لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالرسالة الخاتمة
لما شرعت في تقديم ملاحظات حول موضة الكلام الجديد والاستقلال الفلسفي ظننت الفصل الرابع كافيا ليسعها. لكن الكلام على الكلام الجديد لم يبق لي ما يكفي من المساحة فيه للكلام على الاستقلال الفلسفي. لذلك أخصص هذا الفصل للاستقلال الفلسفي وسأضطر لفصل سادس لما كنت أنوي تخصيص الخامس له.
وأبدأ بملاحظة عامة ذات وجهين: الاستقلال الفلسفي بمعنى تمثيل إحدى الفلسفات بمفردها ثقافة أمة بالمقابلة مع غيرها من الأمم فيكون لكل أمة فلسفتها التي لا تشترك مع غيرها في الكلي الفلسفي هي في الحقيقة فكرة ما بعد حداثية تنفي الكلية وراء الثقافات المتعددة وتعتبر كل ثقافة سردية خاصة.
وطبعا هم يطبقون ذلك على الفلسفة وعلى الدين ويستنتجون منها أن العلم نفسه منتسب إلى بعض السرديات التي يتوهمون أنها هي الوحيدة التي أبدعته دون الأخرى. وكل ذلك ترجمات لفكرة سادت علم الاجتماع في بداياته وفلسفة التاريخ الهيجلية في شكل ما بعد حداثي.
وهو موقف شديد السطحية لعلتين:
وهي الأهم هي أن كل الحضارات سعت إلى إبداع أدوات المعرفة ببعيدها الفني والعملي بنفس الطريقة. ويمكن أن نسميها بالعلوم المساعدة لصوغ قوانين الطبيعة وما بعدها الإلهي والفنون الجمالية والخلقية للتعبير عن سنن التاريخ.
واستعمال الرمزين الأساسيين لكل حضارة للتبادل المادي والتواصل الرمزي أعني ما أطلقت عليه اسم رمز الفعل (العملة) للتبادل المادي أو ما يقبل العبارة الكمية وفعل الرمز (الكلمة) للتواصل الرمزي أو ما يقبل العبارة الكيفية. وطبعا فكلاهما متشاملان فالمعلومة بضاعة واكتشافها خدمة.
وأكثر من ذلك فالمعلومة التي تقال بفعل الرمز (الكلمة) تقيم اقتصاديا برمز الفعل (العملة) فأصبح الرمزي مادة للتبادل وليس مجرد أداة تواصل وأصبحت مادة التبادل أهم موضوعات التواصل. وهذه الحقائق كونية دون شك: فلا يوجد مجتمع بدون هذه الوظائف مهما اختلفت الثقافات وسردياتها المرجعية.
وفي الحقيقة فهذا الرمزان وإن كنت أول من صاغهما فلسفيا وأسس لهما في الاقتصاد وفي السيميوتكس فإنهما فكرتان مستوحاتان من القرآن بعبارة أجمل من عبارة الرمزية لأنها أكمل وأبرز للكلية: إنهما الكتاب وهو رمز الكلمة والميزان وهو رمز العملة الرمزين اللذين يدركهما اي إنسان.
صحيح أن المكاييل والموازين لها تعينات مختلفة بين الأمم ربما قبل أن تصبح شبه واحدة حتى ماديا بعد أن حددت بصورة تمكن من التبادل بين الشعوب المختلفة مثل المتر والكيلو إلخ.. من المقاييس والموازين. ويمكن أن نقول بهذا المعنى إن العلم والفن يمثلان هذه الكلية التي تجاوزت السرديات.
وهنا نصل إلى أول كذبة حول الخصوصيات الثقافية واستقلالها بعضها عن البعض في الإبداعات الفلسفية والدينية التي تعتبر ما بعدا للعلوم والفنون أو ما سميته بعدي المعرفة. فالتداول نوعان:
نوع يكون الوسيط فيه وموضعه الدلالة أو الاحالة إلى إدراك موضوع خارجي قابل للمعاينة التجريبية المكملة وهو التداول بين العلماء بالمعنى الحديث للكلمة حيث صار العلم يتألف من إبداع يسميه ابن تيمية بالمقدرات الذهنية من إدراك تجريبي مجهز لمعرفة خصائص موضوع خارجي تكون المقدرات الذهنية معين صوغها العلمي وهذا هو التداول القابل للحسم لوجود ما يحتكم إليه بالعيان.
وهذا التداول كما أسفلنا مداره الدلالة وفيه ثلاثة أطراف قابلة للإدراك “الموضوعي” إن أجزنا القول وقابلة للحسم.
لكن النوع الثاني لا يوجد بين طرفيه ما يحتكم إليه بصورة حاسمة. وهو بدوره مضاعف: إما تداول عام ليس له موضوع محدد لا في التقدير الذهني ولا في التجربة. أو هو من جنس علم الكلام الذي يدور حول الغيب المحجوب لأنه ليس من جنس التقدير الذهني ولا من جنس التجربة. وهذان النوعان يمكن القول إنهما ينتسبان إلى السرديات التي تنسب إلى ثقافة دون ثقافة. لكنها في الحقيقة لا تخلو من كلية: فحتى الأساطير والآداب يمكن أن نستخرج كليها.
ولو لم يكن ذلك ممكنا لامتنع أولا أن يكون للإنسان نفس القوانين البايولوجية وثانيا لاستحال درس هذه السرديات انثروبولوجيا دون الاقتصار على الخصوصي فيها بل بحثا عن الكلي فيها وهو موجود: فجميع الأساطير والآداب والفنون لها نفس البنى المقومة لكونها ما هي. وهذا هو الكلي المطلوب.
وزبدة القول إن التداولية سواء كانت حول خطاب حاسمه الغائي هو الدلالة أو خطاب حاسمه الغائي هو المعنى فإن النوعين شرطهما الكلية. وكلية الاول مردها إلى التسليم بالدلالة في التجربة الخارجية للعلم وكلية الثاني مردها التسليم بموضوع يحتكم إليه التسليم بالمعنى في التجربة الروحية للذوق.
والعلم والفن يتجاوزان الخصوصيات الثقافية ويمثلان الكلية الموضوعية أو الذاتية. فالأولى تفترض الموضوع الخارجي واحدا لجميع البشر واحتكامه إليه هو أساس كلية المعرفة العلمية البينة والثانية تفترض الذات واحدة لجميع البشر واحتكامها إليها هو أساس “كلية” بنى الفنون والأديان والفلسفات.
وإذن فالتداولية ليست مميزة في أي حضارة فهي بعد التواصل حول الدلالة والمعنى ومن ثم فهي شرط العلم والفن في كل الحضارات: ولكل من التداولين بين العلماء حول الدلالة وبين الفنانين حول المعنى بعدان آخران باعتبار الزمان: وهما متداخلان. التداول المتساوقة أطرافه والتداول المتوالية أطرافه.
والأول المتساوق يتضمن الثاني المتوالي. فأنا في هذه المحاولة اتداول من معاصري ممن اختلف معهم أو اتفق حول مفهوم التداول. لكن كلا منا أنا ومحاوري نتداول مع كل من تقدم علينا في تاريخ الفكر ممن نعلمهم حول نفس الإشكالية في المسائل الكونية التي هي مجال البحث العلمي والفني.
ومعنى ذلك أنه لا يمكن لأي شخص أن يفكر بالاقتصار على تراث أمته لأن تراثها إذا كانت الأمة قد بلغت الكونية فهو كوني بمعنى تضمن كل ما ينتسب العلم والفن قبله وحتى إذا كان التراث محليا ولم يتصل بغيره من التراثات فهو بمجرد صدوره عن الإنسان إنساني كوني حتما.
ذلك أن التراث مهما كان محليا فهو خطاب حول ما يطلبه الذوق من غايات وحول ما تقدمه المعرفة من أدوات. والغايات الذوقية ترد في مستواها العضوي إلى الغذاء والجنس وفي مستواها الرمزي إلى التعبير عنها وعما يترتب عليها من حاجات وحلول. وكلها كونية بالوظيفة وإن اختلف بالعضو.
اخترت مدخل التداولية لدحض اساس الخصوصية ومن ثم لدحض الكلام على الاستقلال الفلسفي. الإبداع العلمي والفني له نفس المقومات في كل الثقافات. والاختلاف بينها من جنس الاختلاف في البايولوجيا بين العضو والوظيفة. أعضاء الحيوانات حتى من نفس النوع مختلفة لكن الوظائف واحدة.
فنحن نميز في البايولوجيا بين موضوع علم التشريح Anatomie وموضوع علم وظائف الأعضاء Physiologie. وهذا ينطبق على مبدعات الفكر الإنساني. فما يمكن أن يكون خصوصيا هو الأعضاء التي قد تختلف كالحال بين اللغات لكن الوظائف واحدة ولها نفس القوانين الكلية في جميع الحضارات. ولا ترد إلى سرديات.
لا أريد أن أعين أكثر مما فعلت حتى لا يظن بي التعريض بأحياء يقولون بهذين الخرافتين: الاستقلال الفلسفي للحضارة الإسلامية ليس بالتداولية ولا بالأخلاق. فليس فيهما ما هو خصوصي إلا العبارة الأيديولوجية عنهما بوعي ثقافة مأزومة ومهزومة من جنس المباهاة بما لا معنى له اثباتا للذات.