهم من تلاميذه- لأنه أصدع بهذه الحقيقة لما تأكد منها.

2-وموقفه الذي رمز إليه بمقولة له شهيرة هي “تصويف السلفية وتسليف التصوف”. ما يزال على هذا الموقف لأنه إلى الآن لم يفهم أن  هذه هي تلك. وعلة الخطأ يتمثل في تصور السلفية هي الوهابية وفي تصور الزهد هو التصوف. فالتصور باطنية أعمق من التشيع. والوهابية ظاهرية فجة لا علاقة لها بالسلفية.

السلفية ليست الوهابية بل هي الزهد والزهد هو السلفية. والتصوف ليس الزهد بل هو التشيع والتشيع اساسه أكاذيب المتصوفة حول الكشف وعلم الغيب وبه  اخترقوا الزهد السني: فمن خصائص السنة عقيدة المؤمن غر وهي دليل سذاجة تصل إلى حد الحمق.

لذلك فآمل أن يدرك الشيخ أنه كرر نفس الخطأ لعدم التحليل الدقيق الذي يمكن أن يجده حتى في مقدمة ابن  خلدون وفي كتابات ابن تيمية وفيه تمييز بين المجاهدتين (التقوى والاستقامة) والتحريف الذي آل إلى اختراق الباطنية للسنة
.
وختاما يمكنني تعريف كتابتي في الاحداث شبه اليومية بأنها نوع ميتاكرونيك أي إنه عملية نقد لمعاني الكرونيك الذي يقدم على أنه فكر نظري والكرونيك الذي يقدم على انه فكر عملي. وهما في الحقيقة من توابع بعدي دين العجل أي من نوع ربا الأموال ومن نوع ربا الأقوال.

لما أرخ ابن خلدون لفكر عصره الفلسفي والديني ميز بين نوعين من المعرفة فيهما كليهما: المعرفة التي يكون العقل فيها داريا بحدوده وفلا يرد الوجود إلى الإدراك والمعرفة التي ليس لها عقل لان العقل الذي لا يعي حدوده جنون فيتأله صاحبه ويعتبر أحكامه علما محيطا وأعماله عملا تاما.

لذلك فقد كان “كرونيكور” لعصره بمعنى ما بعد الكرونيكورات المعاصرين الذي كانوا شهود زور بوعي أو بغير وعي كحال الإعلام والدعوة التي تخدم أجندات لخضوع أصحابهما إلى ربا الاموال ببيع ربا الأقوال.

وذلك هو معنى خدمة العملاء من السياسة والأكاديميين والاقتصاديين والفنانين والرؤيويين الذي بوعي أو بغير وعي يخدمون الثورة المضادة بنوعيها لمنع الاستئناف. لكني مطمئن: فالاستئناف صار مما لا مرد له لأن الامة أصبحت على وعي تام بدورها الكوني.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي