السنة، متى تتوقف عن الشخير؟ – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله السنة

الفصل الثاني

مواصلة لفصل شخير السنة علينا أن نحدد البديل الذي يحرر من طريقتي الغزو من فوق ومن تحت الغزو الذي يعتمد توظيف الفلسفة والدين المحرفين. فلا يكفي الاستعاضة عن الفلسفة والدين الزائفين بالتصحيح الفلسفي والديني لأن ما يحوج إلى التزييف يتجاوز التوظيف السياسي والايديولوجي. لا بد من سد حاجة أعمق بكثير من تصحيح الفلسفة والدين فهو ضروري غير كاف. فلو اكتفى الإنسان بالفلسفة والدين الصحيحين لمات من الجد والرتابة. لا يمكن للإنسان أن يملأ حياته بجد العلم والدين بل لا بد له من مجال خيالي أوسع منهما هو المجال الذي يدخل منه التحريف لهذا الفضاء الرحب. فمن دون ملء هذا الفضاء الرحب يختنق الإنسان فيحرف العلم والدين ليملأه بما يفرضه عليهما من خيال جامع لا يحتكم للخيال المبدع لغير الأوثان. البديل المطلوب هو إذن بالعلم والدين السويين وبما يملأ الفضاء الرحب من زمان الحياة بأنشطة إبداعية يسرح فيها البدن (الرياضة) والروح (الفنون). وأهم عائق لمنع الاختراق الباطني من فوق ومن تحت في الفكر السني هو قتل الخيال وترك هذا الفضاء الرحب غير عامر بما يملأه من إبداع غير وثني. وسأتكلم الآن على ما غاب عن أذهان الغزالي وابن تيمية وابن خلدون بسبب غفلة مفهومة لتأخر عصرهم على ما كانت تملأ به الأمة فضاءها الخالي منهما. كانت الامة تملأ فضاءها الخالي من العمل المبدع بالعمل المبدع وهو من جنسين: غزو التاريخ والجغرافيا. كانت الأمة تفتح العالم وتستوعب الحضارات. فتح العالم يشبه اليوم غزو الفضاء واستيعاب الحضارات يشبه اليوم نشاط العولمة في توحيد أسواق العالم وحضاراته. لم يكن لهم فراغ للوثنية. ولم يكن لشبابهم فراغ للدروشة المتصوفة الوثنية وللعلوم الزائفة التي تدعي العقل وهي لقتله باسم التعليمية التي تبرهن على الحاجة إلى المعصوم. وغزو العالم الجغرافي بالفتح يتحاج إلى العلوم الصحيحة لا إلى العلوم الزائفة وإلى استيعاب تجارب الحضارات السابقة والمساوقة لتنمية الخبرة. وكانت الرياضة أو شغل البدن ضمن نشاط الفتح في التكوين العسكري والفروسية وكان شغل الروح ضمن نهم الاطلاع والانفتاح على الحضارات الأخرى. وإذن فالأنشطة الخمسة (الرياضة والفن وغزو المعمورة والتاريخ مع تصحيح العلم والدين) صارت كلها خواء في خواء فملأوها بمعرفة خرافية ودروشة صوفية. وهذا عينه ما يحتاجه الغزو من فوق ومن تحت لمحو أثر الثورتين الإسلاميتين الروحية والسياسية: فالعبيد يغتذون بزائف المعرفة ومنافق الأخلاق. يريدون للأمة أن تعود إلى النوم والشخير. يفقدونها معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون وتلك سياسة الباطنية ونصائح الغرب للحكام العرب ضد الإسلام. إنها الاستراتيجية المكملة لاختراق الحركات الإسلامية والجهادية بالمجرمين لتشويه المقاومة السنية ومنع الاستئناف بالطريقتين: التنويم والتجريم. وقد آليت على نفسي أن أكشف كل الستراتاجام أو الحيل الخبيثة التي تستعمل في الحرب على الأمة التي هي السنة ولا أحد منها غيرها ما دمت حيا. لكني لا أكتفي بالكلام الشعاري بل أصل الأمر بأصوله التاريخية والفكرية لأبين أن الحرب الجارية ليست جديدة بل هي عينها التي بدأت ببدء الإسلام. ومحركوها هم نفس المحركون: أصحاب الإمبراطوريات السياسية والروحية التي ألغاها الإسلام لأنها كانت تمثل نقيض الحريتين الروحية والسياسة. ما لم ينسه الصفوي والصهيوني منذ نزول القرآن هو ثورته الروحية بنفي الكنسية وثورته السياسية بنفي الحق الإلهي في الحكم. وهما يجمعان بينهما. ومساعدة القوى الاستعمارية أي روسيا وأمريكا ذات صلة بالتاريخ. فعلاقة روسيا بنا أرثودوكسية وأمريكا بنا بروتسنتينية وعلمانية دساتيرهم داخلية. ثم إن الغرب بطرفيه الروسي والأمريكي وبقلبه الأوروبي ما يزال يخشى الإسلام (الخمسة عشر قرنا من الصراع) والطمع فيما عندنا والخوف من المستقبل. وكما في كل تاريخ الصراع بينهم وبيننا كان حليفهم نفس الذراعين الحاليين (الصفوية والصهيونية في شكلهما القديم) ثم العلماء من حكام المسلمين. وكما حدث في القديم كانت حربهم الرمزية والمعنوية تعتمد على الاختراق الصوفي: فليس من الصدفة أن كانت جل الطرق المحرفة للدين أندلسية؟ فشتان بين الزهد الإسلامي والتصوف المتفلسف الذي بمجرد القول بوحدة الوجود يؤسس لنفي كل معنى للأخلاق ويستعيض عن العلوم الحقيقية بزائفها. فالقول بوحدة الوجود ينتهي إلى أن كل ما يجري قضاء وقدر والاستسلام للقوة العمياء لأن الحكام والاستعمار ظل الله في الأرض والشعب يكفيه الرقص. والعمق الروحي والوجداني الصوفي حتى لو سلمنا بصدقه عند البعض فمخالفته لسنة الرسول قول بأنه في اجتهاده وجهاده الدائمين يعاند للقضاء والقدر. وأن القطب أعلم من الرسول وأن خاتم الأولياء لبنة ذهبية في حين خاتم الأنبياء لبنة فضية. لا حاجة لحكاية تخريفات كبارهم ومآل الشعوب بتنويمهم. انظروا ما الذي حل بالعراق: أصبح إصطبلا للغزاة ممن يستعملون الباطنية لتحريف الإسلام فيه وليس عندهم في بلادهم. كذلك يفعل ممولو الثورة المضادة. ولن يسد الباب بالفرازيولوجيا الوهابية بتجفيف الحياة وتعويض الدين بالعبادات الشكلية بحكام يحكمون بمنطق الجاهلية والفرعونية استبدادا وفسادا. الشباب الذي يحقق شروط الاستئناف لا بد له من الاستراتيجية التي حاولت وصف مقوماتها هنا مع مزيد من التدقيق والتجويد ثمرة للعمل الجماعي. حينها لن يستطيع أحد غلبة المسلمين -السنة-حتى لو اتحد الغرب والشرق والعملاء والذراعان عليهم. فما حققه الجدود الأحفاد لن يعجزوا عما يليق به. اعترف أني ما زلت لا أفهم لماذا نسمي علماء من يقتصر علمهم على حفظ جملة من المتون التي لم يعد لها أدنى صلوحية لعلاج ما يحقق عزة الإسلام. وما زلت لا أفهم لماذا ينبغي أن يكون علماء الدين في إسلام مؤسسه أبطال ومحاربون وساسة عظام جلهم أعمى أو عجوز أو يغلب عليه القبح الطبيعي؟ وما زلت لا أفهم في دين أساسه تحرير الإنسان من الوساطة كل هذا الجيش من الدعاة والدجالين؟ لماذا أغنياء العرب لا يمولون إلا فضائيات الدجل. لم ار أحدا منهم مول جامعة معهد لتكوين علماء في الرياضيات أو في الطبيعيات أو في الطبيات فتراهم يتعالجون في الغرب رغم وجود ما يسمى بدول؟ أذكر أن أحد الاغنياء عرض على بعض الأساتذة الجامعيين في تونس “خرافة” تدبر القرآن بدعوى التنوير وهو في الحقيقة للتنويم وعاب إحدى البديهيات. عاب قوله إن تأثير الجامعتين الأمريكيتين في لبنان ومصر في نخب العرب التي تدعي تمثيل الفكر الحديث أكثر من مآت الجامعات العربية المفلسة. فأغنياء العرب همهم تخدير الدين أو تعهير الفن.وكلها للتنويم الروحي والابتذال العقلي لن أسمي أحدا لكن اللاباء بالإشارة يفهمون. وحجة الإسلام أدرك ذلك في الاحياء. نبه إلى جيوش الفقهاء في مدينة لا يوجد فيها إلا طبيب واحد يهودي. لكن الثالوث مال إلى أفسد حل: سد الذرائع. فتوظيف الفلسفة لمعاداة الدين وتوظيف العلوم للسحر والتنجيم وتوظيف الخيال للتوثين والتنويم جعلهم يفضلون إلغاءها سدا للذرائع بدل علاج أدوائها. ففي محاولات ابن خلدون دحض العلوم الزائفة -وهي فعلا ثورية-ذهب في فصل إبطال الفلسفة إلى ما استغربته أول مرة: قوله إن الطبيعيات لا فائدة منها. وهذا من باب سد الذرائع باعتبار طبيعيات عصره مثل السيمياء كانت في منظور علماء الدين شبه إلحاد لقولها بفاعلية الطبائع لكأنها تنفي ما وراءها. وكل هذه الحلول سببها الصراع الباطني الذي يوظف الفلسفة للحرب على الدين فيرد عليهم بالدين الذي يحارب الفلسفة كما يحصل الآن بين الكاريكاتورين. وفي الحقيقة لا علاقة للفلسفة بالإلحاد وحتى الغزالي يؤمن بذلك (مقدمات التهافت). وصحيح أنه قل أن تجد فيلسوفا يعتد به ملحدا. المشكل في الأشباه. والغزالي صريح بأنه يرد على الأشباه بطلب أصل تحريف الفلسفة حتى عند الكبار في عصره لتوهمهم حسب رأيه أن الميتافيزيقا علم وهي فرضيات ظنية. والظاهرة قد تكون اليوم من نفس الجنس لكن الغزالي أدرك في نفس الوقت أن أصل توظيف الدين والفلسفة في الباطنية هو توظيفهما السياسي المحرف لهما. لكن الرد كان بسد الذرائع: بدل محاربة التوظيف السياسي كان الرد بنفس المنطق: العداوة بين الفلسفة والدين: العداوة ليست أصلية بل بنت التوظيف. وحل التوفيق وهم. فهما مختلفان ولا يتطابقان أبدا: علاقة العلم بالإيمان هي علاقة شكل المعرفة بمضمونها. المضمون وجودي وجداني والشكل منطقي رياضي. المضمون تلق وقبول لموضوع الإدراك والشكل تصوير لهذا الموضوع. وهو دائما تصوير فرضي واجتهادي ولا يطابق الشكل المضمون أبدا. وذلك شرط تقدم العلم. وقد يظن الكثير أن الدول العربية الحديثة تجاوزت هذا الأمر فلم تعد الثقافة مبنية على إهمال الدنيا والعناية الزائفة بما وراءها. وهذا وهم. فالثقافة السائدة هي الثقافة اللصيقة بالسياسة السائدة. وهي ثقافة الكاريكاتورين والمعركة بين التأصيل والتحديث. فالتربية جهاز إيديولوجي عقيم. فهي لا تخرج مبدعين وكل شيء مستورد في كل البلاد العربية والانتاج الوحيد الموجود يستورد تجهيزاته أو يحاكي تجهيزات مستوردة: نظام التعليم عقيم. منتوجه الوحيد خريجين عاطلين لا يبدعون شيئا. والجامعات لا تبدع حتى وسائل عملها بل هي تستوردها. ولا تتزعم إلا الجدل الإيديولوجي حول الحكم. أكبر عاهات النظام الجامعي تسييسه إلى حد مضاعفة الجيوش الأيديولوجية بين بقايا التعليم المزعوم أصيلا وسرايا التعليم المزعوم حديثا: حرب شعواء. والدين والفلسفة منهم براء: كبار فلاسفة الغرب وكبار علمائه رجال دين أو خريجو مدارس دينية مثل ديكارت ولايبنتس. والحداثة تجاوزت هذا الصراع. وحتى الماركسية فهي لا تحارب الدين إلا لأنها مثل أصحاب سد الذرائع تصورت أنه يرد إلى توظيفاته كما ظن أولئك أن الفلسفة ترد إلى توظيفاتها. لكن لا الدين يرد إلى توظيفاته ولا الفلسفة ترد إلى توظيفاتها بل التوظيف استخدام لهما من محرفيهما: فكل شر فيهما تحريف لما فيهما من خير.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي