الرسالة الخاتمة، استراتيجية خطابها وأساسيها الذوقي والمعرفي – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الرسالة الخاتمة

أخصص الفصل الرابع من الرسالة الخاتمة لإبداء بعض الملاحظات حول ما يسمى بعلم الكلام الجديد والقراءات الفلسفية للتراث من أجل ما يسمونه بالاستقلال الفلسفي. وهما اسمان محيران فعلا: لأني لم أر جديدا في علم الكلام ولا أفهم معنى الاستقلال الفلسفي إذا لم يكن إبداعا في الفلسفة الكونية.

علم الكلام الجديد، إن صح أن نستعمل هذا المفهوم، لم ينتظر القرن العشرين فضلا عن الحادي والعشرين ليوجد. فهو في الغرب ملازم للفلسفة الحديثة نشأة وتشكلا بل هو من بعض إشكالياتها بعد أن تجاوز الفكر الحديث خرافة التنافي بين الدين والفلسفة عند مؤسسي الحداثة الفلسفية من ديكارت فنازلا.

فإذا كان مؤرخو الفلسفة الحديثة قد اجمعوا على أنه هو المؤسس دون منازع (ديكارت) قد حسم في الامر بصورة تجعل تأسيس الفكر نفسه وخاصة العلمي والرياضي مستندا إلى موقف من المسالة الدينية جعل قلب إشكالياتها (مفهوم الالوهية) أساسا لها وضمانة لحقيقتها فطبيعة العلاقة لم تعد تنافسا عن السلطة.

وإذا كان جوهر الإشكالية الفلسفية في الفلسفة النقدية ذاتها وفي الجدل الذي نشأت فيه مداره تأسيس علم الطبيعة وأخلاق الإنسان مدارهما تجاوز إشكالية وحدة الوجود السبينوزية وإذا كان جوهر فلسفة الدين وفلسفية الفلسفة الأوليين (هيجل)مدارها هذه العلاقة فلست أدري ما القصد بجدة علم الكلام؟

وعندي أن علم الكلام الجديد هو محاولات الشباب الهيجلي في النصف الاول من القرن التاسع عشر ومحاولات تجاوزهم الماركسي ماديا وكيركوجارد روحيا. فكلتا المدرستين علم كلام إما من منطلق التجربة السياسية الاجتماعية يدعي له صاحبه العلمية بالمعنى الوضعي للكلمة أو منطلق الدينية الروحية

وظل الأمر على ما هو عليه بعد أن أصبحت الفلسفة منفصلة عن التأسيس الذي يدعي الانطلاق من العلم وصارت متأسسة على التجربة الروحية إما بالأسلوب النيتشوي أو بالأسلوب الهايدجري. وكل هذه المحاولات كانت إما قراءة مضادة للمسيحية أو قراءة مجددة لها.

فنيتشه مسيحية مضادة وهيدجر طوماوية مجددة والمدار فيها جميعا مبني على رؤية مسيحية لا بد فيها من إنسان إله رمزا للمسيح نفسه أو طلبا للإلهي في الإنسان سواء كان ما فوق الإنسان العادي (نيتشه) أو دازاين ناطق باسم الوجود(هيدجر).

كيف لمن لا صلة بهم بكل هذا دعوى تجديد الكلام؟

هل المقصود بعلم الكلام الجديد عند أصحابه من نخبنا يعني أنهم يمسحون الإسلام عملا بتعريف هيدجر للحداثة بمصفوفة أحد عناصرها هو تسميح المسيحية (في مؤلفه: العالم كصورة)؟

لكن هذا الموقف ليس جديدا إلا بمعنى مستورد جديد. فهو لم ولن يتجاوز شباب الهيجلية ردا لفلسفة الدين إلى فلسفة التاريخ.

وكلنا يعلم أن هذا التيار الفكري لم يحرر الإنسان لا روحيا ولا سياسيا بل هو أسس للفاشيات كلها روحيا وسياسيا. وقد أفهم أن يميل مفكر شيعي لهذا الحل لأن نظرية الإمامة فيها شيء من تمسيح الإسلام لأن للإمام وظيفتين أولاهما مجانسة للكنسية الروحية والثانية مجانسة للحكم بالحق الإلهي.

وحينئذ فهو ليس علم كلام جديد بل هو أدنى أشكال علم الكلام في عصر انحطاط المسيحية ومحاولات تجاوزها الفلسفية من منطلقين: الاول تعليم الفلسفة والعلوم الحديثة والثاني تجاوز المقابلة بين الكلام والفلسفة لأن الدين أصبح من أهل مباحثها بل هو صار شرطا في تأسيس الابستمولوجيا والاسكيولوجيا.

صحيح أن البعض يدعي أن فلسفة كنط علمانية وأنها لا تؤسس الأخلاق على الدين. لكن دعواهم ساذجة: فما كان كنط ليميز بين النومان والفينومان تأسيسا للعلم على الثاني والعمل على الأول لو لم يكن بحاجة إلى مسلماته الثلاث: وجود الله وحرية الإنسان وخلود النفس.

فتكون مسلماته أساسا للتمييز بين علم الضرورة وعلم الحرية ومن ثم فهي أساس ابستمولوجيته وأصناف نقده للعقل المحض ولاستعماله العملي ولنقد الحكم. وفيه وحتى في كتابه الذي نشر بعد وفاته بنصف قرن نفهم هذا العلاقة التي تصل بين النقدين النظري والعملي فتتضح العلاقة بين شرطي الأخلاق والعلم.

واساس فلسفة هيجل التي أثمرت “كلمنة” الفلسفة ورد فلسفة الدين إلى فلسفة التاريخ هو نقد النقد الكنطي بصوة مختلفة نقده عند هردر: هردر لم يخرج عن التجديد الكنطي إلا بما يوليه لدور اللسان في الفكر وبالحد من”تذويت” كنط للابستمولوجيا. لكن هيجل نفى ثورته نفسها بأن ذوت كل شيء.

والتذويت الهيجلي هو الذي جعل الفلسفة من بعده تصبح ذاتية بالجوهر. والتذويت الهيجلي رد على وحدة الوجود الطبعانية عند سبينوزا وعلى فصام النظر والعمل الذي يؤدي إليه تذويت الإبستمولوجيا الكنطي النافية لتجاوز العلم الفينومان إلى النومان. ومن دون التذويت الهيجلي لا يمكن “كلمنة” الفلسفة.

منذ فلسفة الدين الهيجلية المردودة إلى فلسفة التاريخ -تاريخ تكوينية الذاتية وتجاوز منطق الثالث المرفوع الأرسطي إلى المنطق الجدلي الذي يذوت الطبيعة نفسها بالانتقال من الوجود في ذاته إلى الوجود لذاته لتصبح مسارا روحيا ليس في وعي الإنسان فحسب بل في كينونتها وحدة للموضوعي والذاتي.

وفي الحقيقة فإن هيجل لم يبق شيئا لمارس ولفيور باخ لان التأويل المادي والروحي للتاريخ هما عنصرا الجدل الهيجلي وهو ما اعتبرته التذويت التام في رده على وحدة الوجود الطبعانية عند سبينوزا. وبداية من هنا صار مضمون فلسفة التاريخ هو عينه مضمون فلسفة الدين ولو سلبا كالحال في الماركسية.

ولو حذفت ما في فلسفة نيتشة من ردود على المسيحية لما بقي شيء منها: هي ثورة على المسيحية وهي من ثم جزء لا يتجزأ من فلسفة الدين المسيحية وإن بالسلب. ومثلها فلسفة هيدجر: في الحالتين لم يبق مدار الفلسفة متعلقا بالأبستمولوجيا كأساس أول بل هو متعلق بالاكسيولوجي كأساس أول.

اعتذر عن استعمال “كلمنة” أي جل الفلسفة علم كلام أما التذويت فمصطلح معروف في الفلسفة العربية وخاصة في التي لها ميل للتصوف وحتى وإن كانت دلالتها مختلفة لأنها كانت تعني جعله ذاتا أو موجودا عينيا وليس ذاتيا كما صارت تعني حاليا أي جعله من نوع الوجود المدرك بوصفه ذاتا قبالة موضوع.

ونظرا إلى أن البحث قد طال ولن يمكن من التطرق للمسألة الثانية المتعلقة بما يسمونه الاستقلال الفلسفي-وهي سخافة اخرى لا أفهمها إن لم يكن إبداعا يندرج في الفلسفة الكونية هو عمل فردي بالأساس ولا يمكن أن تتميز به فلسفة حضارة بعينها وإلا لصار ذلك الفرد مبدعا لفكرها كله أي عين السخف.

سأكتفي بالكلام في علم الكلام الجديد وأخصص الفصل الأخير من البحث في استراتيجية الرسالة الخاتمة لمسألة الاستقلال الفلسفي الذي يؤمن به صاحبه والفرحون بهذه الخرافة لبيان تنافيها مع الفلسفة أولا ومع الإسلام ثانيا وخاصة عندما يدعون أن الإسلام تنفرد حضارته بالأخلاق بقول مبتذل.

والذين يحاولون إثبات خصوصية فلسفية للإسلام بهذا المعنى الخلقي لم يفهموا بعد أن جوهر الفلسفة الهيجلية وتأويلات شباب الهيجلية بعد هيجل كلها بلا استثناء مدارها حول الاخلاق وتأسيسها بصلة مع نظرية الإنسان وفلسفة تاريخه المادي والروحي.

ووهم جدة علم الكلام ووهم الاستقلال الفلسفي بالأخلاق يعودان إلى وهم واحد نتج عن تجاهل وربما جهل علاقة الفلسفية بالدين في الخطاب الكلامي وعلاقة الفلسفة بالأخلاق منذ صار الموضوع الرئيس في الفكر الفلسفي الأكسيولوجيا مضمون التجربة التاريخية الروحية المادية وليس الابتسمولوجيا.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي