لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالرسالة الخاتمة
وهذا هو الفصل السادس والاخير من الكلام في استراتيجية الرسالة الخاتمة وكان محله الخامس لو تمكنت من علاج المسألة الخامسة في الرابع كما كنت اتوقع. فختما لمسألة الكلام الجديد أعيد القول إنه لا جديد فيه إلا لجاهل بالفلسفة الغربية وخالع لأبواب مخلوعة.
واعيد القول بالنسبة إلى الخصوصية الفلسفية لكل أمة بان القول بها إيديولوجي وليس فلسفيا إذا لم يكن دور بعض مفكريها في الفلسفي الكوني الذي هو مثل العلوم والفنون تراث إنساني مشترك تعد الحضارات المختلفة جداول في نهر الإبداع الإنساني الكوني. الخصوصية تتعلق بالعضو وليس بالوظيفة.
والعضو في الإبداع العلمي والفني وما بعدهما الفلسفي والديني هو أسلوب الإبداع والتأسيس المابعدي أما الوظيفي فهو دور هذا الإبداع في علاج غايات الذوق الإنساني وفي أدواته لتحقيق شروط مقامه في الوجود المادي والرمزي. ولما كانت الغايات مشتركة بين البشر كان إبداع أدواتها مشتركا بتدرج.
أي إن الحضارات المتساوقة والمتوالية اشتركت في الوعي بالغايات الذوقية وفي العمل على إبداع الأدوات المعرفية والقدرة على إبداعها فيه شيء من الثقافي بسبب دور التربية والحكم في تبادل المعرفة الفنية والعلمية لكنها تتأسس على شروط طبيعية في كيان الإنسان العضوي والروحي هي بالجوهر كونية.
الأمر الوحيد الذي اقره هو أن الحضارات التي كانت كونية في لحظة ازدهارها يمكن أن تعتبر قد حققت مرحلة تطابق فيها الكوني والخصوصي بسبب سيطرة ما هو خصوصي عندها على تعينات الكوني في العلم والفن فصارت ممثلة لهما في تلك اللحظة دون أن يكون تمثيلها لهما العرضي فيها.
ولأضرب مثالين في المعرفة العلمية ومثالين فيما يسميه ابن خلدون بـ”منحى العيش”. ففي المعرفة العلمانية بات مسلما به أن الحضارة اليونانية هي التي مثلت شكلها الكوني الأول. وأن الحضارة الإسلامية هي التي مثلت شكلها الكوني الثاني والأوروبية الوسيطة شكلها الثالث والغرب الحديث شكلها الرابع.
والشكل التام هو تكامل هذه الأشكال الأربعة التي لا تخلو منها فلسفة وعلم اليوم. وبهذا المعنى يمكن القول إن إضافة حضارة للزاد الحضاري الإنساني خصوصي وكوني في آن أي إن تلك الحضارة تميزت بإبداع ما أدركت نقصانه في إبداع من تقدم عليها فجعلته مادة لفكرها فكان موضوع نقدها التجاوزي.
وتلك علة تركيزي على المدرسة النقدية في فكرنا. لكن الاشكال كلها كلية Universal بوصفها مقومات الكلي الفلسفي والعلمي. وقس عليه الكلي في الأديان وفي الفنون وفي كل ما هو كلي من الحضارة الإنسانية بعناصر تقومه وبكيانه ككل. فالخصوصي هو التعين العضوي للوظيفة الكلية في الحياة الإنسانية.
وهذا هو معنى الختم في القرآن: فعندما يعتبر الإسلام تعدد الشعوب والقبائل (خاصية انثروبولوجية) دالة على الخصوصيات التي تتعارف أردفها بالكلي الذي تقاس بها في التفاضل وهو التقوى أي المعيار الكلي لتقييم الإنسانية فيكون تاريخ الإنسانية هو مراحل الترقي نحو الكلي والوعي به في كل خصوصية.
لكن الخصوصيات المسهمة في الكلية بوصفها إحدى مراحل الوعي بمقوم لم يصبح واعيا بنفسه ليست مستقلة بعضها عن البعض بل هي حصيلة ما تقدم عليها فعليا وما تأخر عنها ضمنيا فتكون كل حضارة ليست خصوصية إلّا بأسلوبها وأدواتها وليس بوظيفتها وغايات ذوقها وأدوات معرفتها.
وقد بينت من خلال تحليل سورة هود كيف أن الإنسان يمر بخمس مراحل لم تذكر منها إلا ثلاثا مرتين في أولاهما وردت في شكل لغز عبر عنه نوح وهود وصالح والثانية في شكل حل للغز عبر عنه لوط وشعيب وموسى والوسط بين المرتين هو إبراهيم الذي يمثل نموذج الحل المحمدي الكوني.
فمشكل التحرر الطبيعي (نوح: الطوفان) ومن سلطان الطبقة الاقتصادية (هود: سلطان الاقتصاد) ومن مشكل الماء (صالح: أساس الحياة الاول ) ومشكل الجنس (لوط: اساس الحياة الثاني) ووحدة المشاكل نوح هود وصالح في حل شعيب (شروط التبادل والتعاوض العادل في الجماعة) ينتهي إلى التحرر السياسي (موسى).
هذه المشاكل الثلاثة جمعت في أصلها جميعا بحل إبراهيم التحرر من عبادة الطبيعة في شكلها الأتم أي عبادة الفلك إلى التحرر من غايتها الأم بحل محمد أي التحرر من عبادة الدولة في شكلها الأتم أي الثيوقراطية. فكانت الثورة الإسلامية مبنية على حريتين: روحية من الوسطاء وسياسية من الأوصياء.
وبهذا المعنى فالتشيع هو النقيض التام للثورة الإسلامية: ففيه نكوص إلى سلطان الوسطاء روحيا ونكوص إلى سلطان الأوصياء سياسيا. وهما نقيض الحرية الروحية (لا وساطة بين المؤمن وربه) والحرية السياسية (لا وصي على الأمة بل هي التي تختار من تنوبه في الحكم ليقوم بما يرد إلى فرض الكفاية فيه).
وهذا الرأي ليس لي وحدي فهو ما يجمع عليه كبار المدرسة النقدية الذين اعتمد عليهم أعني الغزالي (فضائح الباطنية) وابن تيمية (منهج السنة) وابن خلدون (المقدمة وشفاء السائل). ومن ثم فكل الذين يتكلمون على علم الكلام وعلى الاستقلال الفلسفي يعارضون الكونية المقومة لخطاب الرسالة الخاتمة.
ولأكتفي بخصائص هذا الخطاب لأن كلامي في المسألة ليس دينيا بل قدمت على هذه النتيجة عملية دحض نسقية للقول بالكلام عامة قديمه وجديده وبالخصوصية عامة ما بعد حديثها في الغرب ومقلديهم لدينا ممن يدعون التجديد في ما تقدم عليهم بقرنين: أي منذ نشأة المثالية الألمانية.
فما يسمى بمابعد الحداثة نسخة منحطة من المثالية الألمانية تنفي الكونية لأنها ردت الكلي الإنساني وما يترتب عليه إلى الثقافي ونفت ما فيه من مقومات مشتركة في كيانه الحي ذوقيا ومعرفيا لكأن الذوق والمعرفة العلمية والفنية لا توجد في كيان الإنسان ولا دور هلا في تكوينية ثقافته.
هم يأخذون بالهيجلية التي تجعل الروحي والرمزي غاية كونية دون القبول بتمييزه بين المسار الذي هو خصوصي عينيا وبالفعل وكلي رمزيا وبالقوة. ولعلهم يميلون إلى قراءة داروينية لتكوينية الحضارات ردا للوظائف إلى الأعضاء. والداروينية لم تستطع أثبات تطور كلي الوظائف وإن اثبت تطور الأعضاء.
وهي إذن مضطرة لحصر الخصوصية والتطور في الأعضاء دون الوظائف التي هي كلية في الإحيائيات من أدنى أشكالها إلى أسماها. وقياسا مضادا يمكن القول إن الحضارات كلها لها نفس الوظائف حتى وأن تمثل تطورها وتنوعها وخصوصياتها في أعضائها وأدائها الوظيفي وليس في الوظائف.
وهذه الحقائق ترجحها القراءة النقدية لفكر ما بعد الحداثة مع تجاوز الكلية بمعناها في الفلسفة القائلة بنظرية المطابقة في المعرفة والاكتفاء بقول بكلية “المشترك بين الذوات”Intersubjective أي الكلي الحضاري علما وفنا ودينا وفلسفة المعبرة عن مشتركهم العضوي والروحي.
وبذلك اكون قد تداركت ما كان سيكون موضوع الفصل الخامس. فحددت طبيعة الخطاب الذي يتضمنه القرآن والذي اعتبرته استراتيجية توحيد الإنسانية نظريا وخطة تحقيق عينة من هذه الوحدة في دولة الإسلام التي تعتبر ثورتاها مبينة على التعدد في كل المجالات شرط التسابق في الخيرات.