الرسالة، مستويات سردياتها الوجدانية والعقلانية – الفصل الثالث

**** الرسالة مستويات سردياتها الوجدانية والعقلانية الفصل الثالث

وصلنا الآن إلى المستوى الثالث: ترجمة تاريخ الإنسانية الروحي والسياسي. وهذا يعني الكلام في دور الرسالات في التحرير من الطاغوتين، أي من: • طاغوت الطبيعة أو العبودية الطبيعية. • وطاغوت التاريخ أو العبودية السياسية. وهذا هو موضوع سورة هود التي قال عنها الخاتم أنها شيبته مع أخواتها.

سبق فشرحت سورة هود دون تدخل في مضمونها، واكتفيت باكتشاف بنيتها الخفية بما يشبه المصفوفة التي تناظر بين: • الأول والأخير، • ثم بين الثاني من الاول • والثاني من الأخير • ثم بين الثالث من الأول • والثالث من الاخير • فيكون الأوسط بين الثلاثة الأول والثلاثة الأواخر قلب المعادلة التناظرية.

فعندنا في السورة سبعة أنبياء مذكورين بالاسم، وست قضايا مطروحة بالاسم. وفي الوسط، نجد: • ابراهيم • وقبله ثلاثة رسل هم نوح وهود وصالح • وثلاث قضايا • وبعده ثلاثة بالتناظر من الأخير إليه موسى وشعيب ولوط. • ثلاث قضايا وحاضر لم يذكر هو أولا الرسول المذكر والإنسانية كلها باعتبار كونية الرسالة الخاتمة. فلنطب القضايا: لم يتحدد مضمون رسالة نوح. ما تحدد هو ما كلف به نوح بعد عدم نجاح الدعوة: إعادة شروط الحياة بفعل إنساني هو اخذ زوجين اثنين من كل شيء واستنباتهما بعد الطوفان. وهذا لا يحتاج لتأويل: فمعناه تحير الإنسان من سلطان الطبيعة بعد أن تبينت قوته فكان فرصة التحرير منها. والماء في القرآن يعتبره أصل كل شيء حي، وإذن فما تحقق بالطوفان هو القضاء على الموت الروحية التي هي عدم “رؤية برهان الرب”. ورؤية برهان الرب الأساسية هي نقلة الإنسان من كونه مجرد موجود طبيعي إلى موجود طبيعي يدرك ما به يتعالى على طبيعيته ومنها العيش منها دون عمل ومن الوراثة البايولوجية. فالرابطة البايولوجية في هذه الحالة دون الرابطة الروحية في تحديد الإنسان من حيث هو متعال على كونه إنسانا أهلا للاستخلاف. ومن هنا في فالمستوى الأول هو التحرر من سلطان الطبيعة على حياة الإنسان، والتحرر من سلطان البايولوجيا على علاقات البشر بعضهم بالبعض وتقديم رؤية برهان الرب. تلك هي قضية رسالة نوح: فالله أمره بصنع سفينة على عينه. وأمره بأخذ زوجين اثنين من كل شيء. وأخبره أن زوجته وابنه فضلا الطبيعة للنجاة. فتكون السفينة ما ينجي من الطبيعة. والمقابلة إذن هي بين الإنسان الطبيعي والإنسان المتحرر مما يحول دون تعاليه على الطبيعة عامة بما فطر عليه من تعال. وما فطر عليه من تعال هو مضمون التذكير في الرسالة، اي رسالة رغم أن رسالة نوح لم يتحدد مضمونها على التعيين بل اقتصر على “رؤية برهان الرب” أي على ما في طبيعة الإنسان من تعال على الطبيعة عامة. وهذا في الإنسان هو الإسلام الفطري الذي من حيث هو نظام قيم: السفينة شريعة معرفية وقيمية.

القضية في رسالة نوح هي: شروط نجاة الإنسان مبنية على علاج علاقة الإنسان بالطبيعة أو العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة لتعمير الارض (قوانين الطبيعة وهنا قوانين الزراعة) وعلى علاج علاقة الإنسان بالإنسان أو العلاقة الافقية للاستخلاف (معرفة سنن التاريخ وهنا التحرر من عصبية الدم). والتحرر من عصبية الدم هي شرط وجود الفرد المستقل الذي هو قرآنيا الذات الحاملة للمسؤولية الخلقية والقانونية في العلاقات الجماعية شرط الوجود الإنساني بمستوياته الخمسة التي حددتها سورة يوسف (الحب والاقتصاد والعلم والسياسة وبرهان الرب حلما وعلما): قيام الجماعة بذاتها كأمة خلقية وقانونية. نذهب الآن إلى النظير أي الأول من الآخر أعني موسى. ماذا فعل؟ ما فعله نوح مع الطبيعية لتحرير الإنسان منها فعله موسى مع الدولة الفرعونية لتحرير الإنسان منها. وهذان هما الطاغوتان في القرآن. وللماء في المسألة دور وهو رمز الحياة المحرر من الموت: ثورتان ضد الطبيعة والدولة.

التناظر بين الفعلين (ثورة تحريرية) والتعاكس بين المفعول بهما (طغيان الطبيعة وطغيان الدولة) والفعل في الحالتين رسالة مذكرة بشروط قيام الإنسان ذي الإرادة الحرة والعلم الصادق والقدرة الخيرة والحياة الجميلة والوجود الجليل حتى يكون أهلا للاستخلاف. وسنرى ما يحل بالثورتين من نكوص.

نمر الآن إلى الثاني من الأول والثاني من الأخير. ونبدأ بهود: ما المشكل أو ما القضية؟ طغيان أصحاب المال أو المافية المادية في الجماعة. تحداهم هود دون تحديد المطلوب. فماذا تحدى؟ تحدى الطغيان بالمال. ولنثن بشعيب: ما المشكل؟ التحايل في التبادل المادي علة الصراع الاقتصادي والطبقي.

لو وقفنا عن هذا الحد بالمعنى الوارد في مسألة هود وفي مسألة شعيب، لكان الفهم الماركسي للتاريخ الإنساني كافيا. لكن وصلهما بما تقدم (نوح وموسى) وبما سيتلو (صالح ولوط) سيغير المعادلة تغييرا جذريا وهو ما فرض علي دحض المنطق الجدلي الذي يحط التاريخ الإنساني بجعله من جنس التاريخ الطبيعي. ذلك أن القضيتين الاعم هما قضية صالح ولوط أي أصل الحياة عامة (توزيع الماء الرامز للحياة) وحياة البشر خاصة (المثلية الجنسية). هنا نصل إلى بيت القصيد من كل القصة الإنسانية. ففساد الطبيعة عامة وفساد الطبيعة الإنسانية خاصة كلاهما يتعلق بأصل الحياة (الماء) وبقاء النوع (الجنس). فالثالث من الأول (صالح والماء) والثالث من الأخير (لوط والجنس) يمثلان أزمة الانسانية الاخيرة وهي جوهر الأزمة الحالية، لكنها متجذرة في الأزمة التي يمثلها هود وشعيب بنفس التناظر، ونوح وموسى بنفس التناظر أيضا، ومن ثم، فجمع الأزمات تلتقي في القلب: إبراهيم وعلاجه لها وعودة محمد إليه. لكن ما يتميز به الحل الذي تعين في عودة محمد (الحنيفية المحدثة) هو الذي يحدد ما لم يتحدد في حل إبراهيم: إبراهيم اعتبر ما وراء عبادة الطبيعة (رمزا إليها بالأفول) خلاصا مما يحول دون رؤية برهان الرب، لكن ذلك لم يصحبه حل مشكل نوع، ومشكل موسى، ومشكل هود، ومشكل شعيب، وخاصة مشكل صالح ولوط. فتكون الحنيفية المحدثة أو المحمدية هي تأسيس حلول لكل هذه المشاكل على حل إبراهيم: فيكون حل الرسالة الخاتمة جامعا لعلاج كل المشاكل التي حاولت الرسالات السابقة علاجها فلم تفلح. والحل هو تأسيس وحدة الإنسانية على الوحدانية وهذا هو جوهر مضمون الرسالة الخاتمة: من هنا اسم تفسيري للقرآن. فعنوان “استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية” هدفه بيان ذلك.

ولنعد إلى القصة في سورة هود. لما بشرت الملائكة إبراهيم بابن جديد ضحكت زوجته انطلاقا من العقم الذي وصلت إليه بسبب سنها. وطبعا ما بشرت به ليس اسماعيل ولا اسحق. فاسماعيل ليس ابنها وأسحاق متقدم على عقمها.

البشرى تتعلق بإبراهيم الثاني أو محمد صاحب الرسالة الخاتمة التي ستعالج هذا العقم الناتج عن فشل الرسالات السابقة أو عجزها عن علاج ما قدمنا. وهذا ما وعدت ببيانه عندما تكلمت على نكوص التحررين من الطبيعة (نوح) ومن الدولة (موسى) ليس في ذلك العصر بل منذ نزول القرآن إلى نهاية العالم. فيم تمثل النكوص على ثورتي نوح وموسى؟ لا أحد من المسلمين ينسى ما صنع اليهود بعد موسى لما تركهم مع أخيه. عبدوا صنم عجل من الذهب ذي خوار. هذا هو جوهر النكوص. فالذهب معدن العجل وخوار العجل رمزان لنظام العولمة وهو الحاكم في النظامين السياسيين المعاديين للإسلام أصل الفتنتين. فالنظام الثيوقراطي تدعي فيه مافية دينية الوساطة بين المؤمن وربه والوصاية عليه في حكمة باسم الله مثل الثيوقراطيا الشيعية. والأنثروبوقراطي تدعي فيه مافية ملحدة نفس الشيء باسم “إنسان مختار” مثل الديموقراطية الاسرائيلية. وكلتا المافيتين تحكم بمعدن العجل (المال) وبخواره (الايديولوجيا). ولذلك فبنيتهما العميقة واحدة وهي أساس الثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا: إنها دين العجل أو الأبيسيوقراطيا أو استعباد الإنسان السياسي بالسيطرة على شروط استعباده الطبيعي أي على شروط رعايته وشروط حمايته حتى يصبح عبدا لمافية سواء ادعت المرجعية الدينية أو المرجعية الطبيعية.

الصهيونية والمسيحية الصهيونية كلتاهما تجمع نوعي النظام الثيوقراطي والانثروبوقراطي وهما في الحقيقة تخضعان للنظام الأبيسيوقراطي أي لدين العجل، معدنه هو السيطرة المالية، ورمزها النظام البنكي والبورصة، والسيطرة الإيديولوجية ورمزها الإعلام الموجه والملاهي. رمزهما: إيران وإسرائيل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي