لما انتخب السيد قائد السبسي -وكان اقل الشرين-اعتبرت عهده قد بدأ بما انتهى به عهد بورقيبة. وهو أخف الشرين لأن العهدين السابقين عهد بورقيبة وعهد ابن علي ينبغي أن يصلا إلى غايتهما فيدفنا نفسيهما باعتبار عهد ابن علي حياة صناعية لعهد بورقيبة كما يحدث لمن يعيش بالأجهزة وهو يحتضر. وجرد الحساب-البيلان-لسنوات السبسي الأربعة، تبين أنه لم ينجز أدنى شيء يمكن أن يعتبر دالا على الحياة: • قانون الزطلة • والصنبة • ومشروع قانون المساواة • وربما الإطاحة برئيس الحكومة الثاني الذي اختاره بنفسه.
أما حزبه فقد فتته شر تفتيت. والأهم من ذلك كله أمران يؤديان إلى الأمبيشمنت الخلقي: 1. الأول هو أنه أقسم على دستور الثورة، لكن ولاءه لدستور ابن علي. وتلك هي علة عزله رئيس الحكومة السابق وسعيه لعزل الحالي. ولو لم يفسد ابنه حزبه وتسرع اليسار لافتكاك الحزب، لأرجع نظام ابن علي علنا ولم يكتف بالسعي لجعل قرطاج بديلا من القصبة في كل تصرفاته. 2. والثاني أخطر من الأول: ففي الأول كان السعي لتغير نظام السلط الذي اقره دستور الثورة ليعود نظام السلط الذي فرضه ابن علي، مغاليا في ما كان عليه الامر في عهد بورقيبة، لكن الثاني يتعلق بتغير مرجعية الدستور وهو ما لم يجرؤ عليه لا بورقيبة ولا ابن علي، وهي جرأة ستقضي عليه لفقدانه شروطها.
وبهذا المعنى فإني أكاد أجزم أن الرجل لم يعد مالكا لقدرات عقلية كافية لتسيير دولة ما دام قد عجز حتى على تسيير حزب. وآمل ألا تكون وراءه ما كان وراء بورقيبة في ايام مرضه وعجزه. ذلك أن ما قاله في خطابه الاخير ومحاولة الخياطة بالخيط الأبيض، دليل على فقدان لياقة “القدرة العقلية”.
ولا أذهب إلى اعتبار ما قاله بعدم العلاقة بالدينية أنه ينفي الدين عامة في الدولة التونسية، بل هو يقصد أن مدنية الدولة تعني أن مبدأ المساواة علاجه لا علاقة له بدين الشعب. وأنا أوافقه بأن النقاش في المسألة يمكن أن يكتفي بحقوق الإنسان: فبمتقضى ماذا يحق له أن يحد من حقين لصاحب التركة؟ أليس المالك الذي يدور الكلام على تركته له حقان من حقوق الإنسان؟: • حق حرية المعتقد • حق حرية الملكية فهل الدولة المدنية، لو اعتبرنا مدنيتها تستثني المرجعية الدينية -وهي دعوى سخيفة-لكن فلنقبلها جدلا، تلغي حقوق الإنسان كذلك، فتجعل كمشة من المتعصبين تلغي حقين من حقوق صاحب التركة؟
أليست حرية المعتقد تشمل الاعتقاد في فريضة توزيع التركة بحسب المعتقد؟ هل المسلم ليس حرا في تطبيق عقيدته في توزيع تركته سواء في حياته أو بعدها؟ أليست حرية المالك تشمل حقه في التصرف في ملكه حيا وميتا، فيعطي لمن يشاء ما يشاء كما وكيفا دون سلطان لأحد عليه؟
وما هو السلطان الذي يجعل رئيس دولة، سلطاته محددة بالدستور، يمكنه من التحايل ليدعي أنه مطالب بتحقيق التناسق بين القوانين والدستور بحسب فهمه له؟ هل هو قاض في المحكمة الدستورية وطلبت منه سلطة شرعية أن يقضي في التناسق بين القانون والدستور؟ وكيف يحتكم للبند الثاني لتعطيل الاول منه؟ هل صحيح أن الرجل دارس للقانون؟ هل يمكن أن تقرأ الدساتير قراءة تحكمية، بل واعتباطية، بحيث لا يبقى نظاما متناسقا أولا قبل البحث في تناسق القوانين معه؟ وكيف تصبح القاعدة شذوذا والشذوذ قاعدة، فتكون الاغلبية المسلمة استثناء على أرضية الأقلية “العلمانية” في مقترح الرئيس؟
لعله يتصور أن استراتيجية الإمساك باليد التي توجع (بلغة المصريين) يعني تخويف حزب ا لنهضة، سيجعله يربح الرهان هذه المرة فيمر المشروع برضاها أو بعدمه، لأنه واثق من أن الأحزاب الذرية الباقية أكثر منه حقدا على سيادة تونس الحضارية. لكن هيهات. سأدعو وسأطالب الجميع بأن يدعو إلى أحد أمرين: 1. الأول وهو الأدنى: المطالبة بجعل الامر يحسم باستشارة شعبية. وإذا تمادى ورفض ذلك: 2. سيكون الثاني الدعوة إلى ما يشبه الأمبيشمنت الخلقي لان القانوني لا وجود له في الدستور. وإذا ما زال يفهم معنى “الخلقي” فسيفهم أنه أهم من القانوني: سيكون الطلب وضع أهليته الخلقية والعقلية موضع سؤال.
فلعبة الولاء للنظام الرئاسوي التي جعلته يحارب رؤساء الحكومة على ما فيها من عدم ولاء للدستور الحالي، مرت بسلام في المرة الأولى، وقد تمر بنكبة في المرة الحالية. لكن اللعبة الاخطر والتي تتمثل في التحايل على مرجعية الدستور المتعلقة بالسيادة الحضارية لنقص في السيادة السياسية، لن تمر. فقد نفهم العدوان الاول على الدستور من الإرث والعادة والتنافس السياسي في الحزب الحاكم طمعا في أن يحكم وحده، وأن يورث الحكم لمن يريد فلا يشكك في السيادة السياسية. لكن المس بالسيادة الحضارية، أي بمرجعية الدستور، لا يمكن ألا يكون ناتجا عن تخل عن السيادة السياسية لأنه طاعة أمر خارجي.
وأخيرا فما يقدمه السبسي ليس سعيا لتحقيق التناسق بين الدستور والقوانين بمقتضى مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، بل هو مشروع فتنة تصورها لعبة لحشر الإسلاميين في الزاوية. لكني لست إسلاميا ولا نهضويا، اعتبره يحارب مقومات السيادة الحضارية، لأنه يدين بوجوده للتخلي عن السيادة السياسية.
أقولها صراحة: السبسي لم يعد ممثلا للشعب التونسي. هو لا يمثل إلا حفنة أدعياء الحداثة من المزطلين وعملاء السيداو والسفارات التي شاركت في صوغ التقرير. ولذلك فالشعب التونسي يخيره بين أحد أمرين: • إما عرض المشروع على الاستفتاء. • أو سيكون الاستفتاء الشعبي على ما بقي له من شرعية. وهذا ما أعنيه بالأمبيشمنت الخلقي في غياب القانوني، لأني لا أذهب إلى اعتبار هذا الأمر قد بلغ درجة الخيانة العظمى للوطن حتى وإن لامسها بالنسبة إلى الثورة. ذلك أن كل ما قام به الرئيس إلى حد الآن لا علاقة له بالثورة وبالثوار، وإلا لكان رئيس كل التونسيين لا حفنة من الشاذين.
كنت أتصوره ساعيا لجبر الكسر الذي كاد يؤدي بالوطن إلى صدام حضاري داخلي فحييته لذلك. لكنه في الحقيقة كان يناور. كان يتصور أنه سيتمكن بالتحايل من الحد من توق الشعب التونسي لاستعادة مقومات كيانه الحضاري وهي ظاهرة كونية حتى في الغرب. لكنه اتبع الاستلاب عند كاريكاتور الحداثة.