لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالرسالة الخاتمة
نعالج في الفصل الثالث المسألة المركزية في استراتيجية الرسالة الخاتمة وأساسيها. رأينا أبستمولوجية القرآن (الإبداع المعرفي للدلالة الأداتية بمستوييها في أعيانها ورموزها علميا وفنيا) ورأينا أكسيولوجية القرآن (الإبداع الذوقي للقيمة الغائية غذائيا وجنسيا بمستوييهما في اعيانها ورموزها).
فالرؤية القرآنية لنظرية الدلالات المعرفة العلمية والفنية باعتبارها أدوات تحقيق مقومي الإنسان اللذين يحدد قيمهما بنظرية القيم الذوقية الغذائية والجنسية باعتبارها غايات يطلبها الإنسان فردا وجماعة في استعماره للأرض واستخلافه عليها تؤسسان مقومات فلسفة الدين وفلسفة التاريخ القرآنيتين.
وعند التدقيق يمكن رد فلسفة القيم إلى عاملين بايولوجيين (الغذاء والجنس بوجودهما العضوي وبوجودهما الرمزي المعبر عنهما) ورد فلسفة الدلالات إلى عاملين رمزيين (الرموز العلمية والرموز الفنية التي هي أدوات التبادل والتواصل بين البشر في عالم التاريخ ثم بينهم وبين عالم الطبيعة ومابعدهما.
فيتعلق الامر بأساس عضوي فعلي ورمزي وبأساس روحي فعلي ورمزي بحيث إن العلاقة هي بين البايولوجي (العضوي) والسيميوتيكي (الوسمي) بعدي كيان الإنسان في علاقة مع التاريخ وما بعده وفي علاقته مع الطبيعة (أي ما يحاول الإنسان ردهما إليه): فيغلب على التاريخ الوسميات ويغلب على الطبيعة العضويات.
وما ينبغي فهمه أن هذه الحبكة القرآنية ليس لها مثيل في فلسفات الطبيعة وفلسفات التاريخ وما بعدهما الديني مجال بحث وفي الابستمولوجيا والاكسيولوجيا في القول المتعلق بهما وبما بعدهما كليهما. وينبغي أن أشرح القصد بأبعاد الأبستمولوجيا والاكسيولوجيا القرآنيتين لفهم فلسفتي التاريخ والدين.
الابستمولوجيا القرآنية شرحنا آلياتها وموضوعاتها ومناهجها. لكن لم نعلل تعلقها بآليات الأبداع المعرفي عامة سواء كان علميا أو فنيا. ما قد يرفضه من يقصر الابستمولوجيا على العلم علته أنه يتصور الإبداع العلمي ليس قدرة فنية ويتصور الإبداع الفني ليس قدرة معرفية. وهو ما يقتضي التوضيح.
فقد بينا أن علم الموجودات الخارجية مستحيل من دون ابداع موجودات ليست خارجية بل هي تقديرات ذهنية تبدع موضوعها وعلمه. فالرياضيات مثلا تبدع الحدود الأولية والقوانين التي تطبقها عليها لتنتج النظرية التي تستنتج منها منطقيا باستعمال تلك القوانين أو القواعد في تواليف الحدود الأولية.
ومعنى ذلك أن كل المقدرات الذهنية من جنس اللغة الصناعية لموضوع هي التي “خلقته” من عدم للتعامل معه وكأنه موضوع خارجي مقتصرة على ما وضعته فيه بالحدود الأولية وما نتج عن تواليفها بالقواعد التي تسلمتها باحترام قواعد المنطق الذي اختارته. وهي إذن نظريات أكسيومية.
والغريب حقا هو أنها تحاكي مكونات اللغة الطبيعية: ففيها عناصر اولية مثل الحروف لتكوين الكلمات ثم تكوين الجمل بالكلمات المؤلفة من الحروف ويسمى التكوينان بالتقطيعين اللسانيين. والملاحظ أن اللغات الطبيعية حروفها محدودة لا تتعدى الثلاثين حرفا وكلماتها يمكن أن تكون بتواليها وهي محدودة.
والمعلوم أن الخليل قد اعتمد على تواليف الثمانية والعشرين حرفا لتصنيف معجمه اللغوي حصرا لكل الكلمات الممكنة في العربية المستعمل منها المهمل مما مات أو مما لم يستعمل بعد. الرياضي يعمل تقريبا نفس العملية ولكن في لغة صناعية ليست ذات موضوع مستقل عن إبداعه لكن ما يكتشفه به مستقل تماما عن إرادته.
ومعنى ذلك أن اللغة الصناعية في التقديرات الذهنية لا تبقى خاضعة لإرادة صاحبها كالحال في وضع الحدود البسيطة وقواعد توليها بل إن ذلك يؤدي إلى نشأة موضوع شبه مستقل عن إرادته لأنه سيكون كل ما يترتب على توليف عناصر مؤلفة من الحدود الاولية باحترام التناسق المنطقي.
ومن دون هذه المقدرات الذهنية يمتنع على الإنسان أن يعلم شيئا من الموجودات الخارجية. لأن علمها لا يكون إلا بنظام ما للمعطيات التجريبية التي يكتشفها في ضوء قياسها مجريات الموضوع الخارجي على مجريات النموذج الذي اختير من المبدعات الذهنية بملء متغيراتها بقيم هي معطيات التجربة.
وبذلك يتبين أن المقدرات الذهنية العلمية-الرياضيات-لا تختلف إلا بمنطقها عن المقدرات الذهنية الفنية -أي فن كالموسيقى -التي لها منطق عملي أثرى وأوسع من المنطق النظري. والعملي يتعلق بأفعال ذوق الإنسان في ذاته وفي الوجود والنظري يتعلق بأفعال الإنسان عقل الإنسان في ذاته وفي الوجود.
والإبداع النظري للعلوم مضاعف ومثله الإبداع العملي للفنون. فالإبداع العملي للفنون قيمه جمالية وخلقية. والإبداع النظري للعلوم دلالاته رياضية في علوم الطبيعة واجتماعية في علوم التاريخ (ابن خلدون). فيكون الجمالي قريبا من النظري والخلقي قريبا من الاجتماعي. وهذا هو نسيج خطاب القرآن.
وذلك يصح على خطابه الذي مداره الله بفعليه الأساسيين اللذين هما مقومي ذاته في علاقته بالموجودات (الخلق والامر) أو خطابه الذي مداره الإنسان بفعليه اللذين هما مقومي ذاته في بعدي تكليفه من الخالق الآمر (التعمير والاستخلاف) في الوجودين الدنيوي والأخروي.
وكون الإنسان في هذه الرؤية خليفة فهو يتمتع بشيء من صفات الله: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود ولكن بوصفها شديدة النسبية إذا قيست بنفس الصفات عند الله التي هي مطلقة بلا حد. ومثلما أن هذه الصفات أي منها يتضمن البقية عند الله فكذلك عند الإنسان.
ومعنى ذلك أنها كلها تشترك في كونها تمظهرات الحرية والمسؤولية أو الأمانة والتكليف بلغة القرآن. فتكون الحرية والامانة عند الله مطلقة ومن ثم فهي في رؤية القرآن خلق وأمر أو قضاء وقدر. وهي عند الإنسان إبداع نظري وإبداع عملي محدود لكنه كاف لفهم علاقاته بالطبيعة والتاريخ وما بعدهما.
وهذا الوصف للعلاقة بين الإنسان والله لا يختلف فيها مؤمن وملحد. كلاهما يقول بها لكن المؤمن يقول بها ويعتبر الله خالق الإنسان والملحد يقول بها ويعتبر الإنسان خالق الله بوصفه مجرد صورة مثالية من ذاته إذ يطلقها. ومعنى ذلك أن المعادلة الوجودية كونية لكنها تفهم إيجابا وسلبا.
ولعل تفرع مدرسة هيجل بالقياس إلى فلسفة هيجل لا يمثلان إلا نوعي الإلحاد: اعتبار الإنسان هو الذي خلق الله صورة مثالية منه أو اعتبار الإنسان خلقه ليسكت بالدين من ينتظرون الخلاص من الظلم والقهر والاستغلال يوم الدين وكل ذلك أفيون شعوب. والفرع الثاني متحرر من هيجل: كيركوجارد مثلا.
والمقابلة بين يمين هيجل ويساره هي مقابلة بين نوعين من الإلحاد بداية وغاية صار يرمز إليها بالمقابلة بين فيورباخ وماركس لكن النتيجة واحدة لأنهما يتفقان على صورة مثالية خلقها الإنسان بعكس معتقد المؤمنين الذين يتصورون الله خلق الإنسان على صورته. وكلتا النظريتين لا يقبلها مؤمن صادق.
ذلك أن العلاقة بين النسبي والمطلق لا يمكن أن تجعل الأول أصلا للثاني وأن تجعل الثاني يكون شبيهه بعيوب الإنسان حتى في حكم الإنسان نفسه. لذلك فسر ابن تيمية بصورة أكثر احتراما لقوانين العربية عبارة “خلق الله الإنسان على صورته”. فعودة الضمير إلى الاقرب لا إلى الابعد: صورة الإنسان لا الله.
وصورة الإنسان في القرآن هي كائن مكلف ومأمور وليس كائنا آمرا. وإرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده كلها شديدة النسبية ولا يمكن أن يكون صاحبها على صورة موجود مطلق. ثم إن القرآن يصف الأشياء بما لا يحصى من الصفات التي لا تليق بصورة خالقه: وهو يرد أسفل سافلين بالتأله المزعوم.