**** السيادة ما شروطها؟ وما علل فقدانها؟ الفصل الاول
تكلمت سابقا على تصنيف النخب باعتماد الصفة الغالبة (1–2–3–4–5) على كل نوع منها في سلوكه، بوصفه ظاهر خاصية وجودية في كيانه: • أي إرادته • أو عقله • أو قدرته • أو حياته (ذوقه) • أو وجوده (رؤيته للعالم). ولم أعلل هذه العلاقة بين المقومات والصفات التي تعبر عنها في السلوك مكتفيا باعتبارها فرضية عمل مؤقتة. لم أعلل العلاقة بين مقومات كيان الفرد الإنساني -الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود) – واعتبار غلبة أحدها على الفرد ممثلا لما يغلب على سلوكه في الجماعة، ومن ثم بنيت عليه تصنيف النخب فيها معتبرا: 1. الأول يسعى ليكون معبرا عن إرادتها (السياسة) 2. والثاني عن علمها (العلماء) 3. والثالث معبرا عن قدرتها (أصحاب الثروة المادية والرمزية) 4. والرابع عن ذوقها (الفنانون والرياضيون) 5. والاخير معبرا عن رؤاها الوجودية (وغالبا بأسلوب ديني أو فلسفي). وهما إذن انتقالان مما تسلمته من المقومات وهو في الحقيقة نظرية كلامية في الصفات الذاتية الإلهية عند إطلاقها. والواصل في النقلتين فلسفي وقرآني: فقرآنيا يعتبر الإنسان متقوما بهذه المقومات لأنه فعلا • مريد • وعاقل • وقادر • وحي • وموجود وإن بصورة نسبية وهي إن كانت مطلقة تعتبر صفات ذاتية للذات الإلهية على الأقل في فكر المسلمين مع خلاف مرده إلى الموقف من التشبيه ونفيه فتكون معلومة به أو مجهولة من دونه. والعلة هو وهم المتكلمين أن هذه المقومات غنية عن المادية والتجسد، فتقبل من ثم أن تكون صفات ذاتية لله دون أن تكون مقومات كالحال عند الإنسان لأنه مركب وله كيان عضوي مادي. فيقع التمييز بينها وبين الكلام وشرطه السمع والجهاز الناطق وهما محيران في علم الكلام. والمعلوم أن مشكل خلق القرآن من هنا جاء القول به عند المعتزلة، لأنه يفترض السمع والجهاز الناطق. والمعلوم أن حجة ابن تيمية الأساسية في المسألة هي أننا إذا نفينا ما يفترض البدن من صفات الله الواردة في القرآن، فينبغي أن ننفي حتى هذه الصفات إذ لا شيء يثبت مفارقتها للبدن فهي عندنا محايثة. فإذا ميزنا في هذه بين ما يوجد لدينا وما ننسبه منها لله، فينبغي أن نميز في كل الصفات نفس التمييز، ومعنى ذلك أن الطابع المفارق للمادة والبدن كلاهما واجب إذا تصورنا المادة والبدن من طبيعة واحدة هي التي نعلمها في العالم وفينا وليس يوجد ما هو مثل هذه الصفات من طبيعة مختلفة هو بدروه. ورغم إطالتي في التمهيد، فإن المطلوب في هذه المحاولة ليس الكلام في المسألة من هذا المنظور، بل التبرير السريع لعدم البحث في تعليل النقلتين اللتين ذكرت إحداهما ولم أشرحها بما صار النقلة الثانية. فمن يغلب عليهم نفس المقوم يمثلون نوعا من النخب. فتكون النخب خمسة، والمهم هو النقلة الثانية. لماذا يكون من يغلب عليهم مقوم الإرادة يميل إلى السياسة لتمثيل إرادة الجماعة حتى بين الشباب اللاعبين في الأحياء حيث تبرز قيادات بمنطق دينامية الجماعات في كل مجال من مجالات النشاط الإنساني سواء كان متعلقا بالنظر أو بالعمل: وقد اعتبرت هذه الخاصية جزءا من الانتخاب الطبيعي في البشرية. فيكون لدينا: • نخبة الإرادة (للسياسة) • ونخبة العمل (للمعرفة) • ونخبة القدرة (للثروة والتراث) • ونخبة الحياة (للفنون والألعاب) • ونخبة الوجود (للرؤى الوجودية). وهذه أشبه بالغرائز الغالبة على طبع الأشخاص، ومنها تتكون القوى السياسية والمعرفية والاقتصادية والثقافية والفنية والرؤيوية في كل جماعة. 1. إذن النقلة الأولى هي من الفرد إلى نوع النخبة، لأن المقوم يتحول إلى صفة سلوكية في علاقات الأفراد بنفس المنظور القيادي في الإرادة والبحثي في المعرفة والإنتاجي في الثروة والتراث والفني في الحياة والذوق والرؤى في الدين والفلسفة في أي جماعة بشرية وفي كل مراحل تاريخها. 2. والنقلة الثانية وهي الاهم هي من جماعات النخب إلى الجماعة ككل. فتكون النخب الخمسة بالنسبة إلى الجماعة في نسبة المقومات للفرد. فلكأن الجماعة فرد جمعي مقوماته هي نخبه الخمسة: فبالأولى تعبر الجماعة عن إرادتها، وبالثانية عن معرفته، وبالثالثة عن إنتاجها المادي والرمزي، وبالرابعة عن ذوقها، وبالأخيرة عن رؤاها الوجودية. وذلك شبه تقسيم عمل طبيعي قبل تقسيم العمل الثقافي أو الحضاري الذي يترتب على جهازين للانتخاب بهذا المعنى: • الأول هو التعليم بكل معانيه، • والثاني هو ممارسة المهن في الجماعة، • والاول شبه انتخاب للقدرات بالقوة، • والثاني هو الأهم لأنه انتخاب لها بالفعل. وكل أمراض الأمم تأتي من فساد أحد الانتخابين وخاصة إذا فسدا معا. فالجماعة التي لا تنتخب نخبها في المرحلة التعليمية أو في المرحلة الاستعمالية لنخبها أو فيهما معا فهي تصبح تماما مثل الفرد الذي لم يتعلم ليكون ذا قدرة بالقوة ولم يثبت في العمل أنه قدرته بالقوة بتت لأنها صارت بالفعل. وهذا هو معنى الإنسان المناسب -رجلا كان أو امرأة- في المكان المناسب للعمل المناسب بحسب الظرف المناسب الذي يحدده أمران: • تقسيم العمل في الجماعة • وظرفيات العمل لأن جريانه في السلم غير جريانه في الحرب مثلا. ولذلك فقد اكتشفنا بهذه الطريقة سر قوة الأمم وسلامة مسارها التاريخي. وهذا الاكتشاف هو في آن اكتشاف سر أمراض الجماعات وعلل انحطاطها: فأهم فساد يصيب التربية ذو فرعين: طبيعة التحصيل وطبيعة الانتخاب. فإذا فسد التحصيل (ما تحتاج إليه الجماعة تكوينا اعداديا ومنهجيا وتموينا بالمواد المعدة المناسبة) وفسد الانتخاب (الكفاءة المناسبة للوظائف) يبدأ الانهيار. فتكون التربية تكوينا وتموينا هي النقلة الثالثة التي تجعل الجماعة وكأنها ليست مدينة ببقائها للوراثة العضوية فحسب، بل هي مدينة للوراثة الرمزية أو للتراث المتعلق بما يشبه توالي الاجيال “الثقافية” الجنيس لتوالي الاجيال العضوية. جمود الكفاءات الرمزية يهشهش المناعتين: الرعاية والحماية. ومعنى ذلك أن الجماعة تصبح عاجزة عن إنتاج ما يسد حاجاتها المادية لكيانها العضوي وحاجاتها الرمزية لكيانها الحضاري، فيترتب على الأول ضعف كيانها العضوي وعلى الثاني ضعف كيانها الروحي أو العقلي وتصبح مغلوبة من الجماعات التي تتفوق عليها في أحدهما لأن الثاني هو أصل الإثنين.
والآن وصلت لموضوع المحاولة: كيف يحصل التردي بسبب فساد الانتخابين في تربية الإنسان وفي استعمال الإنسان أو في انتخاب الجماعة لنخبها باحترام قواعد الانتخاب التي لا تفسد التكوين والتموين في المرحلة الإعدادية أو التربية وفي المرحلة الاستعمالية أو في العمل الفعلي بكفاءة التكوين الحاصل. وحتى أوجز تعريف المطلوب فلأقل إن للفساد معنيين: 1. الأول يمكن اعتباره علة للفساد الذي يصعب إصلاحه وهو المتعلق بنظام الانتخابين في المرحلة التكوينية وفي المرحلة الاستعمالية للكفاءات التي تعهدها الجماعة بوصفها شبه أعضاء لكيانها وكأنها فرد واحد لا يقوم إلا بها خمستها. ولأسمه الفساد “التقني” وهو متعلق بتكوين الإنسان من حيث هو عضو في كيان الجماعة التي تحقق لذاتها شروط قيامها من حيث الرعاية (تنتج ما يسد حاجاتها المادية والروحية) ومن حيث الحماية (تنتج ما به تحمي نفسها من العدوان سواء في الداخل بين أفرادها أو في الخارج من منافسيها والطامعين فيها). 2. والنوع الثاني من الفساد سأسميه الفساد الخلقي وهو المتمثل في استعمال هذه الكفاءة في غير ما أعدت له بهدف الاستفادة الذاتية ضد المصلحة العامة. وكلا الفسادين يمثلان جوهر السياسة بمعناها السلبي أي إن السياسة هي الاستراتيجية التي تحقق الكفاءة التقنية والسلامة الخلقية لاستعمالها الأمين. وهنا نصل إلى النقلة الرابعة وهي الانعكاس على الذات بمعنى أن الجماعة ليست صانعة نفسها بهذه المعاني بل هي كذلك مراقبة لذاتها ولصنعها إياها بمعنى أنها في كل لحظة من حياتها قابلة لأن تصلح ما يحصل لها من عطب في الانتخابين اللذين ذكرت إذا كانت السياسة موجبة لتكافح ما ذكرناه من سلب. تلك هي أهمية السياسة (المقوم الأول) والرؤية (المقوم الاخير)، فالثانية تحدد الغايات، والأولى تحدد الأدوات والاستراتيجيات هي ثمرة التفاعل بينهما. • فاثر السياسي في الرؤي كأثر التجربة في النظر • وأثر الرؤى في السياسي كأثر النظر في العمل • وأصلها أربعتها هو القدرة التي هي في آن ثمرتهما • أما العلم (المعرفة وتطبيقاتها المادية والخلقية) • والحياة (الذوق والفنون وتطبيقاتها السياسية والخلقية) فهما أداتا السياسة والرؤى. والتفاعل بينهما هو “إنتاج الإنسان” فأثر العلم في الفن هو سر تساميه على “الواقعية” البدائية وأثر الفن في العلم هو سر تساميه على “المادية” الوحشية. ومرة أخرى تكون القدرة هي الأصل والثمرة ولكن بمعنى آخر: ففي السياسة والرؤية، القدرة هدف نسعى إليه وفي العلم والفن هي مراحل تحقيق القدرة بأدوات إنتاج الإنسان لنفسه ولشروط بقائه المادية والروحية. ومن دون ذلك لا تكون الجماعة حاصلة على شرطي السيادة: الرعاية والحماية الذاتيتين. وحينئذ لن تكون جماعة بشر أحرار بل جماعة عبيد تتبع من يسيطر عليها بالسيطرة على سد حاجاتها المادية والروحية في الرعاية والحماية. وهذه هي حال الأمة كلها من المغرب إلى مندناو. وما لم نشرع في البحث في علل هذه الوضعية التي أردها إلى الانتخابين فإننا ما زلنا دون مرحلة الاستئناف.