لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالزوجية بمنطق الرحمان لعدم التمانع مع الانسان
الفصل الخامس والاخير أخصصه لمفهومي توثين الله في الثيوقراطيا وتوثين الإنسان في الانثروبوقراطيا عندما نغوص فننفذ إلى بنيتهما العميقة التي هي دين العجل ممثلا بمعدنه (رمز الفعل أو العلمة الاستغلالية) وخواره (فعل الرمز أو الكلمة الاستظلامية). استغلال العمل والشرع واستظلام النظر والعقد. تخصيص رمز الفعل أو العملة وصفا إياها بالاستغلالية وتخصيص فعل الرمز أو الكلمة وصفا إياها بالاستظلامية يعني امرين ان العملة والكلمة ضروريتان دون شك وأن الأمر يتعلق بغاية ضرورتهما السوية وغايتها غير السوية. فالعملة لتيسير التبادل والكلمة لتيسير التواصل. لكنهما تحرفا. وتحريف العملة من أداة لتيسير التبادل إلى أداة سلطة بجعلها هي أيضا موضوع تبادل وهو الربا فإنها تصبح بالتدريج سلطة وصاية وهو دور البنك الذي يصبح هو المالك لشروط حياة الإنسان بدلا من أن تكون ملكية الشروط لصاحب الحياة فتكون شرط حريته السياسية بمعنى أنه مواطن سيد. فما يزعم من حرية التملك في الثقافة الحديثة هو في حقيقة عين العبودية لمالك مجهول الاسم هو ملاك البنوك الذين يملكون ما يزعم المالك في الثقافة الحديثة أنه صاحبه في حين أن يرهن كل حياته من أجل حق الاستعمال الذي هو دائما مؤقتا مقابل رهن كل مستقبله لسداد الديون التي عليه لصاحب البنك. وذلك هو ما أقصده بالاستغلال وليس الاستغلال بالمعنى الماركسي. فالماركسية تتصور أن المالك هو صاحب المعمل ولا تدري أن المالك الحقيقي هو الممول وليس المستثمر ولا صاحب الفكرة ولا المستهلك. الممول فحسب هو المالك وهو مجهول الاسم لأنه صاحب مؤسسة العملة أو البنك: الاستغلال هو الربا. ليس مالك وسائل الإنتاج هو المستغل الاكبر بل المستغل الاكبر هو صاحب رمز الفعل أو العملة التي هي دين على المستثمر للممول. وإذن فأدوات الإنتاج التي تستغل ليست الادوات المادية التي هي مجرد عدة مادية للعمل تابعة لأصحاب العملة التي تنتقل من أداة لتيسير التبادل إلى أداة لفرض شروطه. وهي تفرض شروط الفكرة وشروط الاستثمار وشروط الاستهلاك وشروط العمل المادي المنتج للبضاعة أو للخدمة التي هي موضوع الاقتصاد. ولذلك فالممول لا يكتفي بأبعاد الاقتصاد الخمسة هذه بل لا بد له من السيطرة على الكلمة الاستظلامية لينقل التواصل من التواصي بالحق والتواصي بالصبر إلى التعتيم. فلا يمكن لرمز الفعل الاستغلالي أن ينجح من دون فعل الرمز الاستظلامي: وتلك هي علاقة معدن العجل بخواره. لا بد له من خوار-الوظيفة الاستظلامية أو الإيديولوجية للكلمة-حتى يؤسس للاستغلال. وبذلك يصبح رمز الملكية رمز الحرية لفرض شروط التبادل النافي لها(العملة)والمؤسس لهذا النفي الاستظلام. فيعود الأمر كله إلى أن الاقتصاد الاستغلالي مشروط بالثقافة الاستظلامية أي التي تعتم على الحقائق بقلبها وتسمية الدين ملكية والعبودية حرية. ولا يمكن لهذا ان يحصل إلى إذا حرف مفهوم الإنسان بإيهامه أنه إله مطلق الحرية التشريعية الخاصة والعامة أي إنه يتعاقد بحرية في خاصه وعامه. فمقولة العقد شرع المتعاقدين واعتبار النظام السياسي والاجتماعي تعاقديا لهما نفس الدلالة بمعنى أن الإنسان حر في التعاقد الخاص والعام. وهي حرية وهمية. فالخاص لا يمكن أن يكون العقد دالا على الحرية بل هو دال على نسبة بين قوتي المتعاقدين. تلك علة الاستغلال. والبنك هو اساس الاستغلال. وأن يسمى ذلك نظام الحرية في الرأسمالية فهو ما أعنيه بالاستظلام. فالكلمة وظيفتها السوية تيسير التواصل الذي من المفروض أن يكون هدفه الحقيقة والصدق لكنه لما يصبح قالبا للحقائق بتسميات مخادعة فهو يتحول إلى مضف للشرعية على كذبة الحرية في نظام المافيات البنكية أو تجارة العملة: الربا. فيتبين رغم الاغراق في التجريد أن التلازم بين تحريف وظيفة العملة وتحريف وظيفة الكلمة أو بين تحريف وظيفة الاقتصاد وتحريف وظيفة الثقافة أمر حتمي لأن الاستغلال لا يمكن أن يعوض التعاون بالتبادل العادل إذا لم يكن الاستظلام قد عوض التواصيين بالتواصل الخادع: الربا المادي والخداع الروحي. وهذا هو المشترك العجلي الصادر من تحريف مفهوم الإنسان من حر وكريم إلى عبد وذليل بتحريف الرمزين رمز شرط قيامه المادي (حرية الملكية) وشرط رمز قيامه الروحي (حرية الإرادة). فلا يمكن تصور المحتاج في التعاقد مساويا لساد الحاجة فيه. فهذه علاقة عدم توازن قوى تلغي حرية المحتاج حتما. ولا يمكن تصور من بيده السلطان الرمزي -الإعلام والملاهي – أن يكون تأثيره الفكري مساويا للمتلقي مهما كان فكره رفيعا لأنه يصبح غارقا في ثقافة قلب الحقائق إلى حد جعل العبودية المطلقة والعامة تسمى حرية والتبعية المطلقة والعامة تسمى كرامة: تحريف الإنسانية عامة بسلطان أصحاب العجل. وتلك هي البنية العميقة للانثروبوقراطيا بوصف حقيقتها هي دين العجل معدنه وخواره. وأعتقد أن ذلك ليس عسير الفهم. العسير فعلا هو بيان أن الثيوقراطيا أيضا بنيتها العميقة هي دين العجل معدنه وخواره بتحريف ما به يكون الإله إلها خالقا وآمرا مثل تحريف ما به يكون الإنسان إنسانا حرا وكريما. لذلك فلا بد من استطراد يمكن من الوصل بين التحريفين تحريف الألوهية وتحريف الإنسانية وعلاقتهما القرآنية التي هي علاقة خليفة بمستخلف وليست علاقة ذاتين متمانعتين كما يحصل في الانثروبوقراطيا والثيوقراطيا. وهو استطراد ضروري لبيان التوازي بين التحريفين رغم عسره هو بدوره. فلو عدنا إلى تحريف مفهوم الإنسان في الانثروبوقراطيا لوجدنا أن أساس السلطتين بالرمزين تعتمدان على علاقة تحريفهما بما في الإنسان من عضوي يكون رد الإنسان إليه حصرا لوجوده في الحيوانية: ما سميته بفن المائدة وبفن السرير كناية عن الغذاء والجنس. إنهما شرط دين العجل معدنا وخوارا. فبالسلطان عليهما وبما يحركانه في الإنسان المردود إلى الحيوان أو المخلد إلى الارض ذي اللهيث الكلبي يحكم نظام الانثروبوقراطيا من خلال التحكم في الفعلي والخيالي من فني المائدة والسرير. فتكون الركيزة الأساسية لهذا النظام في الدنيا هي تجارة الغذاء والجنس الفعلية والخيالية. ولا يمكن تصور هذه التجارة الفعلية والجنسية من دون ما يصحبهما من دواعي الصراع والعنف لسد الحاجتين ما يقتضي أن تفرض عليهما “الندرة” في وسائل الوصول إليهما ليكون الفعلي (في الاقتصاد) مجرورا بالخيالي (في الثقافة). وبذلك نجد الصراع والعنف المادي والرمزي معهما في الثقافة والاقتصاد. لكن ليت الأمر يقف عند هذا الحد. فلا بد لأصحاب هذا السلطان -سلطان رمز الفعل وفعل الرمز-من أن تكون اجهزة السلطة السياسية أو أدوات الشوكة والشرعية فيها معتمدتين على الفنين: فالغذاء والجنس هما أهم أدوات المخابرات والإعلام في الانثروبوقراطيا فضلا في السلطة السياسية الجامعة. وهي جامعة بين سلطة الوسائل الفعلية والخيالية أي الاقتصاد والثقافة. والمثال الأوضح في ذلك هو الثقافة الأمريكية في الأعلام وخاصة في الملاهي. فلا يوجد سينما أمريكية (ومعها كل الفنون وخاصة الادب) من دون خمسة أغراض: فنا المائدة والجنس والعنفان المادي والرمزي والاصل حكم موجودهما بمنشودهما. وحكم الموجود في الفنين وفي العنفين بمنشودها هو جعل الإنسان يعيش في الافتراضي أكثر من عيشه في الفعلي وبالعيش في الافتراضي يمكن أن يتخيل نفسه ذا إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود كلها تتخيل الإطلاق فيها ممكنا وهو معنى إيهام الإنسان بأنه إله رغم كونه بالفعل فقد الحرية والكرامة. حتى لا أطيل في الكلام على الوساطة والوصاية في الثيوقراطيا لا بد أن يكون لأصحابها نفس وسائل الاستغلال والاستظلام بتوثين الله وإلغاء الإنسان مثلما أن الانثروبوقراطيا وثنت الإنسان وألغت الله. والسر هو أن الثيوقراطيا يجعلون الأخرى من جنس ما جعلت الانثروبوقراطيا الدنيا. فيقلبون كل معاني الرموز الأخروية بمجرد قيسها على معانيها الدنيوية: فن المائدة وفن الجنس في الآخرة يفهم على أنه من جنس فن المائدة وفن الجنس في الدنيا فيستعملونهما لخلق عالم افتراضي وكأنه معلوم الدلالة في حين أنه في القرآن مجهولها لأنها من الغيب: لا عين رأت ولا أذن سمعت إلخ… ومن قرأ كتاب المحاسبي -التوهم-يفهم القصد.. فالثيوقراطيا توثن الله والغيب وتنفي الإنسان الانثروبوقراطيا الإنسان والشهادة ونفيها لله. ويكفي لأثبات ذلك أنها جعلت الجنة يقاس ما فيها من فني المائدة والسرير على ما في الدنيا. ولو صح ذلك لقيست جهنم مثلها والتعذيب فيها مستحيل بنفس القياس. ذلك أن شرط الخلود في النار التي لا مثيل لها بقاء ما تبدل جلوده من الإنسان المعذب وهذا يعني أن الامر مستحيل بالقياس للإنسان في الدنيا. وكل ذلك لأن الثيولوجيا بحاجة إلى نفس المخيال الافتراضي الذي تستعمله الانثروبولوجيا. لكننا لا نعلم معنى الفنين في الدنيا فضلا عنه في الآخرة. ولو أجزت لنفس المغامرة لتحديد المعنى فرضيا لقلت إن فن المائدة وفن السرير في الدنيا أولا هما علاقة الكائن الإنسان بالطبيعة والتاريخ. ففن المائدة هو فن رضاعة الإنسان الدائمة من الأرض أما له. فن السرير هو فن رضاعة الحياة من الإنسان جسرا يصل الطبيعة بالحياة: الشوقان دافع الجسر. ومن ثم فالشوقان يعبران عن حاجة الكيان ووظيفته في الوصل بين الطبيعة والحياة شرطا لبقاء النوع الذي هو شرط التاريخ ومبدعاته الحضارية التي هي تعبير عن روح الإنسان. فلو نقلنا ذلك إلى مثال التاريخ الأعلى لكانت معنى الفنين عكس معناهما الدنيوي: اشباع مطلق في طبيعة وتاريخ بلا مكان وزمان. فيكون عدم النقص فيهما مغنيا عن الانشغال بهما ومن ثم حصول النعيم التي يرمز إليها معنى رؤية وجه لله. ويكون العذاب الحرمان من رؤية وجه الله. كلاهما يمكن أن يكونا خلودا الأول في النعيم والثاني في الجحيم. والغيب المطلق دلالة هذه العاني هو “نعيم رؤية وجه الله” و”جحيم عدم رؤية وجهه”. وطلب الخلود في النعيم أو رؤية وجه الله وعدمه خلود في الجحيم وهو الرد أسفل سافلين وكلاهما ثمرة امتطاء الدنيا استعمارا لها بقيم الاستخلاف أو بعدمها. فتكون رؤية وجه الله هي المعرفة التامة للحقيقة والخير والجمال والحرية والجلال. والله أعلم. وقد يتصور المتزمتون أني بذلك أنفي الحور العين في الجنة والنار والسلاسل في جهنم. لا أدعي علما بالغيب فأثبت أو أنفي شيئا بل القرآن هو الذي يقول إن غاية الجزاء الموجب هو رية الله وغاية الجزاء السالب هو الحرمان من هذه الرؤية. وهو الذي يقول إن الفنين لا يقاسان على ما في الدنيا. وإذن فلست أنفي أو أثبت شيئا محددا بل أقول إن الفنين فن المائدة وفن السرير في الأخرى وما ناظرهما من عذاب لا يقاسان على ما في الدنيا لأنهما مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر. وجهنم مناظرة سلبا للجنة. فيكون الحرمان من الفنين جوهره لو كان جوهر الجنة هو الفنين. وأعني أن رؤية وجه الله تناظر الحرمان من رؤيته الأولى جزاء موجبا والثانية جزاء سالبا وبهذا التناظر العكسي ينبغي أن يكون ما يناظر الجزاء الذي دون رؤية وجه الله في الجنة أي الفنين هو الحرمان منهما. فيكون المعنى وجود بعدي الإنسان الكيانين هما الجزاء الموجب وعدمهما هو الجزاء السالب.