لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالرسالة الخاتمة
ما أكتبه في المحاولات المتعلقة بشروط الاستئناف عينته بأن ضمنت فيه مضمونا معينا هو استئناف الحضارة العربية الإسلامية. لكن التعيين تال وليس مقدما فيها جميعا. وهو من جنس التعيين في عمل ابن خلدون. فالمقدمة تستند إلى نظرية خالصة قابلة للصوغ بمتغيرات لكنه عينها فعين المتغيرات.
ولو لم تكن كذلك لصدق على المقدمة ما ظنه المرحوم عبد الرحمن بدوي مصدرا لها معتبرها استقراء خالصا اعتمد فيه ابن خلدون أعيان أمثلته التي كانت أمثلة للتفهيم فتوهمها أعيانا استقرأ منها ابن خلدون نظرياته. وغفلته تغافل على أن كل عمارة المقدمة مبينة على المعادلة الوجودية.
فهي مبنية عن نظرية علاقة قطبيها وتحديد مفهومهما. فالأول هو المستخلف (الله) والثاني هو الخليفة (الإنسان) واعتبار هذه العلاقة أساسا لتفاعل وتواصل مباشرين في كيان الإنسان وفي الرسالة وذلك هو الديني المتعالي على التاريخ وغير مباشرين بذوق الوسيطين الطبيعي والتاريخي بينهما ومعرفتهما.
كل ما أحاوله هو من هذا الجنس: يمكن أن نزيل كل الأمثلة المتعلقة بالأعيان ولا نبقي إلا المتغيرات التي كانت الأمثلة العينية قيما تملأ خاناتها الخالية. وتلك العلة مثلا في تسمية هذه النظرية معادلة وجودية: فأسماء الله والإنسان والطبيعة والتاريخ والتواصلين متغيرات عامة.
وهي تتعين بأن نضع بدل الأسماء مسميات هي أعيان تاريخية منها في تصورات الأمم لعناصر هذه المعادلة التي لا تخلو منها حضارة. ومعنى ذلك أن كل تصورات الله وتصورات الإنسان وتصورات الطبيعة وتصورات التاريخ وتصورات التبادل والتواصل هي أعيان ماصدقية للتصورات إذا اعتبرناها مفهومية.
فلو وضعت “س” محل الله و”ص” محل الإنسان و”ط” محل طبيعة و”ت” محل تاريخ واعتبرت القوانين الواصلة بين هذه العناصر هي قوانين “ذ” محل ذوق بعينه أو برمزه و”م” محل معرفة علمية أو فنية هما حقيقة التواصل بين القط س وص ولتم وصف كل حضارة بصوغ مجرد أسست عليه البحث في شروط الاستئناف لأي حضارة.
وما أحاوله مدخل لشرح مسألة ابستمولوجية شديدة الدقة. بينا أن المعرفة نوعان كلاهما إبداع رمزي لمقدرات ذهنية تستعمل أدوات لصوغ نماذج تمكن بتطبيقاتها من تأسيس المعرفة العلمية والفنية للموجود في الأعيان. وهذه المعرفة العلمية والفنية ذات وجود خارجي يمكن للتقدير الذهني أن يستوحيه.
ذلك أن الإنسان مبدع بدافع ذوقي لكنه ليس مبدعا عن عدم لأدوات تحقيق غايات الذوق: فهو ليس ربا حتى يكون ابداعه عن عدم بـ”كن” بل هو إبداع ينطلق من موجود خارجي وهو ليس الطبيعة والتاريخ بل هو ما حصل من تطبيق لإبداع رمزي نجح قياسه لتقديرات ذهنه على ما تحقق من علم خارجي.
وهو القصد بأن الإبداع العلمي والإبداع الفني تقديرات ذهنية تمتحن بثمرات تطبيقاتها في العلوم الخارجية عندما ستعمل كأدوات علمية وفنية رغم أنها بحد ذاتها غنية عن ذلك ما ظل كلامها متعلقا بمتغيرات المعيار الوحيد في اختبارها علميتها التقديرية هو المنطق والتناسق بين عناصرها الأكسيومية.
والمعيار التجريبي لمعرفة الوجود الخارجي علميا وفنيا ينبني على تناظر بين عناصر الموجود الخارجي والبنية التقديرية المؤلفة من عناصر فتكون العلاقة ديوغرامية كما في الفن المحاكي وفي العلم التجريبي. والمنطق كاف لبناء المقدرات الذهنية لكن معرفة الموجود الخارجي يحتاج لتجربة علمية أو فنية.
ومثلما أن المعرفة الفنية نوعان: محاكية ومبدعة على غير مثال فإن المعرفة العلمية محاكية ومبدعة على غير مثال أو بصورة أدق هما تبدعان المثال الذي بالانطلاق منه يمكن بناء علم بالموجود الخارجي أو رسمه مثلا في الفن. وفي هذه الحالة لن يكون الرسم أو العلم لظاهره بل لقوانينه.
ذلك قلت إن ابن خلدون لم ينطلق من محاكاة “ما يسمونه الواقع” وإلا لكان لقام بذلك مؤرخ قبله. هو أبدع مقدرات ذهنية صاغها مفهوميا ومثل لها بأمثلة من الحضارة الإسلامية ومما تقدم عليها وعاصرها للتثبت في الفاعلية التفسيرية لتكوينية مقومات أي حضارة بوصفها علاقة بين الطبيعي والثقافي.
وهذا عين ما أفعله الآن في دراسة شروط استئناف حضارة انحطت مستعملا مبدعات ذهنية أو مقدرات ذهنية لم تخطر على بال ابن خلدون لصوغها نظريا لأنها كانت في عمله أشبه باللاوعي في اعمال الأنسان: استعملها بعضها والكثير منها دون أن يؤسسها نظريا. والدليل كثرة ورود عمله في محاولاتي.
لذلك اعتبرت منهج الكلام المعتمد على قيس الغائب على الشاهد دليل على أنه من جنس الرسم المحاكي وهو إذن ليس علما لأنه لا يبدع مقدرات ذهنية للمعلوم بل يخرف حول ما ليس قابلا للعلم أصلا: الغيب لا يعلم وما يعلم من الشاهد يعلم بقلب العلاقة إذ نقيس شاهد تجربة الموجود على غائب تقدير الإبداع.
لذلك فلا بد من علم مقدرات ذهنية سابق على علم الموجود الخارجي ولا بد من فن مقدرات ذهنية سابق على فن الموجود الخارجي. فالهندسة شرط الرسم وهي لا تدرس موجودا خارجيا بدليل قابلية المكان الطبيعي أن تدرس بناه ليس بهندسة اقليدس وحدها بل بأصناف الهندسات اللااقليدية.
وكل من يستنتج من شبه التطابق بين هندسة اقليدس والفيزياء التقليدية أن تلك استقرئت من هذه لا يختلف عن رأيه عن رأي عبد الرحمن بدوي في مقدمة ابن خلدون. مقدمة ابن خلدون لم تستقرأ من المغرب العربي “المتخلف” بمنظور بدوي على مصر التي يعتبرها متقدمة على المغرب.
قد تكون مصر متقدمة على المغرب في عصر ابن خلدون بل إن ابن خلدون نفسه لا ينفي ذلك لكنها متقدمة فيما يسميه ترفا وليس فيما نحن بصدد الكلام عليه. وقد ضرب أمثلة من تقدم مصر حينها فذكر مثلا “إرقاص” القردة في الأسواق. وأظن أن حكامها من جنس السيسي حكموا عليها ألا تتجاوز هذه المرحلة.
وكاد ارسطو أن يصل إلى هذه العلاقة في المعرفة بنوعيها أي بين المقدرات الذهنية التي تبدع موضوعها وعلمه في المعرفة العلمية ومرموزها ورمزه في المعرفة الفنية. لكن ما حال دون الوصول إلى غاية دلالة هذه العلاقة هو قوله بنظرية المعرفة المطابقة فتصور العلم يتأسس على التجريد من المحسوس.
واعتبر المجردات كليات ذات وجود فعلي هو الصورة التي توحد في مادة الموجودات العينية. واعتبر من دون ذلك من مدركات حسية بالتراكم لا تتجاوز التقنيات الخبروية وليست علما (راجع مقالة الالف الكبرى من الميتافيزيقا والتحليلات الثواني من المنطق). لكن الأديان عامة والإسلام خاصة رفضت المطابقة.
لذلك وبصرف النظر عن الإيمان بالوحي أو عدم الإيمان به فكل محاولات رد المنقول إلى المعقول لم يكن إلا دليل سذاجة معرفية والغريب أن حداثيي العرب ما زالوا يتكلمون على عقلانية المعتزلة وعلمية أقوال الفلاسفة والمتكلمين وهي كلها مبينة على نظرية معرفة مستحيلة عقلا.
فحتى لو فرضنا أن الأديان أساطير أولين فإنها أدركت أن الإبداع الأسطوري والفني والعلمي في منظومات رمزية هي مقدرات ذهنية متقدم على كل علم ممكن للوجود الخارجي لأنه شرط التقنين الرياضي والفني لإدراك التجربة العلمية والفنية: علم الموجود وفنه يشبهان الخلق بكن مع فرق الاحتكام للتجربة.
وهكذا فقد أدركنا طبيعة الدوافع التي هي القيم الذوقية وأدوات تحقيق مطالب الذوق التي هي الإبداع المعرفي ببعديه المؤسس للعلوم والمؤسس للفنون في مستوى التقدير الذهني الشارط لوضع قوانين الموجودات الخارجية بفضل التناظر الممكن بينها وبين معطيات التجربة القصدية.
في الرؤية القرآنية ينطبق هذا النموذج على علاقة الخالق بوصفه مبدعا للموجودات ومشرعا لها بصورة مطلقة وأعطي الخليفة بتعليمه الأسماء بعد النفخ من روحه فيه قدرة تبدع للفنون والعلوم في مستوى التقدير الذهني (علمه البيان بالرموز والأسماء) ويطبقها على التجربة ليشرع لما يدركه من الوجود.
إنها بنية خطاب الرسالة الخاتمة ومدارها تمكين الإنسان من استراتيجية تأهيل الإنسان لتحقيق الأمانة أو مهمتيه اللتين كلف بهما واللتين هما عين كيانه (تعمير الأرض بقيم الاستخلاف) وذلك بالسياسة في بعديها تربية وحكما بما له القدرة على ابداعه معرفيا بالمعنيين استجابة للفطرة أو الذوق.