**** الرسالة مستويات سردياتها الوجدانية والعقلانية الفصل الثاني
اخترت عمدا كلمة “سرديات” مرادفا للتراجم لعلتين: 1. حتى لا يكون المخاطب مقصورا على المؤمنين بالإسلام لأن القرآن هو نفسه لا يقصر خطابه على المؤمنين به، بل هو يخاطب الإنسان من حيث هو إنسان تاركا له حرية الاجتهاد واختيار دينه بعد تبين الرشد من الغي. المخاطب هو الإنسان عامة. والعلة الثانية قرآنية أيضا وهي: 2. السرد مرادف للقص، والقرآن يستعمل القص، بل إن القصص هو لغته الأساسية بسبب الطابع الدرامي (عرض الأفعال في مشاهد) لخطابه وما ليس منه، يعد شبه “سيناريو” يحلل الخطاب الدرامي الذي يجعل مضمون الخطاب معروضا فعلا مشهديا وليس رواية قولية. ولست غافلا على أن كلمة “سردية” لا تقتصر في الرؤية ما بعد الحداثة على الحد من ادعاء علم الحقيقة، بل تصل إلى التشكيك في وجودها. وهذا المعنى لا يعنيني منه إلا نصفه الأول. فالإنسان لا يحيط بالحقيقة، لكنه لا يستطيع نفي وجودها. والدليل هو طلبها حتى وإن كان يعلم عجزه عن الإحاطة. وهذا المعنى السعي لمعرفة الحقيقة والاعتراف بالعجز دون الإحاطة هو معنى الإيمان بالغيب. فالإيمان بالغيب يعني أن الإنسان لا يحيط بالحقيقة المطلقة، لكنه يعلم ما يكفيه للشاهد من الحياة فلا يكون علمه مجرد سردية أو مجرد ظاهر (بالمعنى الكنطي)، بل هو ما يناسب الإنسان أو الشاهد منهما.
وبعد أن وضحت ما قد يكون موضع إشكال في العنوان، أمر إلى المستوى الثاني أو ترجمة الأمة المستخلفة عامة والأمة الإسلامية بوصفها عينة من الأمة المستخلفة التي قد تحافظ على شروط هذه المنزلة، وقد تتخلى عنها فتقع في ما وقعت فيه من فقدان ولو مؤقت لهذه المنزلة وهو انحطاطها المشهود.
وقبل الكلام على هذه الترجمة، لا بد من التذكير بمعنى الاستخلاف في القرآن، وهو متعدد المستويات والأبعاد: 1. البعد الأول هو المنزلة الوجودية للإنسان من حيث هو إنسان 2. المعنى الثاني هو الأمة التي تحققت فيها أهلية هذه المنزلة 3. (وهي مضمرة) الفرد الحائز على أهلية الاستخلاف. ولولا هذا المضمر، لما سمي الحاكم الشرعي أي الذي اعتبرته الأمة أهلا لأن ينوبها في رعاية شأنها العام تحت رقابتها. فانتخابها إياه أو مبايعته، دليل حكم ضمني بأنه حائز على أهلية الاستخلاف فتستخلفه بالمعنى السياسي للكلمة ومنها اسم الخليفة وهو المعنى الرابع. والمعنى الاخير معياري وهو ما بمقتضاه عرف ابن خلدون الإنسان إيجابا بكونه “رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” وسلبا بكونه من “تفسد فيه معاني الإنسانية ” فيصبح “عالة على غيره” مدينا له برعايته وحمايته. وتلك هي الحال التي يصل إليها الفرد والأمة عندما يصبحان تابعين لغيرهما.
ونشرع الآن في ترجمة الأمة العينة أو قصة المسلمين في القرآن. ورغم أن الغالب على قصة المسلمين في القرآن هو الكلام على المسلمين الذين هم نحن، فإن المعنى العام هو كل أمة قبلنا تحقق فيها ما يقصه القرآن في كلامه علينا. فغاية كل الرسالات واحدة أي “توحيد الإنسانية” بـ”توحيد الخالق والآمر”.
ويحكم هذه الترجمة للمستوى الثاني أو ترجمة الأمة العينة علاقتها بالترجمة للمستوى الاول باعتبار نقل الأمم إلى منزلة الاستخلاف أو بصورة أدق إلى جعل التعمير خاضعا لقيم الاستخلاف-من دونها يكون الإنسان خاضعا للتاريخ الطبيعي بمنطق الصراع الحيواني-هو معنى الاجتهاد والجهاد الرساليين. وهذا العمل هو معنى النقلة من الخسر إلى شروط الاستخلاف في مستوى الفرد وفي مستوى الجماعة كما حددته صورة العصر: فلا بد أولا من الوعي بأن التعمير من دون قيم الاستخلاف تدمير وليس تعميرا، لأنه يجعل الإنسان خاضعا لمنطق الحيوان أو الصراع من أجل حياة دنيوية لا بعد لها.
وبهذا المعنى، فمقدمة ابن خلدون تفسير فلسفي للقرآن الكريم بهدف تحديد سنن التاريخ الإنسان بمقتضى حقيقة الإنسان كما يعرفها القرآن وشروط وجوده الطبيعية وما بعدها والتاريخية وما بعدها في حالتين: 1. عدم تبين الرشد من الغي أو الخسر 2. أو تبين الرشد من الغي أو الاستمساك بالعروة الوثقى.
ولذلك، فالدين في القرآن له وجهان تماما كما هما في الشهادة: لا بد من التحرر من الطاغوت أو الكفر به ليحصل الإيمان بالله. والطاغوت نوعان: • طبيعي • وسياسي. والأول هو عدم تحقيق شروط سد الحاجة بما جهز به الإنسان من علم وعمل. والثاني هو عدم رؤية برهان الرب والشرك أو الخضوع لأرباب الدنيا.