لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالزوجية بمنطق الرحمان لعدم التمانع مع الانسان
وحدة المتناقضين مصدرها توثين مفهوم الإله ومفهوم الإنسان في وحدة البنية العميقة للثيوقراطيا والانثروبوقراطيا وكلتاهما تظهر بغير ما تبطن: وثن الإله لإلغاء الإنسان ووثن الإنسان لإلغاء وثن الله لكن الله والإنسان الحقيقيان لا يتلاغيان لأنهما خارج مفهوم التمانع بعلاقة الاستخلاف. فالوساطة والوصاية كلتاهما تحتاج إلى العنف الأولى في التربية والثانية في الحكم وجهي سياسة منع الحرية الروحية والحرية السياسية إما بتوثين الله لإلغاء دور الإنسان أو بتوثين الإنسان لالغاء دور الله. وإلغاء الدورين علته الشرك بالخلط بين الدورين: تأليه الإنسان أو تأنيس الله. وهذا الشرك الخالط بين طبيعة الإلهي وطبيعة الإنسان يحصلان في الثيوقراطيا وفي الانثروبوقراطيا معا وهما وجهان لنفس العملة التي هي اساس المنطق الجدلي والعنف الضروري أو الصراع الضروري بين المفهومين وما ينبى عليهما من رؤية للوجودي دينية وفلسفية أساس الصراع بين الطاغوتين. ولهذه العلة فالحرية الروحية التي من ثمراتها جعل الدين اختيارا حرا لا أكراه فيه وعلامة متبين الرشد من الغي هي أن يكون الكفر بالطاغوت ملازما للإيمان بالله. والطاغوت هو تأله الإنسان الوسيط والوصي نفسيهما وتأنيس الله من قبلهما بمعنى أنهما يتعاملان معه بمعايير ذواتهم التي تدعي التأله. وهذا هو المشترك بين الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا أو دين العجل لأن معدنه هو رمز الفعل (العملة) وخواره في فعل الرمز (الكلمة) اللتين تتحولان إلى أداتي تأله الوصي وتأله الوسيط لكن تأله الثاني هو عبادة للأول الذي يعبد نفسه هواه ودنياه لينال حظه من الهوى والدنيا بالتبعية للمستبد المتأله. لكن الوسيط والوصي المتألهين في الثيوقراطيا بينان وهما في الانثروبوقرطيا خفيان: الفرق هو بين مافية ظاهرة ومافية باطنة. من يتوهم أن الأنظمة الانثروبوقراطية أو التي تدعي الديموقراطية ظاهرها ليس وراءه وسطاء وأوصياء لم يدرس الديموقراطية الحديثة ولم يفهم رأي افلاطون في القديمة. فعند أفلاطون الديموقراطية هي أدنى النظم سلامة فلسفيا لأنها اساس الاستبداد والفساد الذي يتسند إلى حكم نزوات الدهماء وهواهم وهنا المستبد الظاهر أساسه سلطان هوى العامة ودنياهم الظاهرين والعكس في الديموقراطية الحديثة المستبد الخفي أساسه سلطان هوى الخاصة ودنياهم الخفيين. والثيوقراطية مثلها مثل الانثروبوقراطية (وهو معنى الديموقراطية القديمة والحديثة كما وصفت) لا تختلفان إلا بالبنية السطحية لكن بنيتهما العميقة واحدة وهي تأليه الإنسان وتأنس الله في آن بتحريف المفهومين فيصبحان مفهوما واحدا يجمع بين المتناقضين وينتج عنه ضرورة منطق الصراع الجدلي. ولا يكون التوحيد بينهما إلا في البنية العميقة التي تجعل هي في ظاهرها تمانع بين الله والإنسان إما الله أو الإنسان لكأنهما من مستوى واحد مثلما يصبحان عليه بعد التوثين في حين أنهما في باطنهما شيء واحد هو العجل بمعدنه وخواره أو بأداة العبودية المادية (العملة) وأداتها الروحية (الكلمة). توثين الله وتوثين الإنسان هما سر عبادة العجل بل هما هي ومن ثم فالمنطق الجدلي في علاقة الإنسان العمودية بالطبيعة وفي علاقته الافقية بالتاريخ تصبح علاقة صراع في الطبيعة وفي التاريخ أي بين الطبيعي في الإنسان المظروف والطبيعة الظارفة التاريخي في الإنسان المظروف والتاريخ الظارف. وبذلك نفهم نظرية التاريخ الطبيعي التي يفسر تطورها بالصراع والبقاء للأقوى الذي يظن الأصلح وقيس نظرية التاريخ الإنساني نفس المنطق وهو كله من ظاهر الفهم الديني والفلسفي لحقيقة الوجود التي لا يعلمها أحد علما محيطا بل كل ما نعمله هو أن هذين الفهمين علتهما وهم العلم المطابق أو المحيط. قد يصعب على القارئ الذي يرفض الصبر على متابعة الاستدلال الطويل كثير المقدمات ومتشابكها ومتشاجنها لكن ما باليد حيلة. فلا يمكن الكشف عن الداء العضال الذي يسعى الديني والفلسفي لعلاج علله التي توجد في بناه العميقة وعدم الاقتصار على أعراضه التي توجد في بناه السطحية. وإذا لم نغص إلى أعماق العلل وبقينا نتكلم على الاعراض فسنقع في رمل الفتنة الصغرى المتحرك مثلما وقعنا في رمل الفتنة الكبرى المتحرك بل أكثر من ذلك فنحن الآن واقفون رمل الحلف المتحرك بينهما على الإسلام الذي هو أول محاولة لتفكيك تجارب تحريف الفلسفي والديني وآثارها في تاريخ الإنسان. وبعبارة أوضح لن نتمكن من الاستئناف بالعودة إلى الحريتين الروحية والسياسية اللتين أسس عليهما الإسلام دستوريه المعرفي والسياسي أساسين للتربية والحكم المحافظين على معاني الإنسانية ثورة على عكسهما الذي كان مفسدا لمعاني الإنسانية. وما كان المسلمون الاول ينتصرون بتلك السرعة من ذلك. فشعار الفتح كان “جئنا لنحرركم من عبادة العباد ودعوتهم لعبادة رب العباد”. ففيها كلام على البينة السطحية للتربية والحكم في الحضارتين اللتين هزمهما المسلمون أعني حضارة فارس وحضارة بيزنطة وفهم للبنية العميقة التي كانت بنيتهما الواحدة أي عبادة العباد المتألهين بتوثين الله والإنسان. وقلنا إن توثين الله والإنسان هما جوهر دين العجل أو استعمال معدن العجل للعبودية السياسية باقتصاد الاستغلال وخواره للعبودية الروحية بثقافة الخداع وهو ما جاء الإسلام لتحرير الإنسانية منهما. لكن المدة التي بقي المسلمون فيها على هذه الرؤية سرعان ما ختمت بسبب ما أحدثته الفتنة الكبرى. فسرعان ما انتقلت الأمة من الحرية الروحية والحرية السياسية وهما دستورا الإسلام في التربية والحكم إلى تعطيل هذا الدستور بالكلية عند الشيعة والعودة إلى الوساطة والوصاية ثيوقراطيا والنسبية عند السنة بالعودة إلى الانثروبوقراطيا بسلطة المتغلب بالشوكة وليس بالشرعية الدينية. ما يعني أن السنة كانت ولا تزال قائلة بالانثروبوقرطية في الافعال مع المحافظة في الاقوال على أن شرعيتها ليست مباشرة بل هي شرعية المحظور التي تبيحه الضرورة بخلاف الشيعة الذين يعتبرون الوساطة والوصاية حقا إلهيا للوسطاء في التربية والأوصياء في الحكم. ولما كان همي في هذه البحوث ليس النظر فحسب- رغم اهميته وخاصة كمنطلق لفهم التراث الاسلامي خاصة والإنساني عامة ليس الديني وحده بل وكذلك الفلسفي-بل هو العمل بشروط الاستئناف الذي يجعلنا في مستوى النشأة الاولى من حيث الكونية والعالمية بصورة تجعل الإسلام مستقبل الإنسانية. ولا يقتضي ذلك انتظار معجزة رسولية لتحقيقه أولا لأننا نؤمن بأن رسالة الإسلام خاتمة ولا يوجد بعدها ما هو من جنسها وأنها هي بدورها لم تتحقق بالمعجزات بل بالعمل الاجتهادي والجهادي في التربية والحكم بالدستورين القرآنين وبأمة من الأحرار الذين لم تفسد فيهم معاني الإنسانية. وما يطمئنني هو أن مثل هذه الثورات لا تحتاج لأن يكون محققوها كثرة بل هم القلة التي تغلب الكثرة كما حدث في النشأة الاول. ولولا ذلك لأخافني وصف ابن خلدون لفساد معاني الإنسانية لأن هذا الوصف يطابق شديد المطابقة غالبية الأمة عامة والغالبية الساحقة من النخب الخمس خاصة. فما يسمونه الإسلام السياسي-وهي تسمية بلايوناسمية فالكلمة الثانية غير ضرورية للكلمة الاولي لان دلالتها من معانيها-ليس شيئا آخر غير إرادة الخروج من حالة الطوارئ التي تلت الفتنة الكبرى وإرادة عدم الوقوع في الفتنة الصغرى برفض الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا فهما لوحدة بنيتهما العميقة. فالإسلام بالجوهر هو سياسة التربية والحكم لتحقيق الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف. والاستعمار في الارض لا بد له من الرمزين (العملة والكلمة) لكنه عندما يكون بقيم الاستخلاف يمنع تحولهما إلى أداتي استعباد ولا يبقي لهما إلى دورهما في التبادل العادل والتواصل الصادق.