**** السلطان الرمزي الأقليات الإسلامية وحاجتها للرعاية والحماية
أن يكون الإسلام حررنا والبشرية من سلطة روحية وسيطة بين الإنسان وربه (الكنسية) ومن سلطة سياسية وصية تحكم بالحق الإلهي (وراثة السلطة دينيا وليس بالبيعة الحرة) لكن ذلك لا يعني أن الأمة ينبغي أن تبقى دون رأس رمزية تمثل وحدتها بعد أن تدرجت الخلافة إلى أن استقرت في هذا الدور. فللخلافة ثلاثة معان عرفتها الأمة ومعنيان وسطان أولهما يصل الأول بالثاني وثانيهما يصل الثاني بالثالث:
1-الإنسان من حيث هو إنسان مستخلف
2-الأمة التي تثبت جدارتها بهذه المنزلة مستخلفة.
وهذان المعنيان من قضاء الله وقدره وليس للإنسان فيهما إلا دور اثبات جدارته بالمنزلتين. ومعنى ذلك أن:
فيكون الاستخلاف في الحالة الأولى وكأنه بالقوة في انتظار إثبات الجدارة ليستأهل الحالة الثانية. ومنهما اشتق المسلمون اسم الخلافة بمعناها الثالث والجماعة هي التي تنتخب الجدير بتمثيل إرادتها.
والهدف من المحاولة علاج قضيتين أولاهما بنيوية تقتضيها ثورة الإسلام الروحية (لتحرير التربية من الوساطة) والسياسية (لتحرير الحكم من الوصاية) وهما ثورتان يعسر تحملهم من دون حل بديل للهذين السلطانين التربوي بالوساطة (الكنسية) والسياسي بالوصاية (الحكم بالحق الإلهي) من دون اكتشاف النظام المؤسسي الذي يجعل التربية بقاعدة “إنما أنت مبلغ” والحكم بقاعدة “لست عليهم بمسيطر”.
ومعاني الخلافة الثلاثة لا تكفي لعلاج هذه المشكلة البنيوية فضلا عن علاج مشكل حماية الأمة عامة والأقليات التي تعيش في غير دار الأسلام خاصة من العدوان عليها من كل حدب وصوب. لذلك جمعت بين القضيتين لأقدم تحليلا للمسار التاريخي الذي أوصلنا إلى الوضعية الحالية وأزوف علاجها ولأقترح حلا يحافظ على البنية ويتصدي للظرف.
فالمعاني الثلاثة للخلافة تمثل منازل وجودية حدد القرآن اثنتين منها وأبدعت الأمة المنزلة الثالثة ولا بد أن يكون الوصل بينها بالسعي إليها فيكون الانتقال من المنزلة الأولى التي هي للإنسان من حيث هو إنسان لكنها بالقوة في انتظار هذا السعي لنيلها بالاجتهاد والجهاد. وهو فردي ويمثله شرطا سورة العصر الخاصان بالفرد أي الإيمان والعمل الصالح.
فالفرد الإنسان خليفة بالقوة ويصبح خليفة بالفعل إذا آمن وعمل صالحا شرطين لخروجه من الخسر الناتج عن الاخلاد إلى الارض. والجماعة المؤلفة من أفراد لهم هذه الاهلية تصبح مستخلفة في الأرض إذا تواصت بالحق وتواصت بالصبر. والأول شرط الاجتهاد لرعاية شروط الاستخلاف و الثاني شرط حمايته.
وهذان هما جوهر الخلافة بالمعنى السياسي للكلمة أي إن السياسة في الإسلام هي:1-السعي الأول للوصل بين الخلافة العامة التي هي بالقوة والتي تصبح بالفعل بفضل التربية وهو بعد السياسة الاول و2-السعي الثاني لبناء دولة الجماعة الحرة التي أثبت جدراتها بالخلافة:البعد الثاني أو الحكم الراشد.
والجمع بين التربية الراشدة والحكم الراشد هو الجمع بين التربية التي لا يكون فيها المربي وسيطا بين الله والمؤمن والحكم الذي لا يكون فيها الحاكم وصيا على الجماعة في إدارة شأنها العام بل هو ممثل لإرادتها نيابة عنها باختيارها الحر بحكم توزيع العمل وليس بحكم جعل فرض العين فرض كفاية.
ولما كان الرسول نفسه قد قام بهذين الوظيفتين فهو أول خليفة بهذا المعنى: ففيه تحققت المعاني الثلاثة والوصلتان بين المعنى الأول والثاني وبين المعنى الثاني والثالث. ولذلك فعندي أن الخلفاء الراشدين خمسة وليسوا أربعة لأن الخلافة ليست خلافة الرسول بل هي كما حددها القران وكما قيس عليها.
ومن معجزات تاريخنا الروحي والسياسي أن المرحلتين منفصلتين مع وجود الوظيفتين التربوية والحكمية كلتيهما في كلتيهما. فالمرحلة المكية تربوية الجوهر لتكوين أفراد يؤمنون ويعملون صالحا لينتسب إلى الأمة الخيرة. والمرحلة المدنية العكس حكمية لتكوين جماعة تتواصي بالحق وتتواصي بالصبر.
ولذلك قال الله لرسوله الخاتم “إنما أنت مذكر” أي مرب دون وساطة روحية. وقال له “لست عليهم بمسيطر” أي حاكم دون وصاية. فيكون الرسول بهذا المعنى الخليفة الاول والدليل أنه طبق حرفيا ما أمر به. لم يكتف بكون مرسلا بل طلب البيعة ولم ينتسب إليه إلا من شهد له واعترف به مربيا وحاكما.
فتكون معضلة المعضلات وجوهر الثورة الإسلامية هي: كيف نحرر التربية من الوساطة وكيف نحرر الحكم من الوصاية. تلك هي الثورة الروحية والسياسية التي علينا استرداد قيمها حتى لا تبقى الامة بلا رأس. صحيح أن الإسلام ليس له كنيسة ولا حكم بالحق الإلهي. لكن له خلافة بالمعنى الذي شرحت.
هذا المعنى مر بخمس مراحل: مثالى بمرحلتيه (النبوية والصحابية) ثم محاك بمرحلتيه (الاموية وما بعدها). والأخيرة هي التي أبحث عنها لأن الأمة في أمس الحاجة إليها وخاصة الشعوب الاسلامية التي هي اقليات في دول تحارب الإسلام وتحرم المسلمين من كل حقوقهم وليس لهم من حام ولا من مدافع بسبب غياب المرحلة الخامسة التي أبحث عنها.
وهي في الحقيقة تعديل لما كان خامسا لكنه مثل الأول معكوسا: فالمرحلة العثمانية هي عكس المرحلة النبوية لأنها في الحقيقة حكم إمبراطوري وسلطنة أكثر مما هي خلافة. ومعنى ذلك أن الدولة التركية الحالية يمكن أن تكون محفزة للاستئناف وحدة المسلمين بمنطق العصر أعني بما يشبه الوحدة الأوروبية دون أن يطمح أحد من العرب والاتراك لعودة الخلافة بمعناها الذي كان لها سابقا.
وواضح أن أوروبا نفسها تتحسس بحثا عن نفس الحل: فهي عادت تقريبا لما كانت عليه في الوحدة المسيحية الوسيطة ولكن بمنطق العصر لأن تجاوز الدول المبنية على الاثنيات صارت جزءا لا يتجزأ من ثقافة الشعوب الأسلامية ومن ثم فلا يمكن الغاؤها والعودة إلى منزلة الولايات الإسلامية من الخلافة بل ستكون مثل دول أوروبا الحالية تجتمع لعلاج ما لم يعد بوسع أي دولة في عصر العماليق قادرة عليه وحدها.
المرحلتان الأوليان: مرحلة الرسول ومرحلة الخلفاء الراشدين (تقريبا مناصفة قبل الفتنة الكبرى). لا يمكن أن نخلط بينهما فنضفي على المرحلة الراشدة صفات المرحلة النبوية. فالمثال الأعلى ليس المرحلة الراشدة رغم ما تميزت به من رشد. لكنه رشد محاك وليس له صفات الكمال التي للمرحلة الرسولية وإلا لما حدثت فيه الفتنة الكبرى.
والمرحلتان الأخريان هما نقيضتا المرحلتين الاوليين: محاكاة المرحلة الراشدة الشكلية في الأقوال والعمل بالقانون الطبيعي (تقديم الشوة على الشرعية) وليس بالقانون القرآني (تقديم الشرعية على الشوكة). فواقع الأمر فرض على معاوية تقديم الشوكة على الشرعية وإعلان ما يشبه حالة الطواريء لأخراج الأمة من الحرب الأهلية بمنطق الضرورة تبيح المحظور: لذلك لم يلغ الدستور القرآني في مسألتي السياسة أي التربية والحكم.
وأصبحت الشرعية قولية والشوكة فعلية في دولة تحكمها حالة طواريء مستدامة بسبب عودة العرب إلى القبلية و الشعوب الإسلامية الأخرى إلى الشعوبية. وقد سماها الرسول الملك العضوض. لكن من سنن الشوكة أنها تتراخى بالتدريج والعادة قد تغني عنها كما قال ابن خلدون لأن الدول إذا استقرت قد تصبح غنية عن قوة العصبية القبلية.
وكلام ابن خلدون نصف حقيقة. فما يحصل ليس الاستغناء عن العصبية بل قبول العصبيات بأن يكون لها السلطة التنفيذية لأنها هي صاحبة الشوكة وتبقي على السلطة الرمزية والتشريعية العليا للخلافة التي تصبح رمز وحدة الامة ولها وظائف دينية عددها ابن خلدون والوظائف السلطانية لعصبية ذات شوكة.
فحدث ذلك مع البويهيين والسلاجقة وحتى مع المماليك -المرحلة التي لم يبق لها إلا الرمز الخالص-حتى وصلنا في النهاية إلى أن حاول العثمانيون الجمع بين السلطتين الرمزية والفعلية بعكس تام لما كان عليه الأمر في المرحلة الرسولية: أي إن الشوكة مطلقة التقدم على الشرعية لأنها سلطنة صارت خلافة من دون بيعة عامة.
وهو أمر شبه مستحيل لأن الجمع لم يحصل حقا إلا في حقبة الرسول. والخلفاء الأربعة الأول لم تكن لهم شوكة مؤسسة على عصبية لأن العرب كلهم كانوا حامية الأمة دون جيش نظامي بل كان سلطانهم مقصورا على شرعية الصحبة وبدرجاتها.
وكان طبيعيا إذن أن تكون الخلافة العثمانية عودة شكلية للجمع بين الشوكة والشرعية جمعا يقدم الشوكة على الشرعية التي سقطت في الغاية وهي مقصورة على الدور الرمزي لأن السلطان كان صاحب السلطة الفعلية وليس لدوره كخليفة إلا شرف الاسم. لذلك كان الدور الرمزي في الخلافة العثمانية أضعف ما فيها.
ودور الشرعية الرمزي لم يعد ممثلا بسلطة سياسية بل بالمعالم الإسلامية منذ سقود آخر خلافة في الربع الاول من القرن الماضي وخاصة بالحرم الثلاثة وبالحج والأعياد في غياب مؤسسات شرعية تتكلم باسم الإسلام لتعدد اصوات النشاز الطائفي والمذهبي المفرق وليس الموحد.
وقد أفسد هذا الدور المعلمي آل سعود لفقدانهم الشوكة والشرعية. فكونهم جعلوا أرض الحرمين محمية استعمارية وكونهم وظفوا الإسلام لخدمة الحامي (بشهادة أميرهم الحالي) الذي توهموه يخدم نظامهم-رغم عدم نكران ما حققه الخلط بين المهام من نشر للدعوة الإسلامية وبعض التضامن الإسلامي في العالم وخاصة في مرحلة فيصل رحمه الله-أفسد هذه الوظيفة واصبح من الضروري إيجاد حل وهو المرحلة الخامسة.
ولما كان من العسير أن يكون الخليفة من أي بلد إسلامي بمفرده لأن البقية ستنافسها عليه فتتعدد الرؤوس ولن نتقدم حتى لو كانت رؤوسا لسلطان رمزي ولما كان الإسلام يجعل الدور الجامع بين الرمزي والفعلي للأمة وليس لفرد فإن أفضل تمثيل لإرادة الأمة هو مجلس شورى جامع لكل شعوب الأمة فإني أقترح أمرين:
1-جعل الحج مؤتمرا إسلاميا شاملا يـحضره نواب عن كل الدول الإسلامية ليكون شبه برلمان إسلامي للتباحث في حال الأمة وعلاجها في المستوى الرمزي والقيمي تهتدي به الأنظمة في تحقيق شروط التضامن بين شعوب الأمة لحماية البيضة وقيم الإسلام وخاصة الأقليات الإسلامية المضطهدة كما في بورما وفي الصين وقبل ذلك في البلقان واليوم في أوروبا المتيامنة.
وأن يكون ذلك بشروط تعيين نواب الأمة بالبيعة:
2-فيكون الحجيج من كل دولة إسلامية جماعة ناخبة تختار رجلا وامرأة منها ليمثلوا إرادة الأمة باعتبار الحجيج عينة منها كافية لتنوبها إذ إن واحد من الألف من كل شعب مسلم نسبة جيدة لتمثيل الإرادة حتى في أعتى الديموقراطيات.
فإذا استقر الأمر وصار ذلك فعالا ومؤثرا انتقلنا إلى الحل الخامس: أن يصبح هذا المجلس دائما بين الحجة والحجة ويتغير في كل حجة. ومعنى ذلك النواب يبقون جالسين إلى أن تأتي الحجة الموالية فيكونوا من الحاضرين كمراقبين ويستمتعوا بججة ثانية ثم يعودوا إلى أوطانهم ويتولى الجدد بعدهم.
وهذه العينة من ثقافات شعوب الأمة عمرانا ومنتجات وفنونا ستكون محل سياحة دائمة للمسلمين وغير المسلمين ولن تخسر السعودية مليما واحدا لأنها ستضاعف مداخيل الحج إذ هي سياحة روحية وثقافية دائمة مداخليها ستكون ضعف مداخل الحج وفوائدها لا تحصى ولا تعد. والله أعلم.