السياسة، ما حدود العلمي والفني فيها؟

ه

كثر الكلام في السياسة وأصبح دور الاختصاص في ما يسمى بالعلوم السياسية من موضات العصر. فصرت أرى وأسمع مختصين يقولون كلاما اتساءل دائما عن أسسه “العلمية” ونجاعته التفسيرية لما يطلب منهم الإدلاء برأيهم فيه. فأردت أن اضع المشكل بصورة نسقية طلبا لطبيعة هذا الاختصاص ومدى جدية المتكلمين عليه وكأنه اختصاص علمي. ولو كنت أصدق ذلك لما بادرت للكتابة في الموضوع.
فعندي أن السياسة من أعسر الفنون الإنسانية وادعاء الاختصاص العلمي فيها في الكثير من الدعوى والدعاية.
وسأبدأ بتمهيد شبه تاريخي للإشكالية التي هي ليست جديدة لأنها ملازمة للفكر الفلسفي والديني في آن.
كانت السياسة أو العناية بالشأن العام -أو بالمصالح العامة بالاصطلاح الخلدوني – أمرا ينشغل به جميع البشر بدرجات مختلفة حتى وإن كان من حيث علاقته بالسلطان عليهما شبه خاص بقلة هي التي يسميها الغزالي “معتبري الزمان”.
وهم يسمون بالمصطلح السياسي في الأحكام السلطانية باهل الحل والعقد بصورة عامة وأصحاب الشوكة تمثيلا للقوة المادية وأصحاب الرأي بصورة واضحة تمثيلا للمشورة وبينهما ما يمكن اعتباره ممثلي الرمزية الشرعية التي يقبل بها هذان القوتان في الدور الرمزي المؤسس لدور القوتين مثل الخلفاء عند السنة.
لكن ذلك لم ينتج فكرا في السياسة يعتبر أحد الاختصاصات العلمية والفنية بصورة جلية وصريحة وذات أدبيات إلا في الفكر اليوناني تحت مسمى السياسة ويجمع الفلسفة العملية كلها باعتبارها موضوعا لها إطارا لأفعال الدولة التي هي “الذات” السياسية التي تمثل الإرادة التي لها حق المشاركة فيها أي الاحرار في الجماعة عند اليونان.
ولما كانت السياسة بهذا المعنى بالقياس إلى الميتافيزيقا علما رئيسا بمعنى أنها تشمل كل العلوم العملية شمول الميتافيزيقا كل العلوم النظرية فإن أرسطو تردد في كتاب أخلاق نيقوماخوس حول منزلة العلم الرئيس الأعم هل هو الميتافيزيقا أو السياسة وحسم الأمر بأن جعل الأولى أولى بهذه المنزلة من الثانية.
ولولا أنه كان يعتبر البحث في مسألة مبادئ الاستدلال جزءا ببعديها الخالص والمطبق على الوجود عامة (مبدأ الهوية كان يعتبر أحد مبادئ العقل لأنه ثمرة المبدئين الآخرين أعني مبدأ عدم التناقض والثالث المرفوع) من الميتافيزيقا لكان قد اختار دون شك العكس تماما بدليل استدلاله الجدلي على هذه المبادئ استدلال مبنيا على شرط شروط الحوار بين البشر: المحافظة على وحدة المعنى في مفردات الخطاب حتى يكون الحوار ممكنا.
وهذا الشرط كما هو بين يعتبر المقوم الأساسي لموضوع السياسة أو الفلسفة العملية لأن التواصل سواء كان صادقا ومخادعا هو أهم عناصر علاقات الأحرار في التعامل السياسي عامة والسياسة بمعنى السلطة السياسية خاصة. فلا توجد سياسة تعتمد على سلطة القوة العنيفة وحدها بل لا بد لها من قوة رمزية أساسها القوة اللطيفة وهي تعتمد على الأقوال والدعوة والدعاية حتى قبل وجود الإعلام بمعناه الحديث.
والمعلوم أن هذا التنافس بين العلمين النظري والعملي على وظيفة العلم الرئيس ملازم للفكر الفلسفي قديمه وحديثه. لذلك كان اوغست كونت مثلا قد اضطر إلى التعامل معهما معا في سلسلة العلوم الستة التي توصل إليها في تصنفيه فاعتبر الرياضيات والاجتماع ممثلين لهذين الدورين. لكن الحسم المقابل للحل الارسطي كان الحل الخلدوني: فالتاريخ صار بديلا من الطبيعة في فهم الشأن الإنساني عامة والوجودي أحد أجزائه ومن ثم فيمن تمسية علمه “العمران البشري والاجتماع الإنساني” هو العلم الرئيس وهو علم نظري ومن تطبيقاته السياسة التي يمكن اعتبارها في نسبتها إليه مثل نسبة التكنولوجيا لعلوم الطبيعة. السياسة تكنولوجيا عملية وهي إذن فن وليست علما.
لكنها تكنولوجيا أكثر تعقيدا من تطبيق علوم الطبيعة لأن هذه إحدى أدواتها ولها أداة أخرى أوسع وأشمل هي تكنولوجيا تطبيق علوم الرموز وتستعمل جهازا آليا أو مكينة تجمع بين نوعي التكنولوجيا هي الجهاز الدولة التي تعمل بالتكنولوجيا المتحكمة في المادة والمتحكمة في الرمز بعدي الإنسان من حيث هو كائن عضوي وكائن روحي وبعدي العالم من حيث هو طبيعي وتاريخي. وكل محاولة ابن خلدون بدأت بدراسة هذا التفاعل في الباب الأول من المقدمة بوصفه دراسة للمسائل العامة المؤطرة لنوعي العمران البشري والاجتماع الإنساني ليس بإطلاق بل بمعنى حديهما بداية وغاية وما بين البداية والغاية نجد كل مراحل التفاعل بينهما بمنطق ما سماه ابن خلدون “نحلة العيش” التي هي الشكل الذي يتعين فيه التفاعل بين الحدين العمراني والاجتماعي.
وهذا التفاعل بين الطبيعي والثقافي أو بين المعطيات الطبيعية وفاعليتها والمبدعات الثقافية وفاعليتها عرضها ابن خلدون في الباب الأول من المقدمة:

  1. العامل الطبيعي وهو موضوع الجغرافيا الطبيعية وما فيها من شروط قيام الإنسان فردا وجماعة.
  2. العامل الثقافي وهو موضوع ما يضيفه الإنسان من أدوات للتعامل مع شروط قيامه الطبيعية من خلال ابداعه العلمي وتطبيقاته والرمزي وتطبيقاته.
  3. أثر الأول أو العامل الطبيعي في الثاني أو العامل الثقافي أي ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة طبيعة العالم وطبيعته هو.
  4. أثر الثاني العامل الثقافي في الأول أو العامل الطبيعي أي كل التغيير في شروط بقاء الإنسان في العالم غذاء وماء ومناخا بالزراعة والآبار والكن العمراني وبتكوين التجمعات التي تتعاون بتقسيم العمل لسد الحاجات وفي شروط بقائه في كيانه الشخصي من تطويع لبدنه وهو أول آلاته في التعامل مع العالم لسد حاجاته.
  5. وحدة ذلك هي موضوع علم “العمران البشري والاجتماع الإنساني” الذي تعتبر السياسة بالنسبة إليه تكنولوجيا تطبيقية موضوعها العالم الطبيعي الخارجي والذاتي للإنسان بما يبدعه الإنسان من نظريات ومناهج وأدوات وكل ذلك يعتبره ابن خلدون ناتجا عن الحاجة إلى الرعاية والحماية وهما أصل وجود الدولة والسياسة وأدواتهما الاقتصادية والثقافية لتكوين الإنسان وتموينه بما ينتجه بدلا من الاكتفاء بما تنتجه الطبيعة.
    وكلا العاملين المتفاعلين يصبحان بفضل هذا التفاعل تاريخيين لأن الطبيعة والثقافة ليستا أمرين ثابتين بل هما بحكم التفاعل بينهما يتطوران فيثقف الطبيعي ويطبعن الثقافي بل إن الإنسان نفسه يتغير بمقتضى هذا التفاعل وتلك هي علة قلب العلاقة بين النفس والدولة:
    فعند اليونان النفس هي نموذج الدولة حتى وإن كان أرسطو قد أضاف بين النفس والدولة بنية الأسرة.
    لكن ابن خلدون يعكس فيعتبر الدولة نموذجا لبنية النفس أو يعتبرا النفس الإنسانية ابنة عاداتها وابنة “نحلة العيش” خاصة. ونحلة العيش تتطور بتطور التفاعل بين الطبيعي والثقافي بين حدين اقصيين الاول هو البداوة والثاني هو الحضارة ولكل منهما حد أقصى.:
    فالبداوة حدها الأقصى كبداية للعمران البشري والاجتماع الإنساني هو بداوة نحلة العيش مع الأبل في الصحاري وقد اختار أن يسميها البداوة العربية لكنها لا تعني العرب كجنس بل هذا النوع من البداوة ويذكر أمثلة لا تقتصر على العرب كجنس.
    والحضارة حدها الأقصى كغاية للعمران البشري والاجتماع الإنساني هو “الترف” القاتل للحضارة والدول وهو أيضا نحلة عيش في المدن عندما تفسد كل القيم الاقتصادية والثقافية المتعلقة بشرطي بقاء الحياة أي شروط المائدة (الغذاء) وشروط السرير (الجنس).
    والمرور من حد البداية إلى حد الغاية ليس قابلا للحصر في عدد محدود من المراحل بل ليس من الضرورة أن يكون الحدان موجودين لأنهما يمكن أن يعتبرا حدين فرضيين للحصر ما بينهما وهو قابل للرد إلى خمسة مراحل اساسية هي مواد الأبوات الخمسة التي الباقية التي يعتبر الباب الرابع منها والخاص بالمدينة المركز فيها لأنها محل اللقاء الدائم بين البداوة والحضارة وملتقى الفاعليتين في الاتجاهين من البداوة إلى الحضارة صعودا ومن الحضارة إلى البداوة نزولا في التطور العمراني والاجتماعي والمدينة هي الحد الاوسط في هذين المسارين.
    • الباب الثاني للعمران البدوي
    • الباب الثالث للدولة نشأة وتطورا
    • الباب الرابع للمدينة
    • الباب الخامس للاقتصاد
    • الباب السادس والأخير للعلوم والتربية والفنون.
    اعتقد أن هذه المقدمة كافية للمرور إلى موضوعي وهو محاولة فهم الظاهرة الجديدة التي أنتجت نخبة مختصة في العلوم السياسية وهو المشكل الذي اريد الكلام عليه لفهم طبيعة هذا الاختصاص وشروطه إذا كان حقا ينحو إلى العلمية كما يفيد أسمه. ذلك أني أعتقد أنه أقل علمية من الميتافيزيقا لأنها كما بينت أحد فروعه أو على الأقل أحد أدواته التصورية ولأن ثمرات العلوم المؤسسة عليها من ادوات فاعليته المادية.
    قبل أن أزيد الموضوع تعقيدا ربما في فصول لاحقة تواصل هذه المسألة سأكتفي بالأبعاد التي ذكرها ابن خلدون لأبحث في الشروط الضرورية في هذا الاختصاص رغم أني بعد ذلك سابين أنها غير كافية ومن ثم أن كلمة “علوم سياسية” مجرد عنوان لا يدل على حقيقة وهي في كل الأحوال دلالة أقل مطابقة لما تدل عليه من اعتبار الميتافيزيقا علما لما بينت من العلل.

• هل يتوفر في كوريكولوم التكوين مضمون الباب الثاني أي إشكالات العمران البدوي؟ أعني التطورات التي تحدث في العمران البدوي حتى يصبح قادرا على تأسيس الدولة وكيف يمكن التعامل مع هذا النوع من العمران وخاصة في مجتمعاتنا التي ما تزال في الأغلب بدوية. وحتى ما يسمى دولة فيها هو بالأحرى محمية تحت ما يشبه الانتداب (في المشرق بعد الحرب الأولى) أو الحماية (في تونس ومصر قبلها). فإذا كانت المرحلة ليس فيها التطور النفسي والعقلي للفرد والجماعة بحسب رؤية ابن خلدون التي لا تؤسس الدولة على النموذج النفسي والتكوينية العضوية للنفس البشرية المعتبرة واحدة (القوى الثلاث) بل تعكس فتعتبر الدولة هي النموذج وهي من ثم تاريخية مثلها بحسب “نحلة العيش”.
• هل يتوفر فيه مضمون الباب الثالث أي إشكالات تكون الدول وشروطها الداخلية والخارجية في السلم وفي الحرب؟
أعني التطورات التي تحدث بعد الشروع في تكوين الدولة التي يحدد لها ابن خلدون على الأقل خمس بحسب مراحل العصبيات مراحل:

  1. دينية
  2. فتعاقدية عقلية مرحلة أولى مقصورة على مصالح الحكام
  3. ثم تعاقدية عقلية مرحلة ثانية تجمع بين مصالح الحكام والمحكومين
  4. ثم مرحلة جامعة بين هذه المراحل الثلاث.
  5. وحينها نصل إلى دولة يمكن أن تستغني عن العصبية وتكتفي بالشرعية التي تصبح شبه عقيدة في الجماعة. وقبلها مرحلة اللادولة سابقة عليها جميعا هي مرحلة صراع العصبيات المفضية للهرج قبل تغلب عصبية عليها وفرض بداية الدولة.
    • هل يتوفر فيه مضمون الباب الرابع أي إشكالات الحياة في المدينة وعلاقة العمرانين والاجتماعين؟
    ومعنى ذلك أن السياسة التي يتعادل فيها العامل الطبيعي (ورمزه البداوة حول المدينة وفي أطرافها أو أريافها المحيطة بها) والعامل الحضاري (ورمزه قلب المدينة وأحيائها الأرقى أو التي تمثل الدولة والقانون) وكيف تكون المدينة هي التي تعتبر جوهر الدولة حتى إن اشتقاق السياسة في اللاتينية واليونانية كلاهما مشتق من اسمها وحتى إن دولة الإسلام اقتضت بالبدء بوضع اسم ليثرب هو المدينة ومعها الدستور وهما رمزا الدولة والسياسة التي سبقها مشروع إصلاح روحي وقيمي ورؤية للعالم يعتبر البداوة من أخطر الاشياء على المدنية والدولة والسياسة.
    • هل يتوفر فيه مضمون الباب الخامس أي إشكالات الرزق والاقتصاد والصناعات وعلاقتها بالعلوم؟
    وهو شرط الاستقرار لأنه من دون الانتاج “الصناعي” والزراعي منه لأنه شرط الاستقرار لا يمكن تصور دولة لأن الترحال متنافي مع تحقيق شرطي الحضارة أي المعرفة وتطبيقاتها والمؤسسات التربوية في التكوين وفي التموين (الانتاج الاقتصادي والثقافي لأن التموين عضوي وروحي).
    • هل يتوفر فيه مضمون الباب السادس أي إشكالات العلوم والتربية واللغات والفنون الجميلة والذوق؟
    وهو شرط كل ما تقدم وذلك هو أصل التاريخية التي يدخلها الإنسان حتى على الطبيعة وعلة قلب العلاقة بين الطبيعة والثقافة واعتبار الدولة التي هي شرط ذلك كله نموذجا للنفس الإنسانية (ثورة ابن خلدون) وليس العكس (رؤية اليونان).
    وأخيرا بداية وغاية هل يتوفر فيه مضمون الباب الأول من مقدمة ابن خلدون أعني منطق يختلف تماما عن المنطق الأرسطي الذي لا ينطبق إلى في حالة الضرورة ورد الحرية إليها وهو الأمر المستحيل في فهم التاريخ الإنساني من دون منطق لا يرد الحرية إلى الضرورة بل ربما يعكس فيرد الضرورة إلى الحرية لأن فاعلية الإنسان ليست فاعلية القوة المجردة كما في حالة تصادم الكتل المادية بل هي فاعلية القوة المدركة لذاتها والمقدرة لاستعمال القوة بحسب خطط مسبقة وهادفة مع توقع حصول ما ليس ضروريا وما ليس منطقيا في سلوك البشر فننتقل من المنطق العادي إلى منطق حساب الاحتمالات والسيناريوهات بحيث يصبح الفكر النظري استراتيجيا للفعل العملي فيكون النظر أداة والعمل غاية حتى عندما يكون النظر للنظر أو بمعزل عن الاستعمال الحيني؟
    لكل ما سبق ذكره يتبين أن السياسة لا يمكن أن تكون مادة لاختصاص علمي ككل بل يمكن أن تنقسم إلى هذه المجالات وكل واحد منها يمكن اعتباره قابلا لأن يكون مادة علم فتكون هذه المجالات من جنس العلوم التي تقع تحت الميتاتاريخ مثلما أن العلوم التي تنسب عادة إلى الفلسفة القديمة أو ما يماثلها حاليا تحت الميتافيزيقا أو ما يماثلها حاليا من رؤى العالم. فيكون التعاون بين الاختصاصات هو الوحيد الكفيل بالجمع بين مجالات الفكر السياسي سواء كان متعلقا بها في ظرف السلم أو في ظرف الحرب سواء كان ذلك في السياسة الداخلة في كل جماعة أو الدولية بين الجماعات علما وأنه لا يمكن الفصل بين السياستين. وليس الأمر جديدا كما قد يتصور البعض أنه ناتج عن العولمة: فالدول دائما تتحدد بداخلها وبخارجها وتلك خاصة الحدود لأنها دالة على الجوار سواء كان جوارا ثابتا أو متغيرها.
    فالحدود بين الشعوب والحضارات والدول في مد وجزر دائمين. خارطة العالم في حركة شبيهة بحركة الأرض نفسها وفيها زلازل حضارية مثل الزلازل الجيولوجية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي