هل يوجد في تونس معارضة سياسية حقا؟ هل الأحزاب “الذرية” التي تتألف إما من كهول وشيوخ توقف نضوجها في مرحلة مراهقتها الجامعية – جل من يعتبرون زعماء اليسار – أو في قلة من ضحايا نظام التعليم الفاسد والعقيم الذي صار محضنة التكوين الإيديولوجي عديم المستقبل من حيث الكفاءة المهنية وهي الأحزاب التي هي فتات “سلم” السبسي للوصول الى الحكم أو ما يسمى “بجبهة الإنقاذ” يمكن أن تعتبر معارضة ذات مصداقية، وهي لا تمثل إلا مشروعا نكوصيا يعرف ذاته بالسلب بمعنى أنه يدافع عن “نمط مجتمعي” فترينة النسخة الفرنسية السطحية من نخبة “حركيين” ضد ثقافة شعبهم الذي يعتبرونه “انديجان”. فتكون المعارضة التي تتحدد بالسلب جمعا بين جمود مراهقين في أوهام الشباب المتمركس، ونكوص شباب إلى أحلام مافيات ابن علي، وكلاهما يعيش على “نموذج” مجتمعي “فترينة” يعتبرونها ممثلة للحداثة الاستهلاكية والسطحية في أنماط الحياة دون شروطها التي تبني شروط الحداثة غير التابعة.
لو قارنت ما يطلبه هذان النوعان من المعارضة بما طلبه غيرهم في المجتمعات التي كانت دوننا تقدما وحضارة في الشرق الأقصى، لكانت المقارنة بين نمور وقطط. فهؤلاء صاروا نمورا لأنهم سعوا إلى بناء شروط الحداثة الاقتصادية والعلمية دون حرب على شروط القيام الحضارية، بل جعلوها أساس تمتين وحدتهم.
لم يسعوا لإعداد فترينة المحاكاة القردية لأنماط العيش الغربية، بل بنوا دولهم على شروط القوة المادية والروحية التي تحقق البناء الفعلي لشروط السيادة في مجال الرعاية – التحرر من مد اليد – وفي مجال الحماية – التحرر من طلب الحماية – فأصبحوا نمورا يقرأ لهم ألف حساب في العالم.
لكن معارضتنا بصنفيها، وحتى من اضطر للتخلي عن الصدام العلني مع القاعدة الشعبية فقبل بالتعامل مع الإسلاميين مع التغول والسيطرة عليهم اعتمادا على الوضع الإقليمي والعالمي المحارب لاستئناف المسلمين دورهم في التاريخ، ما زالوا ممن يسعون للفترينة وليس للحداثة المستقلة مثل نمور آسيا.
وأصل الآن إلى النوع الثالث من المعارضة: وهم من أسميهم “المتصيدون للفرص” من الذين يتصورون أن حظهم سيعظم عندما يؤدي الصدام بين الإسلاميين وهذين النوعين من المعارضة التي تؤمن بالحداثة الفترينية سواء كانت خارج الحكم أو في الحكم، فهم أغبى الاصناف الثلاثة وبإطلاق. فهم يبررون قعودهم في المعارك المصيرية، التي من جنس ما يجري حاليا حول السياسة الثقافية، التي هي شرط السيادة السياسية بدعوى أنها معركة أيديولوجية بين النداء والنهضة، وهم لا يهتمون إلا بالمعارك الاجتماعية والاقتصادية، لكنهم في الحقيقة يبحثون عما يسترون به الانتهازية الصرفة.
ذلك أن قيادات هذه الاحزاب تتألف من ثلاثة أنواع: 1و2 بقايا الحلف في الترويكا، أي من كان من حزب المرزوقي ومن كان من حزب ابن جعفر ثم، 3 بقايا من حزب الشابي. مع هوامش من هنا وهناك، وغالبا ما يكونوا من الشباب المثالي الذي “عاف” ما يتوهمه حلفا بين النهضة والنداء.
ولو حلل هؤلاء الذين هم أنضف من هذا الصنف الثالث بأقسامه الثلاثة، لفهموا أنه لا يوجد حلف بين الإسلاميين والندائيين، بل تحام متبادل بين ممثلي قوتين سياسيتين أولاهما شعبية مهددة اقليميا ودوليا، والثانية كانت ولا تزال أداة التهديد تريد المحافظة على الاستبداد بالدولة وأدواتها.
لا يتعلق الأمر بحلف بل بحاجة متبادلة بين قوة سياسية شعبية تريد تجنب الحرب الأهلية التي نراها جارية في بلاد الربيع العربي، وقوة سياسية كانت تحكم بالعنف واستحال عليها بعد الربيع أن تواصل ذلك، فاضطرت للعمل مرغمة مع القوة الشعبية للحفاظ على وجودها: هو اعتراف منها بهذه الحاجة. ولو كانت المعارضات الثلاثة التي تسمي نفسها معارضة، بحق معارضة، لكانت في صف القوة السياسية الشعبية بصرف النظر عن المرجعيات، لأن السياسة ليست تابعة للمرجعيات، بل لما يجعلها تحافظ على هويتها مع تحقيق شروط القيام المستقل للجميع تحقيقا لشرطي السيادة: الرعاية والحماية.
فمن تعارض هذه المعارضات؟ هي في الحقيقة تعارض شروط استقلال شعبها من التبعية في الرعاية (مد اليد) والحماية (الاحتماء بفرنسا) وتحالف أصحاب الفترينة التي تقتضي إدامة التبعية في الرعاية (نستدين ونسلم ثرواتنا بلا مقابل) والحماية: فتونس محمية فرنسية ويكذبون فيزعمون سند الجزائر.
واعتبار الجزائر سندا لتونس كذبة كبرى. فهي بدروها تابعة، ولا أقصد الشعب الجزائري الذي هو مثل الشعب التونسي حريص على استقلاله الثقافي والسياسي، لكن أقصد النخب الحاكمة والمعارضة والتي هي من جنس ما عندنا بل لعلها أفسد وأكثر تسلطا. لذلك فالمهرب الجزائري لا يخفي الحماية الفرنسية.
خلاصة القول هي أن بقايا حزب المرزوقي وحزب ابن جعفر وحزب الشابي، عليهم أن يدركوا أن المعركة ليست فرصة للانتظاريين، بل هي ستكون نكبة للجميع إذا آلت إلى العودة إلى ما كان عليه الأمر في عهد ابن علي، لأن الإسلاميين لا يمكن أن يعيدوا نفس الخطأ الذي جعلهم حطب المعركة والبقية تتفرج.
أما احزاب المراهقين الذين تجمدوا في معارك الجامعة والذي يحلمون بالمركسة أو اللبرلة فهم أغبى مخلوقات الله: فما فشل في تركيا – وهو معنى نهاية الأتاتوركية – وما فشل في تونس قبل الربيع – وهو معنى سقوط مآل البورقيبية إلى الابنعلوية – لن يعود بل قد يؤدي إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
وهم لا يخفون أنهم مستعدون لها ويقبلون بالتضحية بعشرين ألفا من التونسيين. ولو كان الإسلاميون مثلهم وعاملوهم بالمثل، وحاشا أن يفكروا مثلهم، لكانت المهمة أيسر بكثير، لأن عددهم دون هذا العدد بكثير: فقد أثبتت الانتخابات الأولى ذلك بعد الثورة: فقائمتي وحدها في تونس 1 حصلت على ضعف قائماتهم كلها.
موقفهم هذا يعني أمرين: هم يريدون أن يحكموا بقوة أجهزة الدولة (الامن والجيش) وبسند الاستعمار، وذلك هو معنى تصفيقهم لبشار والسيسي وحفتر. ومعتقدهم تعبر عنه ألفة يوسف أكثر صراحة منهم، حتى لو كان ذلك دليلا على أنها فقدت سلامة العقل ولطافة الوجدان لكأنها صارت “متوحدة” تخاطب ذاتها لا غيرها.
وقد كنت شديد الاحترام للسيدة ألفة يوسف، خاصة وقد عرفتها وهي فتاة دون العشرين شديدة التيقظ العقلي ولطيفة الإحساس الوجداني. لكني لست أدري ما حدث لها فصارت كما سمعتها تقول في لقاء تلفزي ظاهرة “توحدية” تعبر عما يدور بخلدها دون سبق توقع وتبع انتظار: قصبة تصوت بما يمر بما يخترقها من ريح.
والجميل في هذه الصورة التي قدمتها عن نفسها أنها أصدق صورة عما يعيشه المثقفون العرب عامة والتونسيون خاصة من الذين فهموا من الفردانية “التوحد” بمعنى قطع كل صلة بما يجري، ووصل ذاتها ليس به بل بما تريده أن يحدث انطلاقا من رؤيتها للعالم لأنها ذات قدرة “كن”.
وفي الحقيقة هذا الموقف هو موقف العاجز واليائس الذي يتعلق بمنطق الصدف: قد يأتي “فارس” من جنس ابن علي فيقوم بانقلاب مثل السيسي فيعوضهم عن العجز الذي يعبرون عنه بعنتريات “هوليكوستية” لا يهم أن يذهب فيها عشرون ألف تونسي من أجل “نمط العيش التونسي” الذي هو نمط الفترينة الابنعلوية. وهم يتوهمون أن الفرصة سانحة: فما حدث في سوريا ومصر وليبيا وما بدأ يماثله في الخليج الممول للثورة المضادة يغريهم بسنوحها. لكنهم ينسون أن الظاهرة سبقت في الجزائر وأدت إلى حرب أهلية دامت عقدا كاملا. وهم يتوهمون أن الشعب التونسي أقل غيرة على سيادته الحضارية والسياسية. والأهم من ذلك أنهم يتوهمون أن بشار والسيسي وحفتر انتصروا على الثورة. وهو دليل قاطع على غباء أو سذاجة سياسية: فبشار لم ينتصر بل أصبح دمية إسرائيلية وروسية فقدت سوريا بموجبها كل سيادة لأنها خاضعة لأربعة احتلالات اجنبية • أولها وأساسها كلها إسرائيلي • ثم روسي • وثم أمريكي • ثم إيراني. والسيسي لم ينتصر، بل أخرج مصر من كل دور في الإقليم لأنه جعلها ولاية إسرائيلية وإماراتية، وأصبح أكبر شعب عربي خارج التاريخ والجغرافيا. فإذا كان هذا هو المصير الذي يريدون استرجاعه، فهم ليسوا معارضة ولا مثقفين، بل هم كما وصفتهم “حركيون” أي عملاء فرنسا ومصيرهم مصير الحركيين فيها.
وأخيرا، فأكبر دليل على أن المعارضات وادعياء الحداثة المدافعين عن النموذج الفتريني لو كانوا حقا صادقين في ما يدعون، لكانوا هم أول المعارضين لتقرير لجنة التسعة المفسدين. ذلك أن الأمر لا يتعلق بمقابلة بين الأصالة والحداثة ولا بين الإسلامي وغير الإسلامي، بل بمعركة السيادة الحضارية. فلا توجد أمة تحترم نفسها وتؤمن بذاتها تعتبر من شروط قيامها، أن تكون قيمها مجرد نسخة مفروضة عليها من غيرها، حتى لو كانت بعض هذه القيم مطلوبة من بعض نخبها. فالقيم التي تفرض بقوة الدولة وبالاستقواء بالقوة الاستعمارية ستنتهي إلى عكسها تماما بمنطق “المانيفال” عندما تعكس الأثر بإفراط.
وقد يتوهم الكثير أن الإسلاميين يستحقون اللوم لأنهم قبلوا بالتعامل الاضطراري مع بقايا التجمع واليسار المنضوي فيه طمعا بالاستحواذ عليه – لا أقول بقايا الدستوريين فهما شيئان مختلفان تماما – وينسون أن تخاذلهم هو الذي فرض على الإسلاميين القبول بالحل المضطر. ولأني كنت أعلم أن ذلك كان سيكون كذلك اقترحت على الإسلاميين لما قبلت بالعمل معهم، رغم كوني لست منتسبا للحزب كما هو معلوم، بأن يقلبوا صفحة الماضي وأن يعلنوا على صلح تام يجب ما قبله بالنسبة إلى كل من يلتزم بمطالب الثورة لعزل أعدائها من المافيات التي كانت تحكم أو تعارض في الظاهر. كنت أعلم أن الحزيبيات الحالية التي اخترقت نخبها التجمع والاتحاد، تعتبر نفسها صاحبة الثورة وهي أعدى أعدائها لأن هدفها لم يكن تحقيق أهدافها، بل اعتبارها فرصة لكي يستردوا ما تصوروه حصتهم من نظام ابن علي مع قلب العلاقة: يصبح التجمع أداة بالاستحواذ على قاعدته الشعبية وهم زعماؤها للحكم باسم الثورة.
والسبسي الذي شاب رأسه في السياسة كان يعلم ذلك: فاستغلهم لكي يزيح النهضة بهم لكنه كان يعلم أنهم لا قاعدة شعبية لهم. فلم يقبل أن تكون القاعدة التجمعية جيشا جنرالاته من اليسار والقوميين. فانقلب عليهم وقبل أن يحكم مع النهضة. والآن يريدون الانتقام: ف فتوا حزبه وأعدوا للانقلاب عليه. والاعداد يتبع نفس الخطة التي استعملها ابن علي ضد بورقيبة: أوهمه بالخطر الإسلامي حتى يدعوه لدرئه. وهو السيناريو الذي أبطله رئيس الحكومة الحالي الذي يظنه الرئيس عدوا، وهو في الحقيقة قد حماه من مصير بورقيبة. وطريقتهم هي توريطته في معركة خاسرة: ذلك هو هدف التقرير. لكن هذه المرة لم تقع النهضة في الفخ، ولم تجعل المعركة صداما بينها وبين الرئيس، بل هي جعلتها صداما بين من يريدون توريط الرئيس والشعب. لذلك فالشعارات الاحتجاجية لا تتعلق بصراع بين الإسلام والحداثة، بل بين التحديث الفتريني والتحديث المستقل. ومن هنا تحييد استعمال بورقيبة بعضمة لسانه.