لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الرسالة الخاتمة
نعود إلى الكلام على الرسالة الخاتمة: هل تحديد بنيتها الاستراتيجية بما يتناسب مع المعادلة الوجودية (الله والإنسان قطبان وبينهما وسيطان الطبيعة والتاريخ وفي القلب منها التبادل والتواصل بين القطبين مباشرة وبتوسطهما) مع شروط تحقيق الاستراتيجية يعني أنها مقصورة على ذلك؟
طبعا منطلق البحث هو أن النهي عن محاولة تأويل المتشابه يعني أنه متعلق بالغيب لأن ما ينهى عن تأويله هو المحجوب فيتحد المتشابه مع الغيب بالمحجوبية. والرسوخ في العلم هو الإيمان بالغيب دون الطمع في انكشافه قبل أن يصبح البصر حديدا أي بعد البعث. هذه عقيدة وليست علما.
لذلك فكل قول في العقائد يدعي صوغا يحتاج إليه صوغه القرآني يعني أن صاحبها يدعي قدرة تفوق ما ورد في القرآن إلا إذا كان القصد تعليم ما ورد فيه دون زيادة أو نقصان: إنه تعليم لقراءة القرآن لجعله قادرا على فهمه مثلما يجعل معلم الرياضات فكر المتعلم قادرا على فهم عبارتها وتدبرها.
ودور المعلم مساعدة المتعلم على فهم المضمون العلمي لا يحقق الهدف إلا إذا صار المتعلم قادرا على التفكير الرياضي الذي لا يمكن أن يكون المعلم فيه بديلا من المتعلم. وقياسا عليه فإن التفكير الديني لا يمكن للمعلم أن يكون فيه بديلا من المتعلم فيصوغ له العقائد بديلا منه ومن نصها القرآني.
العلاقة المباشرة بين موضوع الفكر والفكر الذاتي لا بديل عنها وهي بعدد الأفراد: مثلما أن ما يحس به أي فرد لا يمكن أن يشاركه غيره فيه أو أن يكون بديلا منه فكذلك فهمه لأي علم أو لأي عقيدة. الفهوم بعدد الأنفس. والمشترك بين الفاهمين هو الموضوع ذاته ووحدة الإحالة إليه هي وحدة مدركاته.
وكل صائغ للعقائد يتحول بالأساس إلى وسيط بين العقيدة والمعتقد. والمعتقدون بعدد الأنفس والعقيدة ليست واحدة إلا في نصها الأصلي وليس في الصيغ المنسوبة إلى أصحاب المذاهب الكلامية. ونفس الامر يقال عن العلوم فهي لا تتحد إلا في المرجعية الموضوعية أو فيما حصل حوله الإجماع كمعلوم المشترك.
وهنا نجد الوصل بين نص العقيدة المعتمد (أي ما ورد في القرآن) والفهوم التي هي بعدد الأنفس: وهذا هو الوصل المباشر بين الرسالة وضمائر المؤمنين بها. إنها من جنس الموضوع المحال عليه في أي علم من العلوم. العلاقة بين تعدد الفهوم ووحدة الموضوع ليس صيغ المذهب بل وحدة التدبر العقدي.
ووحدة التدبر العقدي ليست في حصيلة التدبر لأنها بعدد الأنفس بل طبيعة التوجه إلى العقيدة أو المنظور إليها وهو عين التدين. فتكون في أوعاء المتدبرين من جنس الطبيعة في أوعاء الساعين لعلمها. فهم يشتركون في التوجه إليها وفيما به يتحدد التوجه بوصفها توجها عقديا إيمانيا وليس علميا.
وبهذا المعيار يمكنني تحديد مجالات الخطاب القرآني التي هي غير ما وصفنا في كلامنا على استراتيجيته التي تتأسس على شروط تحقيق الإنسان لمقومي مهمته التي كلف بها أو الامانة التي تحملها ظالما لنفسه: الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف: وهي تتعلق بهذا التدبر وخصائص المتدبرين بدءا بالرسول.
والمتدبرون يمكن وصفهم بصورة تفهمنا القصد استراتيجية تحقيق الرسالة في التاريخ الفعلي ببعدي السياسة: أي بالتربية والحكم. ويمكن أن ندرك ذلك بمفهومين يبدوان متقابلين: كيف نجعل الفرد وكأنه الامة وكيف نجعل الامة وكأنها الفرد المنتسب إليها. والقرآن استعملهما المفهومين بالمعنيين.
وهو قد استعملهما في نقده للتجارب السابقة بوصفها لم تحققهما واستعملهما في البديل الذي يصحح بمنطق التصديق والهيمنة تلك التجارب لبيسا شروط تحقيقهما: مثال ذلك اعتبار ابراهيم أمة بمعنى أنه يمثل باستيعابه للاستراتيجية القرآنية والتمحض لخدمتها عين ما هو ضروري للامة.
والقرآن اعتبر وحدة الامة كوحدة الكائن الفردي جسدا حيا واحدا إذا تألم أحد أعضائه تألم معه الجسد كله: إذن ما في القرآن من إضافي لما وصفها في الفصل الأول ابستمولوجيا هو ما فيه من اكسيولوجي في التربية والحكم يجعلهما محققين لهذين الهدفين: جعل كل فرد كأنه الامة والأمة كأنها فرد.
وهذه الأهداف الأربعة وأصلها هي:
الرسل
الصديقون
الأتقياء
والأصل هو الأمة النموذجية أي الأمة التي يمكن أن تكون خير أمة اخرجت للناس (أمة محمد).