لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالربيع
مشروع للتحرر واستكمال التحرير
ما يحيرني دائما ولم أجد له فهما يقبله العقل في سياسة العرب هو أنهم قضوا نصف القرن الماضي منقسمين بين توابع لأحد القطبين الأمريكي والسوفياتي وبدأوا القرن الحالي بنفس الانقسام والتبعية لذيليهما أعني إسرائيل وإيران إذ كما نرى فإن هذين تسندهما أمريكا وروسيا.
وفضل الربيع العربي أنه بين العلة العميقة لهذا الانقسام التي يمكن وصفها بكونها “حربا أهلية” ذات أصلين أحدهما يبدو اختياريا وهو القبول بجغرافية الاستعمار وتبني الدولة القطرية دون القومية ودون الإسلامية والثاني يبدو اضطراريا بسبب ما نتج عن هذه الجغرافيا التي جعلتهم في محميات بلا سيادة.
وكونهم في “حرب أهلية” بمعنيين في كل قطر ثم بين الأقطار العربية يعني أن ما بينهم ليس مجرد خلافات أجوار جغرافيا-وهذا يحصل بينهم ولا يسميها أهلية-بل إن التاريخ ما يزال له دور وهو الذي يطبع هذا الانقسام والاصطفاف بكونهما نتيجة لحرب أهلية حدد الربيع أعماقها وفضح الصفين.
فماذا فضح الربيع العربي؟
أول شيء هو بين أن مناط الاصطفاف كان كاذبا. فكلاهما كان يدعي تمثيل مشروع للعرب أحدهما يدعيه قوميا (الأنظمة العسكرية بزعامة مصر) والثاني يدعيه إسلاميا (الأنظمة القبلية بزعامة السعودية). وتبين انهم أعداء القومية والإسلام وعملاء لمن يحاربهما في الداخل والخارج.
فتبين أن العرب بصفيهم ليس لهم مشروع فضلا عن المشروع الواحد. هذا فيما يتعلق بالحرب الاهلية بين الأنظمة ولنقل في الجامعة العربية. والحرب الأهلية في كل قطر عربي- وهي كانت باردة وبدأت تسخن-مصدرها هتان الكذبتان: القومية التي التعدد القومي والإسلام الذي ينفي التعدد المذهبي والديني.
وما يبعث على الحيرة أكثر هو أنك تجد اليوم من يعلل الحلف مع إسرائيل باسم مقاومة إيران ومن يعلل الحلف مع إيران باسم مقاومة إسرائيل لكنهما متفقان على التحالف ضد المشروع الذي كان يمكن أن يوحد العرب: الخروج من الاستثناء الذي يجعل كل العرب تحت الاستبداد والفساد داخليا ومحميات خارجيا.
وأغرب ما في الأمر تبادل التهم بينهم بخصوص التطبيع مع إسرائيل. لكن من يعلم الدواخل يعلم أنه لا يوجد نظام عربي واحد ليس مطبعا مع إسرائيل بمن في ذلك أكثر زعماء العرب عنترية أعني المرحوم القذافي. فما من سياسي عربي في الحكم أو في المعارضة لم يطلب وساطة إسرائيل لنيل رضا أمريكا.
ولست بحاجة للإتيان بالأدلة: فاليوم لم يعد شيء قابلا للإخفاء. والتردد على السفارات داخليا ومغازلة اللوبيات في أمريكا أو في أوروبا لا يمكن اخفاؤهما على أنظار الصحافة بل إن العدو نفسه يعلن عنها كلما اراد أحراج أحد عملائه لطلب المزيد من التنازلات تهديدا له باستبداله بمن هو أكثر ولاء.
لذلك فالربيع أجبرهم على الإعلان الصريح على هذا التطبيع. وهو بات مضاعفا: التطبيع مع إسرائيل التي تحتل فلسطين والتطبيع مع إيران التي تحتل الهلال كله واليمن وتستعد لضم الضفة الغربية من الخليج وإن بدهاء لا يخفى على من يعتمل حاليا في الخليج بسبب غباء المراهقين من ساسته.
ولهذه العلة فالتنافس على الحكم في بلاد العرب ليس تنافسا لنيل رضا الشعب بالتمثيل الحقيقي لإرادته بل هو تنافس لنيل رضا الحامي بالتمثيل الذي يطلبه لحماية مصالحه مقابل حماية من يحكم وترك الحبل على الغارب في الاستبداد بالشعب والوطن والفساد وملء خزائن بنوك سويسرا وملاهي الغرب.
ولست أغالي في شيء: يكفي أن تنظر فيما تبين من سرقات بعد سقوط النظام في تونس ومصر وليبيا واليمن وهي ليست أغنى بلاد العرب. فينبغي أن تضرب كل ذلك في أكثر من عشرة لبلاد العرب الغنية سواء كانت مغربية أو مشرقية وخليجية: كل بلاد البترول خاصة.
وأذكر أني في شبه مهمة رسمية قلت لأحد المستشارين في السعودية إن مشروعا من جنس مشروع مارشال يمكن أن يجعل الربيع العربي رحمة للجميع فيتم الإصلاح سلميا ويتحقق التكامل العربي الذي هو آت لا ريب فيه سلما أو حربا لأن الربيع لن ينجح ما لم يعم العرب بل والاقليم كله.
ولما كان الربيع العربي ثورة شعبية نابعة من القاعدة الاجتماعية والثقافية لبلاد العرب -أي الجمع بين قيم الإسلام الروحية وقيم الحداثة المادية شرطي حرية الإنسان وكرامته-فهو سينجح حتما مهما اعترضته مقاومة الانظمة القبلية والعسكرية. والحرب الاهلية كلفتها ألف مرة كلفة الإصلاح السلمي.
ولم نكن نعلم حينها علم اليقين أن من شجع الانقلاب في مصر وموله هو الملك عبد الله أي السعودية والإمارات. ظنوا أن من نجح مرة في فجر الربيع (الجزائر في تسعينات القرن الماضي) يمكن أن يتكرر في الربيع وقد صار فاعلا حتى في الخليج لأن عقلية شبابه تغيرت ولم يعد أحد يقبل العبودية والتبعية.
وهم يتوهمون الآن أن سوريا درس للشعوب حتى تتخلص من الربيع. لكن الحقيقة هي عكس ذلك تماما: فهي درس لهم بأن الشعوب إذا ثارت لن تنهزم حتى لو اجتمعت ضدها كل مليشيات إيران وإيران وبوتين وهم من خلفهم لأن الثورة فيها صمدت وهي تستعيد عنفوانها وأعداؤها هم الذين سيهزمون حتما.
والدليل استمده منهم هم: فاضطرارهم للحلف الصريح مع إسرائيل وغير الصريح مع إيران علته أنهم فهموا أن الربيع ربح القلوب والعقول وأنه لم يهزم عسكريا ولن يهزم. الثورة المضادة فهمت ذلك وتحاول أن تعطل الربيع لكنها ستخسر كل ثروتها في حروب عبثية وسيكون ذلك أكثر دفعا لشعوبها حتى تثور عليهم.
وما بدأنا نراه في إيران آت لا محالة للسعودية الإمارات ومصر فيكون الربيع العربي الذي رفض ليكون قاعدة الإصلاح السلمي هو المشروع العربي الذي سيقضي على الاستبداد والفساد بلعبة تشبه منطق الجودو: هم الذين سيهدمون أنفسهم بحروب عبثية فيما بينهم ولن تنجيهم لا إيران ولا إسرائيل.
ذلك أن إيران وإسرائيل لهما نفس المشروع: إيران تريد استرداد امبراطورية فارس انتقاما من العرب الذين أسقطوها وإسرائيل تريد استردادا امبراطورية دواد انتقاما من الإسلام الذي أنهى كل إمكانية لقيامهم المؤثر في دار الإسلام. لكن النخب العربية أقل نخب العالم اعتبارا بالتاريخ.
ومثلما أن الثورة المضادة وحدت مسرح الصراع باتحادها ضد مشروع التحرر الذي يستوجب استكمال التحرير فإن الثورة أيضا ستوحده لتفهم أنه لا يمكن تحقيق هذين الهدفين من دون فهم سر الضعف العربي وسر قوة أعدائهم: الأحياز الخمسة التي قدت بصورة تحول دون شروط السيادة حماية ورعاية.
وحينها سيفهم الربيع العربي ما فهمته أوروبا: في عصر العماليق لا يكون سيدا إلا من وفر شروط الحجم الممكن من البقاء في التنافس الدولي ماديا ورمزيا. فخرجوا من الحروب الاهلية التي فتتت شعوب الضفة الشمالية من البحر المتوسط منذ القرون الوسطى إلى سقوط امبراطوريات أوروبا في الحرب الثانية.
فاستعادوا وحدة أسمى من القطريات دون نفيها فأصبح لهم الحجم الكافي ليكونوا أندادا مع من أفقدهم مستعمراتهم وردهم إلى مستعمرات تقاسمها القطبان بعد الحرب الثانية. وتلك هي حالنا الآن: تقاسمنا القطبان في القرن الماضي ثم ذيلاهما وذراعاهما الآن.
ولا أحد يمكن أن يقنعني مثلا بأن ما بين المغرب والجزائر يقاس بما بين فرنسا وألمانيا طيلة قرون من الحروب بينها حربان عالميتان. فإذا تمكن الالمان والفرنسيون من الصلح لتحقيق شروط السيادة فلست أفهم عدم التصالح بينهما لتحقيق السيادة بدل العنتريات الكاذبة ضد بعضهما البعض.
وقس على مثال الجزائر والمغرب كل الخلافات بين الاقطار العربية وفيها وكلها تقبل العلاج السلمي إذا كان للقيادات والنخب الرشد الكافي لتجاوز الأنانيات والعمالة للأعداء الذين يحرضون العرب وغيرهم من القوميات التي هي أهل هذا الاقليم من أكراد وأمازيغ وهلم جرا ليبقوهم توابع حماية ورعاية.
الضفة الجنوبية من الأبيض المتوسط التي هي ملتقى القارات الثلاث القديمة هي إقليمنا المتحد ثقافيا وروحيا ينبغي أن يحرر جغرافيتها السياسية من التفتت لاسترداد قوته المادية وتاريخه من التشتت الإيديولوجي لاسترداد قوته الإبداعية وشرط الشرطين الجمع بين ثورة التحرر واستكمال التحرير: الربيع.