**** السيادة ما شروطها؟ وما علل فقدانها؟ الفصل الثاني
والبحث عن العلل يقتضي أن نتكلم على النقلة الأخيرة، وهي النقلة التي هي أصل النقل السابقة في فرضية العمل التي انطلقت منها والتي تقتضي أن تكون الجماعة وكأنها جسد واحد يعمل بنظام من الوظائف المتضامنة وكأنها آلات موسيقية في سنفونية متناغمة بنظام رياضي دقيق مشدود إلى القيم الخمس. 1. ففيها تعمل نخبة الإرادة مثل رئيس الجوقة والمشرف على التحقيق الفعلي 2. ونخبة الرؤية مثل مؤلف السنفونية 3. وتعمل نخبة العلم مثل صناع الآلات ومجربيها 4. ونخبة الذوق مثل مهذبي الأذن ومعوديها على إدراك الجمال 5. وتكون نخبة القدرة منتجة لشروط التموينين للجميع: سد الحاجة الروحية والمادية. وهذا النظام الذي يجعل الجماعة أشبه بالفرقة الموسيقية التي تنجز سنفونية، شبهها الرسول بالبدن الذي يتداعى لأي عضو فيه سائر الأعضاء الباقية لشكواه. وما كانت اعضاء البدن الواحد تتداعى لشكوى أحدها لو لم تكن تعمل بتناغم في السراء والضراء. وهذا يعني النظام الذاتي في الجماعة: الدولة. وهذه النقلة الخامسة والأخيرة في فرضية العمل التي انطلقنا منها. فالنخب الخمس بالصفات التي ذكرنا هي التي تملأ خانات مجردة تمثل بالقياس إلى استعارة البدن ما يحدده علم التشريح للكائن الحي من الاجهزة التي يتقوم بها البدن مثل جهاز التنفس وجهاز الدورة الدموية وجهاز الاغتذاء إلخ… وهذه الاجهزة خانات خاوية في الدولة كذات اعتبارية مؤلفة من مؤسسات وقوانين تحدد وظائفها وطرق عملها وحدودها ولا تتحول إلى ذات طبيعية إلا لما تملأ هذه الخانات من تختارهم الجماعة ليؤدوا وظائف هذه المؤسسات بوصفهم نوابا على الجماعة لمدة معينة تحت مراقبتها بمقتضى حصيلة الانتخابين. والقصد حصيلة الانتخابين هو: لا يمكن أن تنتخب جماعة من يتولى هذا الدور السياسي والخدماتي إلا من نجح في الانتخابين اللذين تكلمت عليهما في الفصل الاول بكفاءة فنية وسلامة خلقية عالية خلال مرحلة الإعداد التروبوي ومرحلة الاستعمال في تقسيم العمل الذي يسد الحاجتين المادية والرمزية. فلا يمكن أن تعتبر السياسة حرفة، بل هي استفادة من تكوينين: • مرحلة التكوين التحصيلي • ومرحلة الاختبار الفعلي في الحياة العامة بوصف الخريج من الاختبار الأول أهلا لإحدى الوظائف في تقسيم العمل وأثبت فيه كفاءة عالية ومستوى خلقي رفيع. ومعنى ذلك أن الترشح للعمل السياسي مشروط بالنجاح فيهما. والذين لهم هذه الاهلية قلة، وهم من سماهم الغزالي “معتبري الزمان” بمعنى هم من تعترف بهم الجماعة بجدارة تمثيل إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها بمعيار الكفاءة الفنية في مجالاتهم والسلامة الخلقية في قيامهم عليها خلال انتقالهم من تعلمه إلى العمل الفعلي بما حصله من صفات تؤهله له. وهذا المعيار يقدمه ابن تيمية على كل ما يمكن أن يكون مجرد برقع مخادع كمن يقدم معيار التدين عند اختيار قائد الجيش وليس كفاءة القيادة العسكرية.
وبهذا المعنى فابن تيمية الذي يظنه الكثير لا يتردد في تقديم التدين على الكفاءة في القيادة العسكرية، يعتبر ذلك شرط تمثيل الجماعة الامين. ولعل آخر التجارب التي تؤكد هذا المعنى التيمي ما حصل للإخوان في مصر: اختاروا حمارا لقيادة الجيش، أو لنقل وافقوا عليه إن لم يكونوا هم من اختاره لأنه خدعهم وأوهمهم بأنه تقي فلم ينظروا في أهليته كفاءة تقنية وجدارة خلقية، فكانت نكبتهم منه ومن الجيش ككل بسبب فساد نظام الانتخابين. • فنظام الانتخاب في مرحلة التعلم • ونظام الانتخاب في مرحلة الاستعمال كلتاهما خاضعة للوساطة ولا اعتبار فيهما للكفاءة التقنية والسلامة الخلقية، فأصبح الجيش وكل وظائف الدولة لا يمثل نخبا حقيقية، بل هي جماعات مصلحية مباشرة لأصحابها لاستغلال الدولة والجماعة وليست في خدمتهما. ومن يجعل السياسة حرفة، يجعلها مثل التي لدى العرب مجرد تعلم خدعتين: • الكذب في الأقوال • والغش في الافعال. ولذلك فهي لا تتألف إلى من المافيات وخدمها. فلا أحد يشترط فيها الكفاءة التقنية، وحتى إذا وجدت فهي تكون للتنفيذ وليس للقرار الذي يبقى بيد المافيات وخدمهم ناهيك عن السلامة الخلقية.
وسأخصص الكلام في هذا الفصل إلى الانتخابين وعلة اشتراط النجاح فيهما نجاحا فعلية بشرطي التميز في الكفاءة التقنية والسلامية الخلقية في جماعة تدرك أن ذلك هو شرط مناعتها المادية والروحية رعاية وحماية وفهما حقيقيا لمعنى النخبة أي ما تم انتخابه تقنيا وخلقيا في المرحلتين. فالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود في الفرد صفات وجودية ونفسية لكائن طبيعي تغلب عليه واحدة منها ولا يخلو من الأربع الباقية، لكن الجماعة ينبغي أن يكون كيانها الذي هو تاريخي يتطبعن بطول التاريخ (التزاوج يؤدي إلى التقارب في الصفات العضوية) مؤلفا من الأبرز في هذه المقومات جميعا. الجماعة كيان مخمس الرؤوس: 1. نخبة الإرادة 2. ونخبة الرؤية 3. ثم نخبة العلم 4. ونخبة الفن 5. ثم نخبة الإرادة. ومعنى ذلك أنها بخلاف الفرد لا يغلب عليه أحد المقومات الخمسة، بل لابد أن تعمل بها جميعا أي بنخبة الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود حتى تكون سوية، وإلا فتوازنها يختل فلا تكون سمفونية. فنخبة الإرادة تتألف من الافراد الذي يتميزون بغلبة الإرادة عندهم على بقية المقومات الأربعة، وكذلك في بقية النخب كل منهما يجمع من تغلب عليه الصفة التي وصفنا بها النخبة: العلماء والمنتجون للاقتصاد والثقافة والفنانون والرياضيون ورجال الدين والفلاسفة. لكن الجماعة لا بد لها من ذلك كله. • فإذا أراد السياسي أن يلغي العالم فيزعم أنه عالم • والعالم أنه اقتصادي • والاقتصادي أنه فنان • والفنان أنه رجل دين أو فيلسوف انخرمت السنفونية في استعارتنا والبدن في استعارة الرسول. ولا يفعل ذلك إلا من لم يكن بحق سياسيا ولا عالما ولا اقتصاديا ولا فنا ولا رجل دين ولا فيلسوف.
وهنا نصل إلى بيت القصيد: انتحال الصفة تقنيا والنفاق خلقيا. وهذا الداء المضاعف الناتج عن فساد الانتخابين هو داء الامة الحالي: فالسياسي والعالم والاقتصادي والفنان وصاحب الرؤى كلهم أو غالبهم الساحق، منتحلو صفة ومنافقون لأن الجماعة لا تؤدي دورها في الانتخاب وهو الفساد البنيوي. وهذا هو القصد مما ينسب إلى الرسول: “كيفما تكونون يولى عليكم”. فساد الانتخابين هو “كيف تكونون” والنتيجة هي “يولى عليكم” في السياسة وفي المعرفة وفي الانتاج المادي والرمزي وفي الفنون وفي الرؤى. رؤوس الجماعة أم “معتبرو الزمان” بلغة الغزالي يصبحون أرذل ما يوجد فيها. لكن هذه المقابلة الحدية قد تجعل القارئ يتصورني من القائلين بالمنطق الجدلي بمعنى أن ما يجري هو الصراع بين النقيضين الذي ترجمه بعض الإسلاميين بخرافة التدافع. والمعلوم أن القرآن الكريم لا يتكلم على التدافع بل عن دفع الله الناس بعضهم ببعض فلا يتدافعون بل يدفعون بما يتعالى عليهم.
وبهذا فقد اكتشفنا سر انتحال الصفة الأساسي في المقومات الخمسة: فمن يتوهم إرادته أو علمه أو قدرته أو حياته أو وجوده مطلقا، فهم منتحل صفة: • إما بوعي وهو الدجال • أو بغير وعي وهو الغافل. وإذن فالانتخاب بالمعيارين في مرحلة التكوين وفي مرحلة الاستعمال للمكون هو جوهر سلطان الجماعة ومسؤوليتها.