الرسالة، مستويات سردياتها الوجدانية والعقلانية – الفصل الأول

**** الرسالة مستويات سردياتها الوجدانية والعقلانية الفصل الأول

تابعت اجتهاد الدكتور محمد كنفودي حول الوسطية وحول استراتيجية القرآن التوحيدية، اجتهاده المتميز بصفتين نادرتين غوصا ما بين المفهومات والتصورات من وصل شديد اللطافة وإحاطة بمواطنها في جل ما كتبت، فأردت التعبير عن شكري رغم علمي بأن من يطلب المعرفة لذاتها غني عن ذلك لان جزاءه فيها. وأردت بالمناسبة أن أشير إلى أن محاولة القراءة الفلسفية للقرآن الكريم لا تقتصر على الأجزاء الثلاثة المنشورة، بل إن مثلها سينشر قريبا إن شاء الله (3 أجزاء أخرى) فضلا عما توالى من البحوث التي تعتبر مسودات خطاطية نشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن اعتبارها تطبيقات على علوم الملة. وهذه التطبيقات يمكن اعتبارها من حيث الكم وحتى الكيف متجاوزة لما ورد في الأجزاء الثلاثة التي نشرت، وحتى في التي لم تنشر بعد، واعتقد أن الدكتور الكنفودي لم يفته ذلك، لأني شعرت بأن عمق غوصه يفترض اطلاعه عليها، بل هو اضاف إلى ذلك الوصل بين التفسير وأعمالي الأكاديمية في الفلسفة الخالصة. وما أظنه خالي الذهن من كتاب فلسفة الدين الذي هو محاولة لتحديد الرؤية القرآنية للديني عامة ولتكوينية سلسلة الأديان، لأن القرآن ليس عرضا لدين من بين الأديان، بل هو فلسفة الديني من حيث هو ديني في كل الأديان.

وهذا المنطق التكاملي يسميه القرآن الكريم منطق “التصديق والهيمنة”، بمعنى أن الوعي بالتكامل يحرر من السعي لنفي التعدد بطلب الواحد فيه، وهو نظامه الذي ينبغي خلال البحث عنه تصديق ما يتوافق بوصفه ما يحقق الهيمنة على التنافي السطحي، طريقا للتناغم العميق وهو منطق النظام الممسك بالمتنوع. وأريد اليوم في عجالة، الكلام على المستويات الخمسة للنظام الممسك بالتنوع في الرسالة الخاتمة والتي هي لحمة القرآن وسداه: 1. ترجمة حياة الرسول 2. ترجمة حياة الأمة العينة 3. ترجمة الإنسانية 4. ترجمة العالم 5. ترجمة علاقة الله الخالقة والآمرة لكل شيء. والأخيرة هي النظام المطلق وسر الغيب. وترجمة الرسول هي عينة من الاصطفاء. وترجمة الأمة عينة من الاستخلاف. وترجمة الانسانية عينة من العفو والاجتباء. وترجمة العالم عينة من النظام الممسك بالتنوع الوجودي. وترجمة الله عينة من الخلق والأمر اللذين يمثلان جود الإيجاد والتشريع الذي يضفي المعنى على ما تقدم فروعا منه.

وترجمة الرسول تحدد مفهوم الاصطفاء بمعنى من تتوفر فيه بأفضل ما يمكن أهلية الاستخلاف وخاصة الوعي بشروطها والعلم بأنها اجتهادية جهادية أي إنها التعين الفعلي لشروط الاستثناء من الخسر كما تحددها سورة العصر: 1. الوعي بالشروط 2. الإيمان 3. العمل الصالح 4. التواصي بالحق 5. التواصي بالصبر

فتكون حياة الرسول الخاتم النموذج المطلق لمعنى الفرد الإنساني المدرك لشروط الاستخلاف أو لشروط الاستثناء من الخسر التي وصفت والتي هي ما لأجله اعطي آدم الفرصة الثانية ليثبت أهليته للاستخلاف وقد جهز بما يجعله مسؤولا: 1. حرية الإرادة 2. صدق العلم 3. خير القدرة 4. جمال الحياة 5. جلال الوجود ولا يوجد خلاف بين المسلمين، وحتى بين غيرهم من البشر ما تحرروا من التعصب، بأن هذه المقومات الخمسة هي فضائل الرسول الخاتم. فكل أحداث حياته تبين أن: • إرادته حرة • وأن علمه صادق • وأن قدرته خيرة • وأن حياته جميلة • وأن وجوده جليل بل إن الأمة تعتبره نموذجا للإنسان لتعين الفضائل فيه وفي حياته. وهذه الفضائل هي ما وصفته ام المؤمنين بأخلاق القرآن.

وقد تعينت فيه بمستويات منها تستمد كل علوم الملة نموذجها: 1. الفقهي 2. والصوفي 3. والكلامي 4. والفلسفي 5. وما فيها جميعا من وصل بين مهمتي الإنسان في الوجود: أي مستعمر في الأرض ومستخلف فيها بأخلاق القرآن (يعمرها بقيم الاستخلاف).

وكل من لا يبدأ قراءة القرآن من هذا المنطلق، قد يعجب من قصه لحياة الرسول ولمراحل “معاناته” الروحية بوصفها تجربة وجودية جامعة بين الروحي والعقلي، ما يعني أن الرسالة الخاتمة اصطفى الله لها نموذج الكمال الممكن الجامع بين الوجداني والعقلاني وبين شروط التاريخ وما بعديه المعرفي والقيمي.

فالفصل بين الوجداني والعقلاني أصل كل تحريف، فهو يجعل الديني منفصلا عن الفلسفي فيمثلجه بجعله بعدا بلا دون، ويجعل الفلسفي منفصلا عن الديني فيمدده بجعله دونا بلا بعد. والإسلام بجمعه بين الما دون (الدنيا) والما بعد (الآخرة) يحرر الديني والفلسفي من البتر فيعيد لكل منهما ما سلب منه. فعندما نزيل المثلجة ونعوضها بالتاريخ الإنساني، وعندما نزيل التمديد ونعوضه بالوجدان الإنساني، نكتشف أن الإنسان كائن وجداني وعقلاني، وأن تحقق الرسالة مشروط بمهمتي الإنسان كما وصفهما القرآن الكريم: 1. مستعمر في الأرض ومجهز بالشروط المعرفية. 2. ومستخلف فيها ومجهز بالشروط القيمية. فيكون الامر في القرآن متعلقا بثورتين: 1. معرفية (ابستمولوجية) تفعل التجهيز العقلي لتعمير الارض بالعلم والعمل على علم 2. وقيمية (أكسيولوجية) تفعل التجهيز الوجداني لتعميرها بأخلاق القرآن التي هي حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود (منزلة الإنسان الوجودية).

وبذلك، فلا يمكن ألا تكون الرسالة الخاتمة مشروعا ذا استراتيجية سياسية ببعدي السياسة: 1. التربية التي تفعل التجهيزين العقلاني للتعمير والوجداني للاستخلاف. 2. والحكم الذي يسهر على وجود الجماعة المستخلفة لتحقيق شروط الرعاية تكوينا وتموينا وشروط الحماية الداخلية والخارجية. والجميل في ترجمة الرسول ليس هذا فحسب، بل هي ترجمة تتضمن قص حيوات الرسل السابقين بردها إلى هذا النموذج: أي رسالة وظيفتها التذكير بالمهمتين (التعمير والاستخلاف) من حيث هما عين التكليف الذي بمقتضاه يقاضى الإنسان يوم الدين لتحديد مدى اهليته للاستخلاف واستفادته من الفرصة الثانية.

والقصد بالفرصة الثانية هي ما مكن منه آدم بعد أن تلقى كلمات فأتمهن وعفا عنه ربه وقبل امتحانه في حياته الدنيا بعد فشله في حياته في الجنة. وهذه القصة الرمزية هدفها الانتقال من المنحة في الفرصة الأولى الاستحقاق في الفرصة الثانية: فمن ينجح في اختبار الأهلية لمنزلة الاستخلاف الوجودية؟

فكون الله اعتبر آدم أهلا لأن يسجد كل الملائكة منزلة وجودية هي أهلية الاستخلاف. لكن لا شيء يثبت أن آدم أهل لهذه المنزلة عدا المنحة الإلهية وهي فلسفيا جعله حرا يمكن أن يخطئ ويصيب وان يعصي ويطيع. ولا يكون آدم مستأهلا للمنحة إذا لم يختبر بالسعي إليه سعيا حرا بإطلاق بامتطاء الدنيا.

وهذا هو الفرق الجوهري بين الرؤية القرآنية والرؤية المسيحية التي ينزه القرآن المسيح منها وينسبها إلى التحريف. فالإنسان في القرآن لا يرث خطيئة، بل هو تاب فعفا عنه ربه والإنسان لا يجازى منحة وبتوسط شفيع -المسيح-بل يجازى على عمله ليس بظاهرة بل بما يصحبه من القيم المقومة الخمسة. يقاضى الإنسان بمقتضى مطابقة عمله لقيمه: 1. حرية إرادته 2. صدق علمه 3. خير قدرته 4. جمال حياته 5. جلال وجوده. وجمعا لهذه القيم عرف ابن خلدون الإنسان بالمنظور القرآن فقال: “الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”. ومن ثم فمن دون هذه القيم تفسد فيه معاني الإنسانية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي